مراجعة كتاب زمن الصحوة: تاريخ الصحوة الإسلامية في السعودية
بقلم مؤمن سحنون
ربما تطفح ميول أو تحيز الباحث على مادة البحث حين يتعلق الأمر بالجماعات الإسلامية، بحيث يغيب جزء طفيف من المشهد، أو لا يتم التصوير من زاوية معينة تبعد نفس المسافة عن كامل الأحداث، تختفي بالتالي بعض المشاهد الجانبية أحيانًا، والجوهرية في أحيان أخرى، خاصة في واقع دكتاتوريات السياسة العرب وأصحاب السمو الذين دائمًا ما يعتبر البحث في خفايا ودهاليز المجتمعات والجماعات أمرًا يكشف ما يحرصون على إخفائه ودفنه في مقابر الكتمان والتعتيم، خصوصًا وإن كان الأمر يتعلق بمخاض أحداث دارت داخل دولة التوحيد، المملكة المبجلة، التي ترسي حكمها على مقدسات المسلمين.
في هذا الصدد يأتي هذا الكتاب الذي سماه كاتبه الفرنسي ستيفان لاكروا بـ«زمن الصحوة». لاكروا، الذي درس الحراك الإسلامي في المملكة السعودية في أطروحته لرسالة الدكتوراه، قد استطاع الإلمام بجوانب عميقة وموغلة الحساسية داخل البناء الاجتماعي والسياسي السعودي، المنبثق عن سياق تاريخي تشابكت فيه الأحداث الداخلية والإقليمية، وألقت بظلالها على تركيبة مجتمع يخضع لطابع سياسي وتقسيم فئوي معين، أين كان ميلاد وتفاعل الصحوة مؤثرًا في تحريك المجالات الاجتماعية وإحداث احتكاك بين الصفائح الفكرية وظهور أنماط جديدة، سببت اهتزازات سياسية وزلازل اجتماعية، تلاحمت معها جزر وتباعدت أخرى. لكن في كل الأحوال، يبرز طابع المخاض الصحوي على الأحداث بصورة جلية، ولا تزآل عوامل ثورة البركان في حراك متجدد تحت قشرة الواقع والصراع.
ميلاد مجتمع المملكة السعودية
في البداية، أشار الكاتب لميلاد الدولة السعودية التي كانت السلطة فيها منذ بدايتها منقسمة بين طرفين توزعت بينهما أدوار محددة لكل طرف: آل سعود أصحاب السلطة السياسية من جهة، وورثة الدعوة الدينية الوهابية من جهة ثانية. وفي إطار أحداث رسمت هذه الثنائية، تعهد الطرف السياسي الأول على أن يطبق مفهوم الطرف الديني الثاني، ما أكسب سلطة آل سعود الشرعية، فبرز شكل احتكاري في الجانبين: جانب احتكر المجال السياسي، وجانب احتكر المجال الديني. قسمة أنتجت وظائف خاصة لكل طرف. وللحد من تقاطع وظائف الجانبين، ضمت السلطة إليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أسستها سنة 1926.
وبما أن الطبقة الدينية قد تأسست استكمالًا لسياق تاريخي بعد تحالف أنصار الدعوة الوهابية مع عبد العزيز سعود، ففي حين كانت الدعوة منقسمة لشقين: شق احتوائي وشق إقصائي، تحالف عبد العزيز مع الشق الإقصائي بعد أن تقرر أن هدف التحالف هو نشر الدعوة الوهابية على اعتبارها عودة للإسلام الأصيل. وبعد ما نآل الأمير غرضه وأحكم نفوذه، تحالف مع الإنجليز واستعان بهم لقمع ثورة الإقصائيين، تلا ذلك صعود لشق الاحتوائيين، وهم الأكثر قابلية على التأقلم مع الوضع السياسي الجديد.
بالتالي، لم يكن النظام السعودي نظامًا دينيًا أو ثييوقراطيًا، بل تأسس على شراكة بين قطبين مستقلين نسبيًا عن بعضهما، فلا يمكن اعتبار سياسة أمراء السعودية منذ تأسيسها سياسة دينية، وقد مارس الأمراء سياسة احتواء للجانب الديني عبر موازنة توزيع الدعم والموارد للمؤسسة الدينية الرسمية.
نظام تعليمي في خدمة الصحوة
وبتطلع آل سعود لتحديث المملكة، في وقت كانت فيه المدارس الإصلاحية في العالم العربي في نشاط حركي وفكري كبيرين، متى تزامن هذا مع بروز تيارات فكرية ذات خلفية اشتراكية، وصعود القومية والشيوعية التي تبنتها نخب انتشرت في العالم العربي وتغذت من استيراد أنماط سائدة في المعسكر الشرقي – تيارات ألقت بظلالها على المجتمعات العربية على غرار المملكة، أين استشعر آل سعود خطر تمدد هذا الاتجاه في البلاد مع عدم وجود تيار قادر على مقارعته فكريًا لطبيعة المؤسسة الدينية الكلاسيكية.
بالتالي، أصبحت السعودية ملجئًا للبنّائيين “نسبة لحسن البنا”، ثم للقطبيين “نسبة لسيد ومحمد قطب” في مرحلة، ثم مستقر لهم في مراحل أخرى، لتصبح لهم أدوار جوهرية في الحراك الاجتماعي والتربوي السعودي، أين أُتيح للإخوان خصوصًا، وهم من طاردهم الحكام في بلدانهم، فرصة لكي يعملوا داخل أحد المجتمعات العربية، بالذات في قطاع التعليم. حيث أوكلت لهم مهمة إنشاء نظام تعليمي انعكس من خلاله نتاج رموز التيار الإسلامي واستوعب نشاطهم، وكان مرآة أفكارهم وتصوراتهم، التصورات التي أُشبِعت بحس الحركة والاندفاع نحو التغيير.
كان النظام التعليمي مزيجًا بين العقيدة الوهابية والأفكار الإخوانية، أين حملت هذه الأفكار المبادئ التي تأسست عليها الجماعة من نصرة المستضعفين وقضية معاناة المسلمين في كل البلدان، ما عدا المملكة التي لم يكن يشار إليها لعدم توفر فيها القضايا التي يمكن أن تتبلور من خلالها الأفكار الجديدة؛ ما دفع الكاتب لوصف الصحويين بـ”ثوار بلا قضية”.
سياق ملائم
بقيت مواقف الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ مدوية في وجه النظام السعودي، حيث انتقد الشيخ التحاكم للقوانين الوضعية. وكان مما ألّف في ذلك رسالة القوانين التي كانت طعنًا ضمنيًا في شرعية الحكم، ومارس دور الرقيب على المخالفات الشرعية التي اعتبرها العلماء سببًا لتسلل المظاهر التغريبية داخل المجتمع. لكن كان هذا النقد يفتقر إلى بنية تحتية اجتماعية يمكنها أن تقوم بدور التعبئة داخل المجال الديني، لعل هذا من الأسباب التي حدت بالشيخ محمد إبراهيم إلى الترحيب بالناشطين الإخوان المنفيين واعتبارهم تعزيزًا داخل المجال الديني.
اقرأ أيضًا: تلخيص كتاب سفر الحوالي: «شرح رسالة تحكيم القوانين لابن إبراهيم»
وقد فهم النظام السعودي أن منابع النقد الديني لا بد أن تجف كي لا يواجه تشكيكًا في شرعيته التي سعى دومًا لتكريسها، فسارع عشية وفاة الشيخ إبراهيم آل شيخ إلى تأسيس مؤسسة دينية رسمية على شكل هرمي، ووضع النظام قوانينها. اعتبرها الكاتب بمثابة، (فاتيكان) الميدان الديني، يرأسه بابا لقب ها هنا “بالوالد”.
حيث أخذت المؤسسة الدينية الرسمية شكلًا بيروقراطيًا متكونًا من كيانات تقاسمت صلاحيات المفتي السابق، وتُعتبر هيئة كبار العلماء أهم هذه الكيانات. ولتحييد العلماء الأقوياء، استعمل النظام مفهوم الإدارة الجماعية في الهيئات الدينية -الذي حسب تعبير لاكروا يعطي العلماء الضعفاء نفس صلاحيات العلماء الأقوياء-، لتكون يد السلطة السياسية محركة للتعيينات والرتب والترقيات من وراء ستار داخل المجال الديني وهذه المؤسسة، مع المحافظة دائمًا على تصوير المجال الديني كمجال مستقل. ومثلت الموارد التي كان ملوك السعودية يتولون توزيعها أداة أخرى لإحكام قبضة النظام على المؤسسة الرسمية، عبر الصفقات التواطئية التي تجمعهم بالمهيمنين على المجال الديني؛ ما يسهل عليهم استقطاب كل من يبرز في المجال أو استغلال توزيع الموارد الذي أصبح وظيفة الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، التي تملك النصيب الأكبر في الميزانية المخصصة للمجال الديني.
تجلت سيطرة النظام على المجال الديني عبر المصادقة المستمرة لكبار العلماء على القرارات الملكية، ففي حين كان موقف الشيخ إبراهيم آل الشيخ صريحًا مفاصلًا فيما يتعلق بالقوانين الوضعية، قيد تلميذه الشيخ ابن باز شرط التكفير بالاستحلال؛ أي بشرط أن تحلل الحكومة ماهو حرام صراحة في الشريعة.
توجهت المؤسسة الدينية الرسمية إلى تشجيع المبادرات والنشاط الدعوي داخل المجتمع، تزامنًا مع طفرة عائدات النفط، ما ساهم في انتشار الجمعيات والمنظمات في مجال متحرر من القيود داخل الإطار العقدي الوهابي الذي دعمت المؤسسة الدينية سائر الفاعلين فيه، وكانت الصحوة من أبرز المنتفعين بهذا الدعم؛ لما تتمتع به من مكانة خاصة في قلب النظام، ما ساعد على نمو النشاطات الصحوية الخارجة عن المناهج الدراسية بشكل كبير.
الجماعات وردة الفعل
نشأ من حراك الصحوة من جهة أربع جماعات هم: إخوان الصليفيح، وإخوان الفنيسان، وإخوان الزبير، وإخوان الحجاز، ومن جهة أخرى الجماعة السرورية؛ نسبة لمحمد سرور زين العابدين.
وكرد فعل للحراك الصحوي، برزت جماعات جديدة تحمل تصورات أخرى منها: أهل الحديث أو السلفية المحتسبة معلنين انتماءهم لمدرسة الألباني، مدرسة مثلت اتجاهًا خاصًا؛ حيث تكوّن من خلافها مع الإخوان -من جهة في مسألة العمل السياسي وأولوية تنقية العقيدة-، وخلافها مع المدرسة الوهابية -التي حسب رأي المدرسة الألبانية مقلدة للفقه الحنبلي لا اجتهاد لها-، تكوّن من مجمل هذه الخلافات وجهة جديدة لها موقفها الخاص، ومدرسة لها أتباعها.
أهل الحديث، أو ما اصطلح على تسميتهم بالسلفية المحتسبة، كانوا نقطة تطور في الحراك الجماعاتي وتفاعلهم مع النظام السياسي خاصة. تجلى ذلك من خلال شخصية ثورية انبثقت من هذا التيار، وهي جهيمان العتيبي الذي واجه الدولة السعودية بصيغة مباشرة لم تعهدها المملكة بذلك الوضوح. جهيمان، الذي كان امتدادًا لتراكم أفكار التمرد الإقصائي الذي قمعه آل سعود في بداية تأسيس حكمهم، حمل إرث أجداده و مضى به ثائرًا حاملًا لتصوره حول عدم شرعية الدولة السعودية، التي لم تكن أصلًا ذات شرعية من الزمن الذي خان فيه مؤسسها ما عاهد عليه أجداد العتيبي، ومرتكزًا لأحاديث نهاية العالم والمهدوية، ما دفعه للإقدام على حصار الكعبة صحبة أتباعه؛ ليدخل في صدام مسلح مع القوات السعودية التي استعانت بدورها بقوات فرنسية لإخماد التمرد.
لينتج بعد هذا الزلزال انشقاق في السلفية المحتسبة لطرفين: بقي الطرف الأول على موقفه الرافض لشرعية النظام السعودي، وقد تغذى من جهة التنظير بوجود أبي محمد المقدسي داعمًا له عبر كتاباته المستهدفة لشرعية المملكة، وطرف ثان انحاز بموقفه للنظام انحيازًا كاملًا، كان من أبرز رموزه ربيع المدخلي، وقد ركز هذا الطرف انتقاداته اللاحقة للصحوة.
التيار الجهادي والصحوة
أدى انفجار الجهاد في وجه الزحف الروسي الشيوعي إلى ولادة تيار جهادي يتجاوز الحدود المرسومة والقوميات المتقوقعة داخل خطوط سايكس-بيكو، لتتولد فكرة العالمية في العمل التحرري من براثن طغيان التقسيمات والحسابات المحلية. ومنذ الأيام الأولى للحرب، كان موقف الصحوة مُجمِعًا على استنكار العدوان الشيوعي، وقد شهد هذا التيار نشاطًا واسعًا داخل المملكة، ولمع من خلاله النجم الفلسطيني الثائر عبد الله عزام، وقد كان أحد الإخوان المدرسين في جامعات المملكة، وقد ساهم بمجهوده الفريد في تحريك العامل التحثيثي وإثارة شعور نصرة القضية الأفغانية، بعيون ترقب الأقصى الشريف، وطريق يبدأ من بيشاور إلى فلسطين. ولم يكن اعتبار الشيخ عبد الله للجهاد الأفغاني فرض عين على كل مسلم محل إجماع بين علماء الصحوة، حيث رفضه الأغلبية من شيوخها، مقدمين التصدق بتذكرة طائرة في بعض الأحيان على الذهاب إلى هناك. كما طفحت مبررات أخرى كاعتبار الأفغان أصحاب عقيدة غير صافية، والأولوية هي تربيتهم وتعليمهم التوحيد النقي، في الوقت الذي كانت رحى الحرب تحصد الملايين!
غلب على الصحوة عدم تبني عالمية الطرح والتركيز على محلية أو قطرية النشاط؛ ما أبرز البعد الوطني للتعامل مع قضية الجهاد الأفغاني، وهو عكس الطرح الجهادي الذي لاحت فيه المعركة في أفقها البعيد. ورغم أن القواعد الصحوية كانت رافدًا بشريًا مهمًا للجهاد الأفغاني، كانت قيادات الصحوة تخشى من خروج الأتباع عن سيطرتها، خاصة بعد تأسيس الشيخ عبد الله عزام لمكتب الخدمات لاستقبال المتطوعين للجهاد في بيشاور، ومول الشيخ أسامة بن لادن نشاط المركز، وهو الذي ينحدر من أحد أكبر عائلات المملكة ثراء، والذي كان حتى ذلك الوقت ناشطًا في إخوان الحجاز (حسب حوار دار بين لاكروا وجمال خاشفجي)، والذي سيكون له دوره المحوري في بقية مسار الجهاد العالمي.
إرهاصات انتفاضة الصحوة وموقفها من التيارات التغريبية
مع بلوغ الجيل الذي تربى داخل النظام التعليمي الصحوي سن الرشد، وقد أُشبِع بتربية فكرية وحضارية جديدة غيرت من نظرته للعالم ولمواقفه، تزامن هذا مع بروز قضايا على الساحة السعودية كانت الرافد الذي يمكن للأفكار الجديدة أن تحقق ذاتها من خلاله، من ذلك انخفاض سعر النفط؛ ما أدى لانكماش اقتصادي.
ومع نجاح الثورة الإيرانية، استشعر آل سعود بالخطر الإقليمي الذي يمكن أن يؤدي إليه صدى الثورة؛ لذا تصاعد منطق العداء للشيعة خلال هذه الفترة داخل المملكة.
كان انعكاس الأوضاع السعودية على طريقة استجابة جيل الصحوة لمستجدات القضايا موافقًا للموروث الأدبي والتنظيري لمفكري وشيوخ الصحوة، ليقع تفسير الواقع من خلاله.
لذا؛ تصاعد تداول الماسونية وهيمنتها على القطاعات الحساسة، وخطر التيارات الفكرية المعاصرة، وعلى رأسها العلمانية والهيمنة الأمريكية وبالتالي، هاجم الجيل الصحوي الجديد الجيل العلماني السابق الذي يتولى مناصب عليا في المملكة؛ على اعتبارهم نوافذ تهب عبرها رياح التغريب إلى المملكة.
كما خرج جيل الصحوة من المجالات التقليدية للتأثير ليتوجهوا إلى الملاحق الثقافية والنوادي الأدبية التي كانت تحت هيمنة النخب الليبرالية الحداثية، والتي لم يُتوقع أن تكون هدفًا لمثقفي الصحوة، فقد أصبحت تعج بهم مع بروزهم كمحاورين للأفكار المطروحة، معبرين عن رفضهم لهيمنة الحداثيين على المجال الثقافي؛ لتتصاعد أخبار المناضلين ضد الحداثة، ويبرز نجم المثقفين الصحويين في مواجهة خصومهم الحداثيين المستهجَنين في نطاق واسع، بالذات في المجال الديني؛ ما أحاط هذه المعركة بمتابعة واسعة وانخراط شعبي واهتمام في المجتمع السعودي، بالتالي تطلعات للقدرة التعبوية لمثقفي الصحوة.
تزامن مع هذا الصراع، صراع آخر. لكن هذه المرة داخل المجال الديني نفسه، بين العلماء التقليديين للمدرسة الوهابية المستأثرين بالأدوار داخل المؤسسة الدينية، وبين علماء الصحوة؛ فبرز سلمان العودة الذي انتشرت خطبه عبر شريط الكاسيت، وهو أسلوب جديد لم يكن إلى تلك اللحظة من الأمور المستساغة في المجال الديني. وكانت الانتقادات الموجهة للمدرسة التقليدية مبناها على بعدها عن فقه الواقع الذي يتم به الفهم الكامل للقضايا والمستجدات، ويعتبَر النصف المكمل لشروط الفتوى مع الدراية بالأحكام الشرعية، وهو الأمر المفقود عند التقليديين ويختص به علماء الصحوة.
من جهة أخرى، تصاعد استدعاء مفهوم الإرجاء ومهاجمته، بالتالي نقد تعامل التقليديين مع المؤسسة الحاكمة والسكوت عن تجاوزاتها. برز في هذا الغمار نشاط الشيخ سفر الحوالي ورسالته للدكتوراه «ظاهرة الإرجاء في التاريخ الإسلامي»، والتي أشرف عليها الشيخ محمد قطب. ثم استدعى الحوالي في بعض محاضراته كتيب «رسالة في تحكيم القوانين الوضعية»، وهو الذي ألفه المفتي السابق محمد إبراهيم آل شيخ؛ ليثبت مخالفة السعودية لأحاكم الشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية.
وبالتالي أصبح موقف التقليديين أكثر حرجًا. زاد موقفَ النظام صعوبة قرارُه باستدعاء قوات أجنبية لحماية المملكة من خطر صدام حسين، القرار الذي اعتبره علماء الصحوة أمرًا مرفوضًا بحكم الشرع والواقع، وصعّد من حدة المعارضة التي تتقد في واجهتين: واجهة مثقفي الصحوة في المجال الثقافي، وواجهة علماء الصحوة في المجال الديني.
بلغ الحراك السياسي الصحوي شوطًا متقدمًا خاصة بعد احتلال الكويت، عبر تقديم خطاب المطالب الذي أشار لأهمية وجود دستور يضمن الحقوق ويحدد الواجبات، والمطالبة بانتخابات -أو حسب تعبير لاكروا “ديمقراطية إسلامية”- تفضي إلى إنشاء مجلس شورى، حيث كانت نتاج هذا الحراك إصدار النظام الأساسي للحكم وإنشاء مجلس شورى يتألف من ستين عضوًا، وذلك سنة 1993.
قمع الصحوة ودور التيار الجامي
اضطرت السلطة إلى مواجهة كلا الطرفين، واستعملت الحداثيين لمواجهة مثقفي الصحوة من جهة، والمؤسسة الرسمية التقليدية التي اصطفت في جانب السلطة لمواجهة علماء الصحوة من جهة أخرى. بالتالي تسلح النظام بأطراف مثلت أبواق لشرعيته وشرعية كل ما سيمارسه خلال إجهاضه لانتفاضة الصحوة من إكراه، واعتقالات، وأحكام بالإعدام، والتضييق، واستغلال لنفوذ لمحاصرة الموارد المادية، والحد من التوظيف داخل المؤسسات الرسمية. ولكن يبقى أكثر أساليب النظام في قمع مخالفيه، وهو التيار الجامي.
الذي برز فيه ربيع المدخلي متزعمًا لأهل الحديث الموالين الذين كوّنوا وجهة دفاع شرسة عن السلاطين ومواقفهم، وأبواقًا تهتف بحياة ولي الأمر، ذاك الفريد المتفرد الذي لا يجوز نقده أو استنقاص رأيه، الذي له السمع والطاعة وإن تحالف مع الأمريكان، وإن أدخل جنودهم وبنى لهم القواعد الاستعمارية على أرض الحرمين، وإن تحالف ضد المسلمين في شرق الأرض وغربها، وإن ملأ البلاد جورًا وعدوانًا، يبقى مسموع الأمر مطاعًا. وتحول هذا التيار إلى مختص نقد أدبيات رموز الصحوة؛ فكل ما يقلق سمو الأمير المبجل وصاحب القصر المشيد هو من الفتن، يُخضِعه المداخلة إلى الجرح والتعديل لبيان ما به من أخطاء تنزع عن وليهم صفة القدسية. وازدهر نشاطهم في كتابة التقارير فيمن يعارض النظام، وإيصالها للدوائر الحكومية، مأجورين على جهودهم الحثيثة بدعم من المملكة، وتسهيل انتشار، وتقريبهم للقصور. من جهة أخرى استغل النظام ولاء بعض الأطراف الصوفية والشيعية من المهمشين داخل المملكة.
الإسلاميون بعد المعركة
أدى الصراع الذي خاضته الصحوة مع السلطة السعودية ومختلف التركيبات المدعومة منها، ووجود عوامل ذاتية ساعدت على تشظيها إلى ثلاث كيانات متنافسة حسب لاكروا، وهم: أتباع الصحوة الجديدة الداعية إلى العودة للنشاط الاجتماعي والتخلي عن السياسي، والليبرو-إسلاميين الذين يدعون إلى إصلاح جذري للنظام السياسي مع تجديد الخطاب الديني، والجهاديين الجدد الذين يرون -مع مواصلة انتقاد الحكومة السعودية- وجهة أخرى، وهي الحرب الشاملة مع الولايات المتحدة ودعم القاعدة.
أثر اعتبار وحدة المرجعية بين الإسلاميين عند الكاتب
يعتبر لاكروا أن الإسلاميين على اختلافهم يمثلون كينونة ومرجعية واحدة، وهي نظرة استشراقية، بالتالي فهم يتفقون على المبادئ ويختلفون حول الأولويات؛ حيث إن الصحويين والجهاديين يشتركون في معارضتهم للأنظمة مع رفضهم للهيمنة الأمريكية، ويعد هذا محور التقاء بين من يعمل في المجال المدني ومن يعمل في المجال المسلح على اختلاف مناهجهم؛ ما دفع الكاتب لاعتبار الشيخ أسامة بن لادن الابن الشرعي للصحوة بتأكيده “أن انتفاضة الصحوة هي أصل الجهاد العالمي الذي يستعد تنظيم القاعدة لتجسيده”، وهو النتيجة المنطقية لها.
أحدثت الصحوة اهتزازات داخل المجتمع السعودي، كان لها معنى الصحوة بعد الغفوة، انبعث منها حراك مختلف ومتنوع، وترك طابعًا مميزًا في جيل تفتحت مداركه على قضايا ورهان الحريات، والعلاقة مع السلطة، والحاكمية، ومواقف آل سعود مع القوى المهيمنة، كما صعدت لسطح الأحداث مواقف أخرى داعمة للسلاطين لها أثرها الكبير في عودة المجتمع للغفوة بطرق مبتكرة، لكن يبقى الحراك تحت الرماد، يمكنه الانبعاث من جديد حسب المستجدات في رهان كبير، وهو القدرة على التعبئة.
(المصدر: موقع “تبيان”)