مسؤولية إبادة الأرمن المزعومة عثمانية أم تركية علمانية؟!
إعداد أمير سعيد
ارتبط تفجير قضية ما يُسمى بإبادة الأرمن (التي وقعت فصولها الضبابية خلال الحرب العالمية الأولى ما بين عامي 1915-1917م) بسعي تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ ففور تقديم تركيا طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في العام 1987م صدر أول قرار بعد التقديم بثلاثة أشهر فقط من البرلمان الأوروبي بعنوان “الحل السياسي للمشكلة الأرمينية” مطالباً باعتبارها جريمة إبادة جماعية، واشتراط اعتراف تركيا بارتكابها للقبول باجتياز عقبة أمام انضمامها للاتحاد الأوروبي!
ومع أن التعنت الأوروبي صار متفهماً بعض الشيء لاعتبار أن الاتحاد لا يريد أن يضم لعضويته دولة مسلمة، سواء أكانت تركيا أم البوسنة والهرسك أم ألبانيا أم كوسوفا (الجديدة) أم حتى المغرب التي قدمت طلباً غريباً للانضمام رفضته فرنسا فوراً. وسواء أكانت دولة متهمة بارتكاب مجازر كما زعم عن تركيا، أم دولة غرقت في دمائها كضحية لمجازر “صليبية” اقترفها متطرفون صرب وغيرهم، إلا أن تصعيد المسألة بعد زهد أنقرة النسبي في الانضمام للاتحاد الأوروبي المتداعي يُعد أمراً خارجاً عن المنطق بشكل كبير.
مفهوم أن علاقة تركيا ورئاستها ليست على ما يُرام بالاتحاد الأوروبي، وبأنها متهمة من قبل ساسة وإعلام أوروبا بمحاولة إحياء العثمانية وتشييد المساجد في أوروبا وغيرها، لكن العجيب هو أن تنبعث قضية الأرمن بقوة هذه الأيام في وجه الحكومة التركية فيما تتلظى مناطق كثيرة بجرائم كثيرة ضد الإنسانية وينجم عن السيولة العالمية الآن ترهل واضح في البنية الأممية المفترض أنها حاكمة باسم القانون الدولي.
بالأمس، طالبت باميلا جيلار وهي ناشطة أمريكية يمينية وشديدة العداء للإسلام، بطرد تركيا من الأمم المتحدة، بسبب عدم اعترافها بهذه المجزرة المزعومة قبل أكثر من قرن، ماج بكل أنواع المجازر والإبادات الجماعية في أوروبا التي شهدت فيه حربان عالميتان حصدت أرواح عشرات الملايين معظمهم من المدنيين، وإفريقيا وآسيا، واكتوى المسلمون فيه بنيران حرائق ومذابح أشعلتها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن! وتتحمل مسؤوليتها عنها كاملة بشهادة الوثائق العلمية والمعلوم من تاريخ البشرية بالضرورة.
لا بأس أن تخرج تركيا من الأمم المتحدة، وأن يحل أمثال بشار فيها محتفظاً بمقعده الفاشي، وغيره من طغاة القرن الواحد والعشرين، وليس القرن السابق، لكن حين تترك تركيا مقعدها الآن تنفيذاً لأحلام تلك المتطرفة وأشباهها، سيثير ضحكنا هذا العبث الأممي الذي ينخر ما تبقى من مبادئ مدعاة لهذه المنظمة الدولية المسؤولة عن عديد من المجازر عبر قواتها في سريبرينيتسا البوسنية في قلب أوروبا “الرحيمة” وكثير من دول إفريقيا البائسة.
لربما ما تقدم عليه متطرفة يمينية مفهوم في ضوء الفاشية الصاعدة في الغرب ضد كل شعب مسلم يريد أن يتحرر من ربقة الاستعباد الغربي المرير. هذا لا غبار عليه، إنما ما يوغل في العبثية أن هذا الرأي اليميني لم يعد حكراً على ناشطة يعبث بها الخيال ويبلغ بها التطرف والفاشية مبلغاً كبيراً، إنما هو قد صار حالة متزايدة تبدت في هزلية الدبلوماسية الفرنسية في ندوة لحلف الأطلسي حضرها وزير الخارجية التركي، وطفحت في أكثر من محفل وتصريح.
الذي يبعث على التأمل حقيقة أن أوروبا والغرب قد صار غوغائياً لحد غير مسبوق، وأمسى منطقه وحججه هزيلة جداً بل مثيرة للامتعاض والاشمئزاز؛ فمع التسليم جدلاً أن ثمة مجازر ارتكبت بحق الأرمن قبل مائة سنة ونيف، ما الذي يحمس أوروبا اليوم لتحميلها لنظام لا هو عثماني قد “ارتكبت هذه المجازر في عصره” ولا هو علماني كان يمسك بزمام السلطة بيده حينها؟!
فقانونياً هذه من مخلفات دولة عثمانية لم تعد موجودة الآن، ولا يحق لأوروبا قانوناً أن تحمل دولة ورثت جزءاً من أراضيها هذا الإرث “الدموي” إن صحت الرواية، بل لم تقع تلك الإبادة المزعومة أصلاً ضمن الأراضي التركية المعترف بها بعد إنشاء الجمهورية وفقاً لمعاهدة لوزان 1923م.
وأخلاقياً، كان على أوروبا والغرب بصفة عامة أن يخجل كثيراً وهو يبذل كل جهوده من أجل إعادة نظام هو امتداد لنظام “الاتحاد والترقي” الذي حصلت تلك الجرائم المفترضة حينما كان ممسكاً بزمام السلطة بإحكام بعد انقلابي 1908م (خلع السلطان عبدالحميد الثاني) و1913م لإحكام قبضة عسكريي الاتحاد والترقي العلماني المتطرف على الحكم في أنقرة.
والمفارقة أن النظام الحالي لا هو عثماني يتحمل قانوناً هذا الإرث المزعوم، ولا انقلابي علماني (ينتمي للاتحاد والترقي ووريثه الشعب الجمهوري) احتضنه الغرب ووقع له بالقبول بـ”الاستقلال” واعترف بسلطته وأيدها ودعمها في سبيل “الحداثة والتغريب”، فعلام إذن تنتفخ أوداج الغرب اليوم عابثين بأوراق التاريخ ذاهلين عن حقيقة الواقع البادية للعميان؟!
(المصدر: المنهل)