إن مجهود تعريف الدين يتقاطع مع المطلب الليبرالي المعاصر المتمثّل في ضرورة أن يبقى الدين مفصولاً عن السياسة والقانون والعلم؛ هذا ما أشار إليه طلال أسد، كجزء من نقده للعلمانية الليبرالية. يأخذ هذا الكتاب انتقادات أسد على محمل الجدِّ ويركز على ديناميات السلطة التي صيغت من خلالها خطابات الدين والعلمانية تاريخيًا، واحتُفظ بها في سياق هيمنة العلمانية الليبرالية بهذا القدر أو ذاك، وهيمنة القوميين والثقافيين والإمبرياليين، وكذلك المصالح الاقتصادية التي يتوافقون معها.
هذا الكتاب هو مجموعة من المساهمات الفردية والدراسات التي كتبها علماء ودارسون متخصصون، وكان المفهوم المركزي أو “المصطلح النقدي” الذي وجّه أعمالهم في هذا العمل هو مفهوم “صناعة الدين”. إذ يُحيل هذا المفهوم في معناه العام إلى الطرق التي تتشكَّل بها بعض الظواهر الاجتماعية ويُعاد تشكيلها في خطاب الدين (أو الأديان) العالمية. وبعبارة أخرى، يُحيل المفهوم إلى تجسيد بعض الأفكار والتشكيلات والممارسات ومأسستها على أنها “دينية” بالمعنى الاصطلاحي الغربي للكلمة، ويتم بذلك إلحاقها بنظام معرفي ديني خاص وبتدابيره السياسية والثقافية والفلسفية والتاريخية.
إن الهدف الأساس لهذا العمل هو دراسة نتائج التبنِّي الاستعماري وما بعد الاستعماري لتجسيدات النموذج الغربي للدين وتبنِّي النخب غير الغربية لمقابله المثير للجدل (العلمانية). لذلك يسعى المساهمون إلى النأي بأنفسهم عن التعارض بين الدين والعلمانية الذي يُعتبر أمرًا مركزيًا لدى أنصار أطروحة العلمنة وأتباعها، وينحازون بدلاً من ذلك إلى أولئك العلماء المهتمين باستكشاف مختلف التضمينات الابستيمولوجية والسياسية لتشكُّل الخطابات “العلمانية” و “الدينية” وتبعية بعضها لبعض.
يحتوي هذا الكتاب على اثنتي عشرة ورقة محررة تدور جميعها حول العلاقة بين الدين والعلمانية في سياقات مختلفة، وقد بدأها المحرران: ماركوس درسلر وأرفيند بال س. مانداير بورقة حول الحداثة وصناعة الدين وما بعد العلمانية أوضحا فيها أنه قد حصل في السنوات الأخيرة توسع سريع للمعرفة التي فككت عدة علاقات بين أطروحة العلمنة وعمل صناعة الدين، وسلطت بالتالي أضواءً جديدة على العلاقة بين المقولتين التوأمين: “الدين والعلمانية”. ويمكن تمييز ذلك من خلال ثلاثة فروع جديدة مميزة اجترحها الباحثون وهي الفلسفة السوسيوسياسية للعلمانية الليبرالية التي يمثلها تشارلز تايلور. والانتقادات ما بعد الحداثية التي وجهت إلى الميتافيزيقا الأنطولوجية – اللاهوتية على يد اللاهوتيين الجذريين والفلاسفة القاريين الذين أسهموا في إحياء خطاب اللاهوت السياسي. وأخيرًا: مختلف أشكال تحليل الخطاب التي ركزت على جينالوجيات السلطة، سائرة على خطى ميشيل فوكو وإدوارد سعيد، والمرتبطة أكثر بأعمال طلال أسد.
وفي الورقة المعنونة بـ: “الأديان المتوهمة في الهند: الاستعمار ورسم خريطة جنوب آسيا وثقافتها” لريتشارد كينغ أكد الباحث على أن نعت السياسة الحديثة بأنها فصل في تاريخ الدين من قبل عالم السياسة البريطاني جون جراي ماهو إلا طريقة واحدة لعرض مقولة “الدين” بهدف خلخلة الفصل السهل للعلماني عن الديني في الخطابات المعاصرة، وأن ثمة مقاربة أخرى تتمثل في التشكيك في مقولة الدين نفسها بوصفها خطابًا كتبت به مقاربات التاريخ الحديثة وذات النزعة الكونية. وقد أنتجت هيمنة الغرب الاستعمارية على “سائر العالم” في القرون الأخيرة عدة مقولات وأنموذجات غربية بدت أكثر كونية ومعيارية مما كانت ستبدو عليه في ظروف أخرى. إن مقولة “الدين” واحدة منها ويمكن اعتبارها الخاصية الأساسية للخرائطية الخلاقة للحداثة الغربية، إذ يستعمل هذا المفهوم كخريطة معرفية لدراسة وتصنيف وتفسير ميادين ثقافية وتاريخية متنوعة، ويمكّن من التمييز بين مجالات الحياة البشرية “الدنيوية” و “الدينية”.
وفي الورقة المعنونة بـ: “ترجمات العنف: العلمانية وصناعة الدين في خطابات القومية السيخية” وضح الباحث أرفيند – بال مانداير أن العلمانية التي شكَّلت جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطية الهندية طوال أكثر من نصف قرن أضحت محل تساؤل وتعيش أزمة كبيرة خلال العقدين الأخيرين. وبرهن على ذلك بإسهاب ليس فقط العنف الواسع الانتشار والشديد الوضوح الذي تتعرض له الأقليات الإثنية والدينية على يد فاعلين قابلين للتحديد (الهندوسية القومية – القوميون الهندوس – السيخ – الإنفصاليون المسلمون) وإنما أيضًا العنف الأكثر تنظيمًا والأقل وضوحًا الذي ترعاه الدولة العلمانية. ويفرق الباحث – تبعًا لسلافوي جيجك- بين نوعين من العنف هما العنف الذاتي والعنف الموضوعي. إن العنف الذاتي هو نوع العنف الذي يمارسه فاعل قابل للتحديد بوضوح هو الانفصالي أو “الأصولي الديني” والذي يصاغ بوصفه، مثلاً، هوية أحدهم الحصرية. أما العنف الموضوعي، فإنه نوع العنف الكامن في الأداء الناعم للأنظمة السياسية والفكرية والإعلامية للدولة الحديثة؛ إنه يعتبر أي اختراق للمجال العام من قبل ذاتية الانفصالي/الأصولي بمثابة انتهاك لشرعية الدولة.
أما الورقة المعنونة بـ: “العلمانية و “العنف الديني والمخيال الليبرالي” لبرايان غولدستون فقد أكد فيها الباحث على ضرورة أن يتم النظر إلى مقولة العنف الديني المعاصرة بوصفها موازية لطريقة معينة للحكم السياسي الليبرالي. ولا تحتوي هذه التطابقات المقلقة بين موضوع موضوع خطاب خاص (العنف الديني) وتشكيلة سياسية خاصة (العلمانية) على مجموعة من التشخيصات المشتركة لجذور العدوانية الدينية –غياب مسافة نقدية بين النص الديني والتجربة المعيشة، التركيز المفرط على السلطة المستوفاة، غياب الفردانية من جانب المؤمنين، الثقافة التقليدية المتمثلة في الشهادة في سبيل الله.. إلخ. إنها تتضمن أيضًا مفهومًا للدين يمكن فيه وضع اليد على صورة مرعبة لماضٍ ما قبل حديث من جهة، ومؤمن مستنير متناغم بشكل كامل مع هذا العالم من جهة اخرى. وهذه الصورة الأخيرة هي التي أصبحت الصورة المعيارية وتم تثبيت صفاتها في مركب من المواقف والانفعالات والكراهية والمخاف الذي يشكل الحياة في الدولة القومية الحديثة. وكذا في الإمكانيات المسموح بها والممنوعة؛ بينما وجب إعادة تشكيل الصورة الثانية أو إخمادها. ويساعد “العنف الديني” على تحقيق هذه المشاريع.
أما الباحثة كيري ميتشيل في ورقتها المعنونة بـ: “سياسة الروحانية: لبرلة تعريف الدين” فقد اختارت دراسة الدين الأمريكي، وعلى وجه الدقة دراسة “الروحانية” باعتبارها متعارضة مع “الدين”، وتلاحظ الباحثة في هذا السياق التغيير الذي مسّ الاستعمار الأمريكي الشعبي الذي يميز بين هذين المصطلحين كما يظهر في عبارة: “أنا روحاني لكني لست متدينًا”. إن هذه العبارة وما يرتبط بها من مشاعر جاءت نتيجة لنقد مقولة الدين. وانطلاقًا من منظور أولئك الذين يعترفون بذلك التمييز، يحيل الدين إلى التنظيمات والمذاهب، أي إلى جماعات خاصة ومعتقدات أعضائها. أما الروحانية من جهة أخرى فإنها تعتبر فردية وشخصية، تركز على الشعور والتجربة بدلاً من الانخراط في عقيدة معينة.
وفي الفصل المعنون بـ: (صناعة الدين بواسطة الخطاب القانوني العلماني: حالة المذهب العلوي التركي) للباحث ماركوس درسلر أكد الباحث على أن حالة المذهب العلوي في تركيا تشير إلى الدور الغريب الذي يؤديه الخطاب القانوني في تطبيع الدين. إن تقسيم الحياة الحديثة إلى مجالات متمايزة من القيم والمصالح، منظورًا إليها من خلال عدسات أنموذج العلمنة، يستلزم مؤسسات تنظم الصراعات حول الحدود الفاصلة بين هذه المجالات. وانطلاقًا من هذا المنظور، يؤدي القانون الوضعي، الذي يعد نفسه منتوجًا لعملية التمييز الحديثة دورًا مهمًا في الوساطة بين هذه الصراعات. ويؤدي الخطاب القانوني دورًا مهمًا في موضعة الوقائع الدينية – العلمانية من خلال مشاركته في التمييز بين مجالي السلطة الدينية والسلطة العلمانية المتجاورين وفي تجسيدهما أيضًا.
وفي الفصل المعنون بـ: “الوجود المضطرب وأزمنة الهذيان: تشكيلات الصناعة الدينية للآخر في خطاب مذهب الثقافة الرائدة الألماني” لمايكل نجهوان تناول الباحث حالة المشروع الطموح المتمثل في تدشين مسجد دويسبورغ ماركسلوه في ألمانيا في أكتوبر 2008. وقد عنونت الصحافة الألمانية هذا الحدث بـ “معجزة ماركسلوه”. ويتساءل الباحث هل ينبغي النظر إلى ماركسلوه كرمز جديد للتسامح الألماني وتغيرًا مفاجئًا في التوجه الوطني المتعلق بالهجرة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال وجد الباحث أنه ينبغي أن يعالج أولاً نصوصًا فرعية تطالب بالتخلي عن ما يسمى “مسجد الفناء الخلفي”. وبرهن كذلك على أن زمن المناهضين للمساجد لم ينتهِ بعد، وأن التعبئة العامة المتواصلة للرأي العام ضد “مرتديات الحجاب” لها انعكاسات مهمة على مسألة صناعة الدين: فقد أثارت، من بين أشياء أخرى، مسألة أي مقولة “دين” يتم انتاجها كخطاب للتسامح وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى الأفراد الذين يُنظر إليهم وكأنهم يسكنون أشكالاً من الاتجاه الديني التي تتجاوز مجموعة من الحدود.
(المصدر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر)