مسؤولية العلماء في حماية الدين.. والإكراه السياسي
بقلم إبراهيم الطالب
كثيرة هي الأجيال التي تعيش اليوم بين ظهرانينا لا تعرف تاريخ بلادها الأمجد، تاريخ قد عملت فيه يد العبث والسفه حتى لا يُكوِّن الأساس الذي تبنى عليه هوية تلك الأجيال.
فمن يدرس جغرافيا الأفكار وتاريخها في المدة الفاصلة بين مؤتمر مدريد 1880 إلى دستور 2011 يعلم الخطر الداهم المحدق بالوجود الإسلامي والهوية الدينية للمغاربة.
ولقد اخترنا مؤتمر مدريد لأنه شهد أولى العمليات الدولية الكبرى للتحرش بالدولة المغربية المسلمة، حيث ضغط المؤتمرون على المغرب في مدريد من أجل أن يسن “حرية المعتقد” وذلك من خلال تكليف بابا الفاتيكان للإمبراطور النمساوي بمهمة تجنيد ممثلي الدول الأوربية في المؤتمر للقيام بممارسة الضغط على ممثل المغرب في المؤتمر، وذلك بإيعاز من اليهود المغاربة الذين شنوا حملة كبيرة في الصحف الدولية وادعوا زورا أنهم يتعرضون للاضطهاد، في حين كانوا يرومون الخروج عن مقتضيات عقد الذمة الذي كان يربطهم بالسلطان والدولة المغربية.
تحرش الدول الأوربية نقرأه في رسالة وزير الشؤون الخارجية النمساوي الموجهة إلى سفير النمسا في روما والتي جاء فيها: “طلب الكرسي الرسولي وساطتنا، برسالة تجدون طيه نسخة منها، لكي يتخذ المؤتمرون ويوافقوا على توصية تهدف إلى ترسيخ حرية الاعتقاد لجميع سكان المغرب، شبيهة بالتي قبِلها مؤتمر برلين في وقته لرعايا الباب العالي.
وسيكون على الاجتماع الذي سينعقد بمدريد أن يهتم -كما هو معلوم وعلى سبيل الأسبقية- بتسوية حقوق الأجانب.
ويبدو لنا مع ذلك أن يكون هذا المؤتمر، الذي تُمثَّلُ فيه غالبية الدول، جديرا بأن يتخذ مبادرة في الميدان الديني لينشأ في المغرب أيضا نظام يقوم على التسامح التام، ويخول ما يكفي من الضمانات لكي لا تحدث من الآن فصاعدًا أية عرقلة لمختلف الديانات المتبعة في ولايات الجلالة الشريفة وحتى لا يضايق -بالتالي-أي شخص في اعتقاده وممارسة شعائر دينه(*).
واخترنا كذلك دستور 2011 لأنه تمت المصادقة فيه على مبدأ سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية والتي نعتبرها آخر مسمار في ثابوت الهوية المغربية الإسلامية من الناحية التشريعية أما ما سيأتي فهو تفاصيل تحتاج إلى وقت فقط.
فبين التاريخين حصلت أحداث جسام أهمها كان إسقاط الحكم بالشريعة الإسلامية على يد المقيم العام الفرنسي ليوطي وما سنه من قوانين ونظم وبناه من إدارات حكومية وقضائية عجلت بإقصاء الشريعة الإسلامية والاستعاضة عنها بقوانين مستوردة من فرنسا، تؤسس لدولة حديثة مبنية على العلمانية ونظمها ومعتقداتها، وكذلك شنت الحرب على اللغة العربية وتم إنشاء القضاء الفرنسي العلماني، وتهميش العلماء من تدبير الشأن العام، وكلها أمور لا تزال تشق طريقها وتستكمل عملية التفتيت والتدمير للهوية الإسلامية للمغاربة.
وما يمكن استنتاجه بوضوح عند القيام بالتفحص الدقيق لحالة المغرب الاجتماعية والثقافية والعلمية الموروثة عن تلك الحقبة هو هذا التيه الهوياتي والتناقض الصارخ على مستوى المرجعية الأساس، فالمغرب من الناحية العملية لا يعتمد الشريعة الإسلامية مصدرا أساسيًا للتشريع، وفي نفس الوقت لا يتبنى المرجعية العلمانية صراحة، أما على أرض الواقع فهو ينتهج سياسة ليبرالية علمانية تفصل بين الديني والسياسي، ويجعل الغلبة للسياسي على الديني عند الاختلاف والتعارض؛ الأمر الذي جعل البلاد والعباد يعيشون حالة من الاضطراب المرجعي، يظهر جليا عند النقاشات المجتمعية بخصوص ملفات كبيرة مثل الحريات الفردية، الإجهاض، الحرية الجنسية، الإرث، فالمرجعية المؤطرة للنقاشات المجتمعية ليست مرجعية الدولة المنصوص عليها باحتشام في الدستور حين يصرح بأن: “دين الدولة الإسلام”، بل يكون الحسم للسياسة التي يتحكم فيها اللوبي العلماني المحروس خارجيا من طرف الدول المانحة والمنظمات الدولية الساهرة على بسط هيمنة العلمانية الدولية في أقطار الكوكب.
أما الدين فهو لا يستشار في القضايا التي تتحكم فيها التصورات العلمانية، وذلك حتى تُبعد الدولة عن نفسها تهمة “الدولة الدينية” وتأمن وصمها بالانغلاق ومخالفة القيم الديمقراطية والحداثية، وتتجنب غضب حلفائها الدوليين ومنظماتهم المتربصة بتقاريرها المؤثرة على ملفات القروض والمنح وعلى الملفات الاستراتيجية المغربية.
ونتيجة لهذا التناقض المرجعي على مستوى الدولة وأحزابهاأصبح المجتمع يعيش حالة يحكمها الافلاس القيمي والهوياتي الذي يحول دون تحقيق أي نهضة علمية تقدمية حقيقية.
ولأن الدولة مكبلة من كل الجوانب بفعل الهيمنة القوية التي تفرضها العلمانية الدولية من خلال مؤسساتها ومنظماتها الأممية كما أسلفنا، فإنها لا تستطيع أن تتبنى خطة راشدة على المستوى الاجتماعي والثقافي والأخلاقي تنتصر فيها لمنظومة القيم والأخلاق الإسلامية ولمقومات الهوية التاريخية والدينية.
لذا نجدها-أي الدولة-تمارس بالمقابل نوعا من التضييق على العلماء والوعاظ المنتسبين لوزارة الأوقاف، بدعوى التزام الحياد، وعدم إشراك المسجد في الصراعات الفكرية والإيديولوجية؛ ومن خالف هذا الحياد القاتل عوقب بالعزل.
والحاصل أن الغرض من تحييد المسجد هو منع العلماء من القيام بوظيفتهم في بيان مقتضيات الشريعة وصد الكفر والزندقة والإلحاد الذي يستشري في صفوف الشباب، والذب عن حياض العقيدة والشريعة، وفي هذا أيضا تعطيل لوظيفة المسجد في تربية الأجيال على هدي الإسلام وبناء الشخصية المسلمة لديهم.
فالتناقض بين هوية البلاد والشعب كما هما تاريخيا ودستوريا، مع الممارسة السياسية التي تهيمن عليها المبادئ العلمانية المحكمة بطريقة ملتبسة تجعل المغاربة في المنزلة بين المنزلتين، فلا هم علمانيون تحكمهم ديمقراطية بريطانيا أو فرنسا، ولا هم مسلمون يخضعون للشريعة الإسلامية في الاقتصاد والسياسية والسلوك والفكر والثقافة والاجتماع.
الأمر الذي يضع العلماء تحت الإكراه السياسي على الدوام، ويجعل الوزير دائم الاستعمال لسيف العزل في حقهم حتى يرضي العلمانيين وأحزابهم.
وبهذا الشكل يقضي-في نظره-على التناقض الذي ذكرناه، لكن ليس بالانتصار للإسلام، وإنما بتحييد العلماء والمسجد حتى لا ينزعج علمانيو الداخل والخارج.
فإذا كانت مسؤولية العلماء تقتضي البيان الذي أوجبه الله عليهم في القرآن عندما خاطبهم موجها القول لعلماء النصارى واليهود: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}. [آل عمران 187]؛ فإن هذا البيان في كل مرة يصطدم بسياسة الوزارة المعنية بتدبير الشؤون الإسلامية، التي تمارس كل الإكراهات عليهم حتى يلتزموا الحياد خصوصا في الملفات التي تنتهك فيها محارم الدين وعقائده، فبعض الجرائد والمواقع الإلكترونية التي تتلقى الدعم العمومي من الدولة تنشر الكفر وتدعو إلى الزنا وتحارب عقائد المغاربة وشريعتهم يوميا ودون انقطاع، ولا نرى أحدًا من علماء وزارة الأوقاف والمجالس العلمية يتصدى لذلك، إلا أفرادا كلما قام أحدهم بواجبه تعرض حتما للعزل.
إن سياسة الوزارة هذه تجعل الناس يزهدون في علمائهم وينظرون إليهم نظرة دونية، الأمر الذي يبث الفوضى في الشؤون الدينية حيث يتصدى للأمور التي تشغل الشباب أناس تعرف منهم وتنكر، كما يستغل هذا الوضع جهال يتحدثون بلسان البحث العلمي يطعنون في ثوابت الدين وقطعيات العقيدة ويعبثون بتراث الأمة.
وهل عندما يشكك في ثبوت القرآن وصحة نصه، ويسفه البخاري وتنتهك سنة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ويطعن في الصحابة ويستهزأ بشرائع الإسلام ثم تضج وسائل التواصل الاجتماعي بالجدالات والمناوشات ومع ذلك لا يسمع للعلماء الرسميين صوت ولا ذب ولا رد ولا بلاغ ولا بيان، ويلتزمون الحياد القاتل حتى لا يغضب العلمانيون.
فأي هيبة ستبقى لهم لدى الناس؟؟
وأي تأطير ديني يبقى للوزارة؟؟
هذا في الوقت الذي تغري الوزارة فيه علماءها بالتصدي لدعوات التطرف التي لا تستهدف في الواقع سوى أولئك العلماء الذين ينتجون خطابا شرعيا من خارج المؤسسات الإسلامية، فيكون الحاصل أن يبقى العابثون بالإسلام والشريعة والدين من العلمانيين واللادينيين أحرارا يشككون الأجيال في دينهم ويدعونهم إلى الكفر والإلحاد في منآى من ردود وهجمات العلماء الرسميين.
في حين يبالغ بعض من لم يستوعب حقيقة التهديد العلماني للوجود الإسلامي في التصدي لإخوانهم من العلماء والدعاة خارج الإطار الرسمي بالشجب والإنكار والاستهزاء والتنقيص والتجهيل.
فهل هذا يخدم الشأن الديني أم يعين المد العلماني الداخلي والدولي على المزيد من النفاذ في المجتمع المغربي والتحكم في نفوس الأجيال؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
(المصدر: هوية بريس)