بقلم إيثار جمال
بعد أن قضى الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر أو عبد الرحمن الثالث ما يقرب من 10 سنوات في الحكم؛ وطدّ فيها ملكه، وقوىّ هيبته بين الملوك المسيحيين في أنحاء شبه الجزيرة؛ فسعوا يخطبون ودّه، شرع الخليفة عام 325 هجريًاـ الذي وافق عام 936 ميلاديًا في بناء مدينة الخلافة غرب قرطبة التي كان عمرانها قد اتسع بشكل مطّرد؛ ليشبع شغفه بالبناء بمدينة تليق بمكانة الخليفة، وليستقبل فيها سفارات الغرب الأوروبي والعالم الإسلامي.
الزهراء أبهى المدن
أطلق الخليفة اسم «الزهراء» على مدينته الجديدة تفاؤلًا بازدهارها، أو ربَّما لكثرة ما يحوطها من البساتين الغنية بالزهور، الاسم أطلق خيال بعض المؤرخين، فنسجوا الحكايات حول ولعه بجاريةٍ سمّى المدينة باسمها، واستمر بناء المدينة 25 عامًا أخرى، هي ما بقى من حكمه، وواصل بناءها ابنه الحَكَم المستنصر بالله، وحين اكتمل بناؤها كانت قد بلغت ذروة عظمتها العمرانية والعلمية والفنية، واحتلت مكانة مرتفعة بين المدن الحضارية الكبرى، وتفوقت على مدن الأقطار الغربية.
وصف المؤرخون هذه المدينة، التي اعتبرت أبهى المدن في عصرها، وقد جلب الخليفة موادها من مدينة قرطاجنة في تونس الحالية، ووصل عدد سواريها الرخامية 4313 سارية كان الخليفة قد جلب بعضها من أفريقيا، وأهداه إمبراطور بيزنطة بعضها، بينما كان الباقي من الأندلس، بلغت مساحة الزهراء 200 ألف متر طولًا، و900 ألف متر عرضًا، وكان لها 15 ألف باب مزيَّنة بالنحاس.
وأقيمت في المدرج الأدنى من المدينة أسواقٌ وحمامات وخانات ومتنزهات وبيت المال ودار لصناعة الآلات والتحف والحليّ.
وكانت دور «الفتيان والصقالبة» والعبيد تقع غربي المدينة بينما تقع دور الوزراء وكبار رجال الدولة وأشراف الناس في شرقها. كانت المدينة تقع في جبال الوادي الكبير وقد قُسمت بشكل هرمي بحيث سكن أعلاها الخليفة وكبار رجاله، بينما عاش في أسفل الجبل العبيد وفقراء المدينة، وحين انتهي بناؤها كانت المدينة تضم 10 آلاف رجل يعملون في إدارة الدولة.
أجمل الطيور في قصر الخليفة
إنّي ذكرْتُكِ بالزّهراء مشتاقًا * والأفقُ طلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَا
وَللنّسيمِ اعْتِلالٌ في أصائِلِهِ * كأنهُ رَقّ لي فاعْتَلّ إشْفَاقَا
والرّوضُ، عن مائِه الفضّيّ مبتسمٌ * كما شقَقتَ عنِ اللَّبّاتِ أطواقَا* من شعر ابن زيدون
كان قصر الخلافة أول ما بُني في المدينة وتضمن 120 دارًا ومخزن، وكان يضمُّ مجلسين رئيسيَّن، الشرقيّ منهما كان «قصر المؤنس» ويشرفُ على البساتين والرياض، وزوِّد بحوضٍ من الرُّخام الأخضر، كان قد تم جلبه من القسطنطينية، ويُحيطه 12 تمثالًا من الدر النفيس تعجُّ المياهُ من أفواهها، أنتجتها دار الصناعة في قرطبة، أمّا المجلس الغربي فكان يُعرف بـ«قصر البديع» أو مجلس الذهب، وكانت جدرانه من القراميد المذهَّبة والرُّخام الملوَّن، وكان أرضيته من الرخام الصافي ويتوسطه حوض مذهب يُقال إن الناصر كان يملؤه بالزئبق. وكان للمجلس ثمانية أبواب معقودة بحنايا من العاج والأبنوس المرصَّع بالذهب.
ولم يكن هناك من القصور ما تماثل فخامته قصر الخليفة سوى قصر ابنه وخليفته الحكم المستنصر، ووزيره الأول جعفر الصقلبي، وكان يحيط بالقصر بساتين وحظائر للفُهود والنُّمور والسِّباع والفِيلة والزَّرافات وأبراج لمختلف أنواع الطيور وبحيرات للأسماك وحوض للسباحة.
مراسم استقبال طويلة للوفود الأجنبية
كانت مدينة الزهراء قد شُيِّدت أيضًا لاستقبال الوفود الأجنبية التي تدخل من «باب النصر» بصُحبة جنودٍ وعددٍ من المرافقين يقودونهم عبر الأزقة والقاعات والحدائق نحو قاعة الاستقبال الكبرى التي يجلسُ فيها الخليفة وحوله كبار حاشيته بالترتيب الأعلى فالأدنى، وتُقام مراسم استقبال طويلة كان الخليفة يحرص على إتمامها دائمًا، تتضمن تقديم السفراء التحية للخليفة وتتلوها بعض الخطب والأشعار التي تمدحه وتُثني على مكانته.
لوحة تمثل مراسم الاستقبال في قصر الخليفة
بعد أقلَّ من قرن.. المدينة أطلالًا
ذات يومٍ مشمس في عام 1069م كان ملك إشبيلية وقرطبة في عصر ملوك الطوائف يقفُ وحوله بعض جنوده في غرب مدينة قرطبة حين صارت له، وفي الموقع نفسه – غرب مدينة قرطبة – وقَفَ المعتمد على تلالٍ من الأنقاض التي ملأتها السحالي، وكانت هذه الأنقاض هي ما بقى من مدينة الزهراء؛ جدرانها المنقوشة والرخام والأعمدة مدّمرة في الموقع، كانوا يتأملون السكون – الذي أعقب ازدهار دام حوالي 80 عامًا في المدينة – بعد أن سقطت الدولة الأموية في الأندلس.
بعد وفاة الحكم المستنصر استولى على الحكم حاجبه المنصور محمد بن أبي عامر، ونقل الحكم إلى مدينة «الزاهرة» التي بناها لاحقًا، وسلب الزهراء نشاطها الإداري والاقتصادي.
وحين نشبت الفتنة وسقطت الدولة العامرية إثر مقتل عبد الرحمن شنجول بن المنصور محمد بن أبي عامر تعرَّضت قرطبة لنقمة الثوار الذين استباحوا دماء أهلها وعاثوا فيها فسادًا فشمل الخراب معظم عمائرها وهاجم الثوَّار ضمن ما هاجموا مدينة الزهراء عام 401هـ وذبحوا عددًا كبيرًا من أهلها في المسجد الجامع بالزهراء، وأضرموا النيران في قصورها وجامعها.
بقايا المدينة تُباع في الأسواق
اندثرت المعالم التاريخية للمدينة وبيع ما تبقَّى من أنابيب الرصاص وآلات الحديد وبقايا القصور لكبار تجار قرطبة وجُمعت التيجان والكسوات المرمرية المنزوعة من الجدران ولوحات الرخام والعاج والبللور واللوحات الخشبية ومصاريع الأبواب لتجار الأندلس وتوافد بعد ذلك رسل ملوك الطوائف الذين توًلوا الحكم في الأندلس لشراء هذه المواد بأغلى الأثمان، وأُعيد استخدام خرائب مدينة الزهراء في قصور بني عبَّاد في إشبيلية وبني ذي النون في طليطلة؛ حتى لم يبق منها سوى أطلال، مثلما لم يبق من الماضي الزاهر لمدينة قرطبة بأكملها سوى مكانة روحية؛ باعتبارها حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، وبمرور السنوات فرغت المدينة من محتوياتها، وأطلق عليها الإسبان قرطبة القديمة، وأخذت أطلالها تختفي تحت الردم مع مرور العصور.
البحث عن المفقود
فقط في عام 1911م، وكانت بعض البقايا لا تزال موجودة، بدأت الأعمال الأثرية للبحث عن آثار المدينة المفقودة وكنوزها المطمورة، تعاقبت الأعمال من أجيال من الأثريين على مساحة 112 هكتار، وحُفر ما يقرب من ثلث المدينة، وجُمعت بعض أعمدتها، واُعيد ترتيب النقوش عليها كما كانت، وحُملت المحتويات الأخرى إلى متحفٍ قريب من المدينة.
بقايا مدينة الزهراء
ويُعد أبهى الآثار الباقية منها بوابة قصر جعفر التي تعكس نقوشها الدقيقة هيبة ذلك العهد، وتنتشر حتى اليوم الكثير من بواقي أطر الأبواب في أطلال المدينة الباقية، وكما يظهر من بقاياها فقط استخدمت في بناء المدينة أحجارٌ رمليَّةٌ تشبه تلك التي بنى بها مسجد قرطبة، كما استخدم الرخام الأبيض المصنوع في البرتغال في بناء أعمدتها، وكشفت بقاياها عن إتقان نادر للحرفيين في نقش النباتات والكتابات العربية عليها.
حتى اليوم فإن ما تم العثور عليه لا يتجاوز 10% من المدينة، لكن كتابات المؤرخين المعاصرين لها وبعض الخيال يمكّن الناظر إليها من تخيل ما كانت عليه، ومن استكمال المشهد البادي أمامه.
هل كانت حقيقة أم أسطورة؟
يرى بعض الكتاب الإسبان أن التعرُّف على مدينة الزهراء الحقيقية يتطلَّب أن ننحي جانبًا بعض الأساطير التي نسجها خيال المؤلفين العرب، والتي تحكي أنَّ الناصر كان يملأ أحواض القصر بالزئبق لينعكس ضوء الشمس على جدران القاعات المغطاة بالذهب.
تتتابع جهود الخبراء والأثريين وهدفها إعادة بناء المدينة من جديد، بينما يرى الكاتب الإسباني الأشهر أنطونيو جالا أن ذلك غير ممكن، ويتساءل متهكمًا «كيف يمكنكم أن ترمّموا معلمًا لم يكن له نظير في مختلف بقاع وأصقاع الأندلس؟ كيف يمكنكم أن تعيدوا بناءَ تلك النافورات العديدة المرصُوصة التي كانت منتشرة في هذه المدينة السّاحرة؟ كيف ستجعلون المياه البلّورية الصّافية الزلاليّة التي كانت تتدفّق من فوهاتها بألوانٍ مختلفة كما كانت فيما مضى؟».
مع ذلك فإنّ حتى ما تبقى من المدينة، والذي اجتهد الخبراء على مدار عقودٍ لجمعه، مهدَّدٌ أيضًا؛ حيث يحذِّر علماء البيئة من امتداد التوسع بالمدينة الحضرية في قرطبة وتهديده لما تبقى من الزهراء، ويؤكدون أن الأولوية يجب أن تكون للمزيد من الحفر والتنقيب، لا لجذب المزيد من الزوار للمدينة؛ حتى لا تُفقد بقايا أخرى منها.