مركز تكوين الفكر العربي
مقدمة لا بد منها (1)
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
مقدمة لا بد منها
إذا كانت مجمل وقائع حياة أي فرد عادي لا يمكن عزوها للصدفة أو العشوائية، فكل سيرة حياة إنسان هي نتاج أسباب ومسببات تنتج في الأخير تاريخ حياة هذا الإنسان، من ثم فإن بالأحرى أن لا تخضع حياة الأمم العريقة للعبث ولا الصدف ولا العشوائية، فالأمم لا تحيا في فراغ ولا تمارس وجودها إلا في تدافع مع أمم أخرى تتعاون معها أو تتصادم، تسالمها أو تحاربها، بكافة أنواع التدافع والتفاعل بشتى صوره.
وأمتنا المسلمة منذ وجدت في التاريخ، والأعداء من خارجها ومن داخلها من: الكفار، والمشركين، والمنافقين، والظالمين من أهل الكتاب، يريدون أن يطفئوا نور الله بأيديهم ويوهموا الأمة بامتلاكهم نورا أهدى وحياة أرغد إن اتبعت الأمة أهوائهم وسارت في ركابهم وتبعت سننهم.
وفي هذه الأيام الفارقة من حياة أمتنا ثمة دين وتاريخ يراد طيه ودفنه في سجلات الماضي، ودين آخر ضد هذا الدين وتاريخ آخر ضد هذا التاريخ يراد بناءه وتأصيل قواعده وكتابة صفحاته وفصوله خطوة خطوة بأساليب جديدة وفواعل جدد وأدوات مبتكرة مؤسسة على خبرة عميقة بمجتمعاتنا ومكامن ضعفها. واللافت للنظر والخطير في الأمر أن المحاولة هذه المرة يقودها نفر ممن ينتسبون للأمة جيشوا كل موارد الأمة من مال وسلطة ومثقفين وإعلام متحالفين مع الاستعمار الغربي وربيبته الصهيونية لتبديل عقيدة الأمة وتزييف دينها وتاريخها.
كما أن من الملاحظات الجديرة بالاعتبار، ونحن نحلل الغارة الجديدة على الأمة، ذلك الارتباط القوي بين أي محاولات لتغيير عقيدة الأمة وتكوين إنسانها المسلم وبين الغارة على فلسطين وبيت المقدس ومصر، وذلك منذ الحملات الصليبية القديمة حتى الحملات الصليبية الراهنة. حيث بات من المسلم به لدى قادة هذا الغرب المسيحي المتصهين أن التخلص من خطر الإسلام يبدأ من احتلال فلسطين وتهويد القدس وإفراغ المجتمع المصري من دوره، وتسليع أبناء فلسطين بالهجرة إلى خارجها ونسيانها أو بالخنوع والركون إلى حياة الدعة والراحة وترك الجهاد أو على وجه أدق الكفر به لمن سيظل مقيما بها يأكل ويشرب ويتمتع بحياة الذل في كنف الاستعمار الصهيوني، لأن ذلك هو المفتاح لإسقاط ذروة سنام الإسلام المتمثل في الجهاد في فلسطين ومصر فيسقط بسهولة أكثر في باقي مجتمعات الأمة، ومن ثم يسقط المسلمون في حمأة الحياة الدنيا الاستهلاكية فينفرط عقد دينهم دون كثير عناء.
والناظر فيما يخطط للأمة منذ كامب ديفيد حتى صفقة القرن يجد أن الأمة قد دخلت في أتون تنور استعماري جديد يكمل ما بدأه أتون سايكس بيكو ووعد بلفور. فالقارئ لنصوص صفقة القرن وما تلاها من اتفاقات تطبيع ومنتديات للسلم والرخاء وممرات للتنمية والازدهار كما يروج، سيجد هذا الربط الواضح بين فلسطين ومصر واستبدال الإنسان المسلم بإنسان آخر جديد مسلم اسما مفرغ تمام من إسلامه جوهرا. فحسب ما جاء في خطة السلام من أجل الازدهار، المعروفة بصفقة القرن: “لقد حان الوقت لإنهاء الصراع وتنشيط الإمكانات البشرية والفرص الاقتصادية الهائلة التي سيحققها السلام للإسرائيليين والفلسطينيين والمنطقة كلها”. وحتى تتحقق دولة فلسطينية فهناك شرط أساس بجوار شروط أخرى سياسية واقتصادية، يتمثل في: “تغيير المناهج المدرسية والكتب المدرسية التي تعمل على التحريض على الكراهية أو الخصومة تجاه جيرانها أو تشجعها، أو التي تعوض أو تحفز النشاط الإجرامي أو العنيف“، وبكلمات ترامب “لا يمكن أن يتجذر السلام أبداً في بيئة يتم فيها التسامح مع العنف وتمويله ومكافأته” لذلك، كما تقول الوثيقة، من المهم جداً أن يركز التعليم على السلام لضمان التزام الأجيال المقبلة بالسلام وضمان إمكانية أن يدوم اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني. سيكون الترويج لثقافة السلام عنصراً هاماً في اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية هدف تهيئة بيئة تضم قيم التعايش والاحترام المتبادل في جميع أنحاء المنطقة. يجب أن يشمل إنشاء ثقافة السلام وضع حد للتحريض، بما في ذلك في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة، وكذلك وضع حد لتمجيد العنف والإرهاب والشهادة. كما ينبغي أن تحظر الدعاية المعادية، وكذلك الكتب المدرسية والمناهج والمواد ذات الصلة بما يتعارض مع هدف اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، بما في ذلك حرمان بعضهما البعض من حقه في الوجود.
لقد اكتشفت دولة إسرائيل والبلدان العربية مصالحها المشتركة في محاربة الجماعات والمنظمات الإرهابية، والخطر المشترك المحدق بها الذي تفرضه إيران بخططها التوسعية، وتواجه هذه الدول أيضا تحديات أمنية في منطقة حوض البحر المتوسط والبحر الأحمر، مما يحتم عليها العمل يدا بيد، إلى جانب الولايات المتحدة، لحماية حرية الملاحة ضمن المضائق الدولية التي تتعرض بشكل متزايد لتهديد إيران، وميليشياتها العميلة وجماعاتها الإرهابية. وتجدر الإشارة إلى الاهتمام المشترك في المنطقة من خلال توثيق الروابط بين دولة إسرائيل ومجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى ضرورة تشكيل منظمة من أجل الأمن والتعاون في الشرق الأوسط من قبل كل من دولة فلسطين وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية ودولة إسرائيل-وأي بلدان عربية إضافية-ترغب بالانضمام لمنظمة للأمن والتعاون في الشرق الوسط، باسم”منظمة الأمن والتعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” OSCME، على غرار نموذج منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
لقد أطلت في الاقتباس حتى أوضح الفكرة الرئيسية التي يدور حولها المخطط الجديد الهادف لتجفيف منابع الدين والعزة والكرامة في فلسطين ومصر جناحا الأمة الباقيين الصامدين على مر العصور من خلال تكوين إنسان جديد فيهما يكون النموذج المحتذي لباقي أبناء الأمة، والذي إن تحققت له عقلية جديدة متسامحة مسالمة تنبذ الجهاد والشهادة وحياة العزة فيستمكن من اقتناص حياة هانئة رغيدة يأكل ويشرب ويتمتع مقابل أن يترك تعاليم دينه وغاية وجوده في هذه الحياة، وعنوان هذه الخطة: النور والرفاهية اللذان هما جناحا التنوير الغربي الجديد بأيدي العرب المسلمين أنفسهم ورعاية غربية صهيونية لإخراج المسلمين من دينهم.
فالاستراتيجية الغربية الصهيونية الجديدة بأيدي وعقول عربية مسلمة ظاهرا في المرحلة القادمة جوهرها وهدفها تحقيق التنوير والرخاء للإنسان العربي، واستبدال فكرة التنوير الغربي وعبء الرجل الأبيض بالتنوير العربي الذي يحمله الرجل العربي المثقف المتحالف مع الحاكم المتسامح رجل السلام ومعهما رجل الأعمال الذي سيوفر الرخاء والبيئة الرغدة التي ينعم فيها العربي المسلم المتصوف الجديد بالحياة السعيدة وقد كسب دينه ودنياه وتخلص من الرؤية الظلامية للدين وحياة الجهاد التي يفقد فيها الجيل الجديد حياته دون مقابل.
وفي ضوء هذه الاستراتيجية الجديدة التي ستظل معنا حتى تحقق أهدافها فيما تبقى من هذا القرن، يمكن أن نفهم موضوع تكوين الفكر العربي المقصود منه تجديد الدين، والذي نبتت له مؤسسة جديدة في مصر تسمى “مؤسسة تكوين الفكر العربي” بتمويل خليجي ورعاية ودعم غربي صهيوني برضا ودعم الحكومة المصرية وبمساهمة مثقفين عرب بأسماء مسلمة.
ففي مصر قلب العالم العربي ومركزه وبوابة الأمان للحرمين الشريفين في مكة والقدس، وفي واحد من أشهر الأماكن السياحية العالمية فيها، وفي حضن أهرامات الجيزة إحدى عجائب الدنيا السبع يوم 4 مايو الماضي أعلن عن تدشين مؤسسة فكرية جديدة سميت “مؤسسة تكوين الفكر العربي” تسعى كما جاء على لسان الأستاذ أحمد سعد زايد أحد المتعاونين معها إلى “تكوين فكر عربي جديد وليس مجرد تجديد أو إحياء هذا الفكر”. وهذا هدف كبير وطموح ويحتاج لجهود كبيرة وموارد هائلة وكتائب كبيرة من الباحثين أو على حد قوله “محتاجين 15 ألف دماغ”.
وما إن أعلن عن أهداف المؤسسة في منتداها الأول في المتحف المصري الكبير وما جرى فيه من مناقشات وما أعلن من أهداف- وخصوصا عندما أعلن عن مجلس أمناء المؤسسة وباقي المنتسبين إليها من باحثين وكتاب وإعلاميين- حتى قامت قيامة وسائط التواصل الاجتماعي وانشغلت برامج التوك شو في الفضائيات بهذا الوليد الطموح الجموح ما بين مهلل مستبشر ومحذر منذر متجهم. وخلال الأيام العشرة التي مضت منذ الاعلان عن المؤسسة وحتى لحظة كتابة هذه السطور جرت تحت مياه النيل المعرض لأكبر خطر في تاريخه كثير من المياه، فقد انقسم المصريون فريقان كما العادة: فريق مؤيد وفريق رافض.
أما الرافضون فقد شنوا هجوما كاسحا على المؤسسة والمؤسسين محذرين من خطر عظيم محدق بالدين وبالمسلمين واستخدموا كل وسائل الدعاية الممكنة والمتاحة بما في ذلك خطبة الجمعة للتحذير من الخطر القادم وتداعى البعض لمؤسسة مقابلة لتحصين الفكر الإسلامي ضد تخريب هذه المؤسسة كما يرون.
بينما وجد الفريق الثاني المؤيد أن المؤسسة تمثل حاجة وضرورة لتجديد الفكر العربي وتأهيله للمستقبل وأن مخاوف الأولين ليست في محلها وأن الحملة المضادة للمؤسسة تؤكد ضرورة تجديد الفكر العربي وتخليصه من تعصب هؤلاء وجمودهم باعتبارهم أحد الأسباب الرئيسية لجمود هذا الفكر.
وكان موقف الدولة المصرية غريبا بعض الشيء في الظاهر فالدولة هي من فتحت هذا الموقع المتميز للمؤسسة لتقوم بتدشين عملها وامدته بما يلزم وجندت وسائل الإعلام الحكومية الرسمية للدعاية للمؤسسة وحدث تدشينها لكنها في نفس الوقت هي التي وجهت خطبة الجمعة للتحذير من المؤسسة ولم تبد أي اعتراض على تحفظات بعض مسئولي الأزهر والأوقاف على أهداف المؤسسة، بل والغريب أنها لم تتوقف عند مشروعية وجود المؤسسة وخضوعها لقوانين الدولة فنحن لم نعرف بعد طبيعة المؤسسة القانونية.
وما إن انتهت أعمال المنتدى الأول للمؤسسة الذي احتفى بالدكتور طه حسين باعتباره أيقونة وأبو التنوير في الفكر العربي الحديث لدى فئات كثيرة من العلمانيين العرب وباعتباره المكون الأول والراعي الأول والمرجع الذي يعود إليه كل من يدعي فعل التنوير في مجتمعاتنا المسلمة، حتى انهمر سيل التلاسن وتبادل الاتهامات والتهكمات وحرب بابل بين المؤيدين والرافضين.
ثم تلا ذلك لقاء أحد أعضاء مجلس أمناء المؤسسة مع الإعلامي عمرو أديب ليوضح أهداف المؤسسة وسبب الحملة التي تشن عليها والتي أرجعها للإخوان المسلمين. ثم أتبع ذلك اللقاء لقاءا آخر لنفس الإعلامي مع أحد رجالات الأزهر حول المؤسسة والذي دعا فيه من ليسوا بأزهريين لعدم الحديث في شئون الدين، وقد تفاعل الجمهور مع اللقاءين رفضا وقبولا من الفريقين. وسرعان ما دخلت الدعوة السلفية على الخط مسرعة فتداعى البعض لتأسيس عمل مضاد لتكوين اصطلح على تسميته تحصين من بعض شيوخ الدعوة السلفية لم تتبين بعد ملامحه ولا موارده كما هو الحال مع تكوين ثم دخلت سلفية الاسكندرية المتحالفة مع النظام ممثلة في الشيخ ياسر برهامي وعبد المنعم الشحات والدعوة لندوة عامة في الاسكندرية يبدو أنها بعلم وموافقة النظام الحاكم للتحذير من تكوين.
هذا هو الحال حتى لحظة كتابة هذه السطور، فكيف حدثت ظاهرة التنوير والرخاء وتطورت في مجتمعاتنا: البعد التاريخي حتى لحظة تكوين؟ لماذا أو ما هي الأسباب التي قادت إلى ظهور هذه الظاهرة في مجتمعاتنا؟ وما هي التفسيرات المختلفة والمحتملة لهذه الظاهرة؟ وأيها أقرب للحقيقة والواقع الملموس عبر التجربة التاريخية للقرون الثلاثة الماضية؟
وما هي مؤسسة تكوين؟ ولماذا حظيت بكل هذا الاهتمام الرسمي؟ وهذا الاحتفال الباذخ؟ ولماذا يفتح أهم مكان تتوجه إليه أنظار العالم كله ليحتضن منتدى المؤسسة الأول، وتعلن من خلاله رسالته وأهدافه وشخوص مؤسسيه والقائمين عليه؟ ولماذا هذا الهجوم الكاسح على المؤسسة من التيارات المختلفة من بقايا الوطنية المصرية والعروبية وبالطبع الإسلامية؟
وكيف يمكننا النظر إلى تلك المؤسسة؟ وكيف نحلل ما حدث؟ ولماذا يجب علينا الانتباه لمثل هكذا مؤسسة بالذات؟ وهل مؤسسة تكوين بدعة جديدة في عالم العرب المسلمين؟ أم إنها حلقة في سلسلة طويلة من سلاسل التسلل واختراق العقل العربي المسلم التي تمتد لقرون ثلاثة مضت؟ ما هي علاقة ظهور هذه المؤسسة أو هؤلاء الأشخاص الدعاة للتجديد والتنوير وإصلاح العقل العربي المسلم والدعوة للسلام والتسامح بالقضية الفلسطينية ومراحل ومفاصل التدهور والانحلال في الكيان العربي سياسيا واجتماعيا وحربيا ودينيا؟
ما الذي تقوله المؤسسة عن نفسها؟ ما هي أهدافها ورسالتها وأدواتها وكوادرها ومواردها ؟ وما هو السياق الزماني والمكاني والفكري الذي وجدت فيه وتعمل من خلاله؟ وما الجهات النافذة وراءها؟ ومن يتعاون معها؟ وما هي الغايات المرحلية والنهائية من وجودها؟ ومن يغامر بتمويلها والرهان على نجاحها مع الاحتمالات الكبيرة لفشلها؟ وما هو دورها المحدد اليوم وغدا إن قدر لها البقاء؟ وهل من الممكن أن يكون ميلادها مرتبط بفشلها ومخطط له فعلا فتكون قنبلة موقوتة تنفجر وتنتهي تمهيدا لما بعدها؟ وما هي المعالجة الأقرب للصحة للتعامل مع هكذا مؤسسة؟ وما هو المدخل الصحيح للتعامل معها، والاشتباك الفكري والعملي، معها لمن يهمهم أمر هذه الأمة ودينها وثقافتها وعروبتها وحاضرها ومستقبلها وفلسطينها؟
نحاول الإجابة في المقالات إن أذن الله وأعان ووفق، فمنه وحده تعالى المعين يستمد العبد الفقير العون والتوفيق والإخلاص.