مقالات مختارة

مرتكزات السياسة الشرعية للمسلمين في الدول الغربية: رؤية مقاصدية

بقلم 

(1)

تمهيد:

في القواميس والمعاجم الإسلامية قد عرفت السياسة انطلاقا من نظرة الإسلام إلى الإنسان، كونه خليفة عن الله سبحانه وتعالى، حاملا لأمانة سياسة العمران التي ليست هي مقاصده وغاياته، وإنما هي سبل ووسائل للدار الآخرة، الشيء الذي جعل العمران الإسلامي للسياسة غير معزول عن معايير الصلاح الأخروي. انطلاقا من هذه الصورة للإنسان في الإسلام، فالسياسة هي:”استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل… والأفعال التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة الإسلامية…”[1].

وقد عرف أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي السياسة تعريفا دقيقا حيث قال:”السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي”[2]، مع تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة الإسلامية، ومن أمثاله ابن نجيم إذ عرف السياسة بقوله هي:”فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا دليل جزئي”[3]، فقد جعل مجال السياسة رحبا فسيحا، فهي القيام على الشيء بما يحمله لفظ شيء من العموم والشمول بما يصلحه، وقد عرفها الإمام عبد الوهاب خلاف كأحد العلماء المعاصرين :”هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية”[4]، وعلم السياسة في الإسلام عنده “علم يبحث فيه عما تدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص”[5].

ونجد في كتب السياسة الشرعية: “سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة علمها من علمها، وجهلها من جهلها.. وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها”[6]. فالسياسة العادلة هي فرع من فروع الشريعة الإسلامية، فمن أحاط علما بمقاصدها وفهمها فهما حسنا تكفيه عن غيرها من السياسات. و نشير إلى ما نقله ابن عابدين عن كتب المذهب الحنفي: “أن السياسة تجوز في كل جناية كقتل مبتدع يتوهم انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره، ولذا عرفها بعضهم بأنها: تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد، وقال: وقوله “حكم شرعي” معناه أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم ينص بخصوصها”[7]، فالسياسة قد تكون بغير التغليظ وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط[8]، حيث أن تغليظ العقوبة يمثل جانبا واحدا من السياسة في الإسلام ويحصرها في إطار ضيق: باب الجنايات أوالعقوبات المغلظة، التعزير… وعليه فإن السياسة في الإسلام ترجع إلى التصرف في الشؤون العامة على قاعدة المصالح ودرء المفاسد، مع عدم مخالفة الشريعة الإسلامية وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي فهي: “في الواقع بناء الأحكام المتعلقة بالشؤون العامة على المصالح، ومراعاة الحكم في التصرفات بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”[9].

وتعتبر التشريعات السياسية مجال من مجالات السياسة في الإسلام، والتي كان يعبر عنها الفقهاء المتقدمون بتدبير أهل الإسلام وغياث الأمم، وبالأحكام السلطانية…[10] إلا أن صفاء هذا المفهوم سرعان ما تغيرت مضامينه عندما احتك العالم الإسلامي بالغرب، فخلطت المضامين الغربية بالمضامين الإسلامية، فأحدثت الازدواجية في المفهوم والمضمون، وهي من المشاكل التي تواجه اليوم العقل المسلم في بحثه عن مضامين المصطلحات الإسلامية.

فإذا كانت السياسة في الإسلام “شرعية المنطلقات وشرعية الغايات وشرعية المناهج”[11]، فإن السياسة الغربية هي اجتهادات بشرية صرفة تخضع للمصالح والأهواء، حيث أنها لا تحتكم إلى دين ولا تنضبط إلى ضابط أخلاقي، فهي ذات طابع وضعي تقف عنده تدبير الإنسان لحياته الدنيوية دون الأخروية، فمقاصد عمرانها هي تنمية الوفرة المادية وتعظيم اللذة وتكثير القوة دون أي روابط بالدار الآخرة. فالسياسة في التعريفات الحديثة :”تذهب إلى أن محور السياسة :هو الصراع حول طبيعة الحياة الخيرة، وعلاقة مصالح الجماعة بها، أما العناصر التحليلية الرئيسية فهي: الصراع والقوة، والفعل السياسي هو الذي يحدث من خلال منظور القوة التي تمارس من خلال عملية الحكم وفي إطار الدولة، ودراسة السياسة:هي تحليل لعلاقات القوة”[12]، وهي في الكتابات الغربية الجديدة تعتبر أن علم السياسة هو علم السلطة والذي يعرف في القواميس الغربية هو: “علم الدولة أو هو فرع من تلك العلوم الاجتماعية التي تعالج نظرية وتنظيم وحكم الدول، وكذا الممارسات العملية اللازمة لتحقيق ذلك”[13]، ونظرا للتطور الكبير لعلم السياسة فقد ظهرت اختصاصات دقيقة حيث برز ما يسمى بعلم الاقتصاد السياسي، والجغرافية السياسية والاجتماع السياسي، فماهي مرتكزات السياسة الشرعية للمسلمين في الدول الغربية؟ هذا ما سنناقشه من رؤية مقاصدية عبر ست حلقات.

المرتكز الأول: فهم النصوص في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

يقول ابن القيم: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها”[14]، فالله عز وجل لم يشرع حكما إلا لمصلحة فما جاءت به الشريعة الإسلامية له مقاصد وحكم وعلل، وفقه النصوص وفهمها وتطبيقها ينبغي أن يدرك في ضوء مقاصد الشريعة وكلياتها، “فمن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد، فعليه أن يعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام”[15]، وباستقراء اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وما نتج عنها من أحكام السياسة الشرعية لا تخرج عن روح النصوص الشرعية وإن بدت مخالفة لها، فقد كانوا ينظرون رضي الله عنهم إلى ما وراء النصوص والأحكام من علل ومصالح، فقد “جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن الكريم، ثم جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن في مصحف واحد أمره بإحراق ما عداه من الصحف والمصاحف وإرسال نسخ المصحف الذي نسخه إلى مختلف الأمصار وحمل الناس عليه، حرصا منه على وحدة المسلمين، وما فعله عمر رضي الله عنه من إنشاء للدواوين، وما فرضه من إخراج، وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وما فعله عثمان في ضوال الإبل على خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم حفاظا عليها لأصحابها”[16]، وما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أسقط عام الرمادة حد السرقة، يقول ابن القيم الجوزي:”وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ”[17]، كما منع عمر رضي الله عنه التزوج بالكتابية، وإجازته للتسعير، وإسقاطه لسهم المؤلفة قلوبهم فقد قال لمن جاء يطالب به: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما على الإسلام يومئذ ذليل وإن الله عز وجل قد أعز الإسلام”[18]، وتعليقا على هذا الأمر يقول رمضان البوطي: “فاجتهاد عمر متعلق بتحقيق المناط، كما أنه قضاء في الواقع متفق مع منطوق الآية وروحها”[19]، ويدخل في اجتهادات الخلفاء الراشدون تضمين علي رضي الله عنه للصناع حيث قال:”لا يصلح الناس إلا ذلك”[20]. ومن اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم ما قام به معاذ بن جبل عندما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا واليا وطلب منه صلى الله عليه وسلم التوسط في أخذ الزكاة من أهل اليمن فقال: «خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر»[21]، ومعاذ رضي الله عنه لم يتوقف عند ظاهر النص النبوي وإنما نظر إلى مقاصده وروحه وعلله وإلى الحكمة من أخذ الزكاة، فقال لأهل اليمن «إيتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة»[22].

يتبع..

———————————————-

[1]- الكليات، أبو البقاء، تحقيق د.عدنان درويش محمد المصري، طبعة دمشق سنة 1982م.

[2] – الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 13.

[3] – رد المحتار على الدر المختار، حاشية ابن عابدين الدمشقي، دار الفكر بيروت، لبنان، ط2، 1992م، ج6، ص 15.

[4] – السياسة الشرعية، أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف، مؤسسة الرسالة، ط1، 1418هـ-1997م، ص 17.

[5] – نفسه، ص 7

[6] – إعلام الموقعين، ابن القيم، دار الجيل بيروت.ج4، ص 372-275. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مرجع سابق، ص 17-29.

[7] – حاشية بن عابدين، مرجع سابق، ج6، ص 16.

[8] – شيخ الإسلام بن تيمية، والولايات السياسية الكبرى في الإسلام، فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الوطن، الرياض، ط1، 1417هـ، ص 79.

[9] – المرأة والحقوق السياسية في الإسلام، مجيد محمود أبو حجير، مكتبة الرشد، الرياض، شركة الرياض للنشر والتوزيع، ط1،1997 ص 21.

[10]- تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، بدر الدين محمد بن ابراهيم بن جماعة، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط1، 2003م. الأحكام السلطانية، الإمام الجويني الغياثي أبي يعلى الفراء، دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2000 م.

[11] – السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2000م، ص 26.

[12] – قاموس علم الاجتماع، تحريره ومراجعته، د. محمد عاطف غيث، طبعة القاهرة، سنة 1979م.

[13] – علم السياسة، محمد نصر مهنا، دار غريب الحديث للطباعة والنشر، القاهرة، ص 19.

[14] – إعلام الموقعين،ابن القيم،دار الجيل بيروت.ج3، ص 14

[15]- قواعد الأحكام في مصالح الأنام،العز بن عبد السلام،مؤسسة الريان،بيروت،بدون تاريخ.، ج1، ص 31

[16] -الطرق الحكمية في السياسة الشرعية،ابن قيم الجوزية،تحقيق: محمد حامد الفقي،دار الكتب العلمية،بيروت.ص 13

[17] -ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص 23.

[18] – رواه البيهقي، كتاب قسم الصدقات، باب سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وترك إعطائهم…، رقم 12968، ج7، ص 20، وينظر السنة لابن أبي عاصم باب فضائل أهل البيت، رقم 1559، ج2، ص 646

[19] – محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ص 129-130

[20] -رواه البيهقي، كتاب الإقرار، باب ما جاء في تضمين الإجراء، رقم 11444، ج6، ص 122، ورواه بلفظ “لا يصلح للناس إلى ذاك” برقم 11446، ج6، ص 122

[21] – رواه الحاكم في المستدرك، كتاب الزكاة، رقم 1433، ج1، ص 546، وقال هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل، ورواه أبو داود وكتاب الزكاة، باب صدقة الزرع رقم 1599، ج2، ص 109، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الزكاة، باب لا يؤدي عن ماله فيما وجب عليه إلا ما وجب عليه رقم 7163، ج4، ص 112 وابن ماجة في السنة، كتاب الزكاة، باب ما تجب الزكاة من الأموال رقم 1814، ج1، ص 580.

[22] -رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة، ج2، ص 525، ومصنف بن أبي شيبة، كتب الزكاة ما قالوا في أخذ العروض في الصدقة، رقم 10439، ج2، ص 404.

*منسق المنتدى الأوربي للوسطية ببلجيكا

المصدر: هسبريس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى