مقالاتمقالات مختارة

مدرسة الآسك الفقهية

بقلم محمد الصياد – مدونات الجزيرة

نسعى في هذه المقالة إلى رصد ظاهرة مدرسة الآسك الفقهية، بما يُشبه التأريخ لها، ورصد معالمها الفكرية، ومواطن ضعفها وعوامل انتشارها، وهل يصح اندراجها في جملة المدارس العلمية العريقة ذات الجذور الممتدة أم لا.

ظهرت مدارس فقهية وكلامية وفلسفية في التاريخ الإسلامي ما زالت موجودة حتى يومنا هذا، لها معالمها وخصائصها، ومنهجها الخاص، وأصولها الاستنباطية المعتمدة الراسخة، مثل مدرسة الأحناف والشافعية والمالكية في الدرس الفقهي. هذه المدارس لم تتبلور على يد شخص واحد فقط والذي يسمى المؤسِّس، بل تبلورت بالطريقة التراكمية، فمثلا: الإمام الشافعي هو مؤسس المذهب الشافعي وأصوله ومنهجه، بيد أن رأيه في المذهب قد يكون مهجورا، أو غير معتمد في المذهب، لأنه وضع الخطوط العامة والقواعد الكلية، ثمّ جاءت طبقة تلامذته فأضافت إلى القواعد والأصول، ونقّحت أقواله، وضمّنت بعض المستجدات والنوازل الفقهية، ثمّ جاءت طبقة تلامذة التلاميذ فكانت المدونات الحديثية قد استقرت وجُمعت كافة الأحاديث والآثار، فقارَنوا بين الأدلة الحديثية وأقوال المذهب، ووطدوا العلاقة بين النقل والعقل، وبين القواعد والآثار.

 المدارس الفقهية العريقة التي ترسم لنفسها الديمومة والاستمرار المستقبليّ -كي لا تبهت وتخفت وتكون مجرد حالة عامة- يجب أن توضح منهجها ومجال تخصصها ودوائر عملها وفهمها

ثمّ انتشرت المدرسة شرقا وغربا، فظهرت مدرسة بغداد، ومدرسة مصر، وأصفهان وهكذا. وكلّ مدرسة أضافت وهذّبت وشذّبت، ونقّحت في فروع المذهب وأصوله، حتى رسخ واستقر، عبر أجيال عديدة، وقرون ممتدة، واتضحت الأقوال المعتمدة من غير المعتمدة، وعُرف الراجح والمرجوح، والأصحّ والصحيح. فإذا قيل: مذهب الشافعي كذا، فلا يُقصد بذلك قول الشافعي وحده، بل قول المدرسة التي غربلت المذهب ونقحته واعتمدته خلال مئات السنين وعشرات الأجيال، وآلاف العلماء والفقهاء المتخصصين في الفقه والأصول والحديث والقواعد ممن خدموا المذهب كلٌّ في مجاله وميدانه، وهذه المدرسة اختارت الأقوال المعتمدة التي تخرج عنها، ولذا لا يمكن القول إنّ مذهب الشافعيّ في مسألة ما هو المذكور في كتابه الأمّ، بل هناك أقوال معتمدة اعتمدتها المدرسة لتكون ناطقة باسمها.

معالم مدرسة الآسك

انتشرت في الآونة الأخيرة بين جمهور شبكات التواصل الاجتماعي فتاوى مشايخ الآسك، وصارت هي الموجّهة للشباب، ومحددة لعقله الجمعي. وتلك المدرسة تذكرنا بمدرسة مشايخ أشرطة التسجيل في التسعينيات، أو مجموعة الدعاة الجدد في بداية القرن الحادي والعشرين، أكثر من تذكيرنا بالمدارس العريقة. سيما وأن تلك المدرسة تعتمد الفتيات والمراهقين، والفتاوى الوقتية، وأهم ما يميز تلك المدرسة أنها:

 – غير واضحة المعالم: فتجد فقيه الآسك يُفتي في علوم الحديث وفي دقائق الفقه، ويجعل من نفسه ميزانا يزن به العلماء السابقين واللاحقين، ويجيب عن أسئلة في التنمية البشرية والمشكلات الاجتماعية، وبعضهم تجاوز لحدود الجمال والعناية بالبشرة ونحو ذلك كما يدرك المتتبع لهم بأدنى تأمل. وهذه مشكلة منهجية، فالمدارس العريقة التي ترسم لنفسها الديمومة والاستمرار المستقبليّ -كي لا تبهت وتخفت وتكون مجرد حالة عامة- يجب أن توضح منهجها ومجال تخصصها ودوائر عملها وفهمها، أمّا الحديث في كلّ شيء تحت ظلال قدسية الدين والشريعة فهو إعادة تدوير لآفات السلفية القديمة التي انتقدتها تلك المدرسة نفسها، علاوة على أنه يُفقدها المنهجية العلمية الصارمة.

– مقطوعة الإسناد: بمعنى أنّ هذه المدرسة لا تُمثل أيًّا من المدارس العريقة، ولا تمتدّ بجذورها إلى حوزات وأروقة تعبّر عن ميراث الأمّة العلمي، وهذا طبيعيّ بسبب غياب وضوح المعالم، فلا هي فقهية ولا هي فلسفية ولا هي حديثية. علاوة على أنها لا تمتدّ بسلسلة إسنادها إلى أيّ من مدارس الأمّة السابقة، ولم تُغبّر أقدامها في الانكباب على المشايخ والفقهاء، ومعاشرة أهل العلم في التخصصات المختلفة. علاوة على أنها نشأت كحالة تمرد على السلفية التقليدية، أي أنها لا تمتدّ بأسانيدها حتى إلى السلفية التقليدية المعاصرة.

مما يجعل أطروحاتها على المحكّ العلمي والمنهجي بما يُسمى في أصول الفقه بالشذوذ الفقهي، ويُقصد به الأقوال الخارجة عن إجماع الفقهاء، أو عن المعهود والمتعارف والمستقرات الراسخة. فعدم وجود جذور لأيّ مدرسة علمية تجعلها غريبة على الساحة العلمية، وغير قابلة للاستمرار، لأن العناصر العلمية هي تراكمية بالأساس، ولا تعتمد على المفردات الطارئة والتفلسف الآني بقدر ما تعتمد على التراكمية المعارفية، المنبثقة من التحصيل فالإدراك فالملكة، فالانتشار، ثمّ الرسوخ والاستقرار والنضوج.

– الاهتمام بالفروع والجزئيات: تشابكت مجموعات الآسك العلمية مع المسائل الجزئية والدقائق والفروع الفقهية والحياتية، وجعلت منها حالة فكر ورواج لدى شباب شبكات التواصل الاجتماعي، وجاء ذلك على حساب الأصول والكليات التي تعتني بمعالم نهضة الأمة ومشروعها الفكري والحضاري. ولم تفرق تلك المدرسة بين الأحكام المبنية على الأعراف والعوائد وبين المبنية على فهم النصّ، وذلك ضعف في الإدراك الفقهي حسب القرافيّ.

لا ضير بمدرسة الآسك أن يجدد الرجل فكره وقناعاته كلّ سنة أو سنتين، أي أنّنا ربما نجدهم أنفسهم بعد برهة يعتنقون ذات الرأي الذي يهاجمونه اليوم

– التحولات الفكرية السريعة: مرت مجموعة الآسك بمراحل من التحولات الفكرية، ما قبل ثورات الربيع العربي، وما بعدها، ثمّ تحولت أفكارهم أكثر من مرة بعد خفوت الربيع العربي، وفي كلّ مرة تُصدّر رأيها على أنه القطعيّ الذي يُتهم مخالفه بالجهالة في الدين. وهذا يدلّ على الارتباك والاضطراب العلمي والمنهجي، وعدم استقرار ورسوخ المفاهيم في المدركات الذهنية، وعدم التفرقة بين الثوابت القطعية والمتغيرات الظنية. وتبرير هذه التحولات دوما بشواهد تاريخية بما يسميه وجيه كوثراني بالتبسيطية التاريخية والانتقائية التاريخية، وهي بتر الحدث التاريخي من سياقه العام ومجاله الأوسع.

ثم والأخطر من ذلك الهجوم على الآخرين الذين ما زالوا متمسكين بالطرح الذي كانوا يعتنقونه هم أنفسهم بالأمس القريب، فلا ضير عندهم أن يجدد الرجل فكره وقناعاته كلّ سنة أو سنتين، أي أنّنا ربما نجدهم أنفسهم بعد برهة يعتنقون ذات الرأي الذي يهاجمونه اليوم، فلماذا إذن الزجّ بالمناهج وليّ عنق النصوص والروايات والتاريخ، وحشد الأتباع في معركة ربما تتغير تبعاتها ومفاصلها بعد سنوات، ليتم وقتها حشد نفس الأتباع، وليّ عنق نفس النصوص ليُستدل على الرأي المخالف.

– الشخصانية: فلم تبلور مدرسة الآسك منهجا واضحا ومعالم صارمة لها، أو بصورة أخرى لم تعمل في إطار مؤسساتي بقدر ما عملت على تكوين الأتباع من خلال الاحتفاء والالتفاف حول الأشخاص ذوي المكانة والشهرة والنفوذ. مما يعني أن غياب هؤلاء الأفراد المؤثرين عن المشهد يجعل المدرسة عرضة للتفتت والانهيار نتيجة عدم وجود قواعد وأصول تجمعها ككيان حوزوي واحد.

الخلاصة

ومما سبق يمكن القول إن إطلاق لفظ مدرسة علمية على فقهاء الآسك هو من باب التجوز لأنها لم تستطع -على الأقل حتى الآن- بلورة منهج خاص بها، وأصول وقواعد معتمدة من رجالها. كذلك يمكن القول إنه بالنظر إلى معالمها الراهنة وإذا لم تنضج ويُسد مواضع الخلل فيها فهي غير قابلة للديمومة والبقاء كمدرسة علمية عريقة على غرار المدارس الفقهية والفلسفية المشهورة التي ورثتها الأمة عن الأجيال السابقة. ولا يصحّ الإيراد هنا أنها لم تدّع كونها مدرسة وإنما هي امتداد للمدارس العريقة في الأمّة، وهذا لا يسلم منهجيا فلا المناهج واحدة ولا القوم مؤهلون حسب خلفياتهم العلمية لفهم تلك المناهج والتعامل معها فلسفيا وعرفانيا وتفكيكيا، حتى ولو تقاطعت معها في بعض المشتركات. وهي في الحقيقة انعكاس للحالة التي يمر بها المجتمع المصري والعربي اليوم، من انهيار في العناصر الثقافية، وخواء النخبة والمثقفين، وانزواء القدوة العلمية عن فضاء شبكات التواصل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى