بقلم امحمد الخوجة
إن الإمام مالكًا (179هـ) كان ثاقبَ النظر، متفحصًا للواقع الذي عاش فيه، كما أنه – من خلال استقراء المصادر التي تحدثت عن أدلته – كانت له رؤية استشرافية على المدى البعيد، الشيء الذي أعطى لمذهبه مرونةً وسريانًا سهلًا في الأقطار الإسلامية.
ولا يأخذك العجبُ حينما تجد الإمام مالكًا، يتشبث بأصول لها عَلاقة بواقع الناس بصفة عامة؛ كقاعدةِ اعتبار المآل، وقاعدة سد الذرائع.
وأخرى لها علاقة بالعلماء المجتهدين؛ كالإمام أبي حنيفة (150هـ)، والشافعي (204هـ)، وغيرهما، ومن ذلك قاعدة مراعاة الخلاف؛ إذ في واقع الأمر أن الإمام رحمه الله كان يتحلَّى بالتواضع والتفاعل مع الغير، دون التعصب للرأي الشخصي، ويظهر هذا جليًّا من خلال استقرائنا لمسائلَ كثيرةٍ راعى فيها خلاف العلماء الذين عاصروه أو سبقوه، وخصوصًا إذا كانت مدركاتهم وأدلتهم قويةً.
ونحن نستحضر هذا الأمر لا بد من ربط وشائج الحاضر بالماضي؛ إذ نحن في الحقيقة ينبغي أن نكون أشخاصًا تُراثيينَ، لا كائنات لنا تراث؛ إذ مِن السهل أن نُحقِّق المطمح الثاني، ونتغنَّى به، مما يدخلنا في دوامة البُكاء المستمرِّ على الأطلال، أما أن نعايش التراث برؤية الواقع، فذلك هو التجديد بعينه، والذي نطمع ونطمح في أن يصيرَ دَيْدَننا.
مِن ثَمَّ كان من الواجب على مدرِّسي مادة الأصول خصوصًا، ومدرسي باقي المواد عمومًا، أن يتفاعلوا مع تلك القاعدة التي اختارها ذاك الإمام الجليل؛ ليقوموا بتأمُّلها واستحضار المسائل التي راعى فيها الإمام خلافَ ما اقتضته اجتهادات العلماء الآخرين.
هذا الأمر سيُفسِح المجالَ أمام المتعلِّمين ليقبلوا اختلاف تفكير غيرهم، ولو كان مدرسَهم، ومنه سنُسهِم في تكوين وتنمية مَلَكة النقاش والتحليل والاستدلال، كما أن ذلك سيُولد في المتعلم التحليَ بالإنصات للآخر دون انفعال سلبي، وعندها نكون قد أسَّسنا لتكوين متعلِّم إيجابي يشارك زملاءه ومدرِّسَه الآراءَ ويناقشها، وهذا الأمر قد لا يقتصر على المتعلمين داخل الفصول؛ وإنما سيُربِّي فيهم الجد على مستوى البحث والتنقيب عن الأدلة والحجج حتى خارج المؤسسات التعليمية.
ثم إنه من الممكن أن يستفيدَ مِن ذلك أهلُ التدريس قاطبة، لا سيما ونحن نعلم أن كثيرًا من المدرسين لا يقبَلون تقويمَ زملائهم.
إن ما نتطلَّع إليه – نحن المسلمين – هو أن نربط العَلاقة كما أسلفنا بين الماضي والحاضر، من خلال ما أسَّسه أسلافنا من مناهج تصقل العقل وتنتج التفكير الفعَّال والإيجابي، الذي يعيد للتراث مكانته، دون الانبهار الكلي بما ينتجه الغرب من ثقافة.
وتعزيزًا لهذه الكلمات المختصرة – والتي ينبغي أن تطولَ لتشمل كل أدلة مالكٍ وغيره، والاستفادة منها على مستوى التربية والتعليم – سأضربُ مثالًا راعى فيه الإمام مالكٌ خلافَ الإمام الشافعي رحمهما الله:
جاء في كتاب “مُغني المحتاج” أن الإتيان بالبسملة في الصلاة واجبة[1]، وجاء في كتاب “بداية المجتهد” أن الإمام مالك لا يرى وجوب البسملة في الصلاة[2]، “إلا أن القول المقارب للمالكية هو الندب”[3]؛ مراعاةً لخلاف الشافعية، وإلا فإن الأصل عند الإمام مالك رحمه الله عدمُ الإتيان بها في الفريضة.
ومنه يظهر لنا كيف تعامل الإمامُ مع المسألة المختلف فيها، فتنازل عن اجتهاده من المنع إلى الندب في قضية قراءةِ البسملة في الصلاة.
قد يقول قائل: وهل المدرس والمتعلمون في مستوى المجتهدين؟
لكن لسان “التجديد” سيجيبه بأننا نقصد الاستفادة من منهج الأسلاف في التعامل مع القضايا لا غير، أما عدم الاهتمام بهذا الجانب، فلا يزيد إلا جهلًا بجهود العلماء الأوائل، ومنه قد نحدد عدة مزايا لهذا الاختيار:
على المستوى التعليمي:
فالمدرس قد يقلع عن عدم إشراك المتعلمين في بناء التعلمات، كما أنه سيترك فرصةً للمتعلمين لإبداء آرائهم وإسهاماتهم، مُكرسًا الإفصاح عن تقويمه من طرف المتعلمين، ونادرًا ما يقبل الأستاذ بالتقويم من طرفِ متعلِّميه، وهذا سيفسح له المجال أيضًا لمراعاة آراء آباءِ التلاميذ والأطر والمكونين.
على المستوى التعلمي:
لا شك أن المتعلمين سيشعرون بالاطمئنان والثقة في النفس – وهو الأمر المفقود غالبًا – لأنهم سيشركون المدرسين في بناء الدروس من خلال طرح وجهات نظرهم وتقبُّلها.
ومهما يكن، فإن هذه الكلمات الموجزة، ما هي إلا إشارات يمكن أن تفتح باب البحث على مصراعَيْه على مستوى الاستفادة من منهج المتقدمين، وخصوصًا على مستوى مراعاة الخلاف، ولقد ضربت مثالًا واحدًا وقع بين مالك والشافعي، وإلا فإن هناك أمثلةً كثيرة على هذا الصعيد، يمكن الرجوع إليها من أجلِ تأمُّلها والإفادة منها.
————————————————
[1] كتاب “مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج”؛ لشمس الدين الشربيني، باب صفات الأئمة، ص 478 ج 1، نشر دار الكتب العلمية، ط 1994م.
[2] كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد؛ لابن رشد، باب الفصل الأول في أقوال الصلاة، ص 132 ج 1، دار الحديث المصرية، بدون طبعة.
[3] كتاب “أصول فقه الإمام مالك: أدلته العقلية”؛ لفاديغا موسى، ص359 ج 1، دار التدمرية، طبعة 2007 م.
(الألوكة)