مقالاتمقالات مختارة

مدخل إلى السياسة الشرعية – أ.د. ماجد الدرويش

مدخل إلى السياسة الشرعية – أ.د. ماجد الدرويش

السياسة لغةً: فِعل السائس، وهو من يقوم على الدّواب ويروضُها(1)، وفيها معنى الرياسة، وأنشد ثعلب:
سادةٌ قادةٌ لكلٍّ جميعٍ — ساسةٌ للرجال يوم القتال(2)
واصطلاحًا: القيام على الشيء بما يصلحه(3)، وتطلق مجازًا على الحكم، يُقال: سُسْت الرعية ساسةً؛ أمرتُها ونهيتها(4)، وعلى القيام بالأمر(5) ورعاية الأمور(6). وهدف السياسة: التأليف بين الناس وجمع كلمتهم للتعاون فيما بينهم على أسباب المعيشة وضبطها بحيث لا يختل نظام الحياة(7).

عناصر السياسة

مفهوم السياسة يتضمن عناصر ثلاثة: 1- الرياسة والقيادة 2- القيام على الشيء بما يصلحه 3- الأمر والنهي، ولكل منها شروط وضوابط، فمن شروط الرياسة والقيادة: أن يكون الرئيس أو القائد أو الأمير عالـمًا قويًّا على القيام بأعباء المهمة الموكلة إليه، ويؤخذ هذا من قوله تعالى في قصة طالوت: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:47] فالآية ذكرت شرطين أساسَيْن في اختيار الإمام، الأول: العلم، والثاني: الجسم، ويقصد به سلامة حواسِّه من النقص وجسدِه من العاهات المؤثرة في الرأي والعمل بالإمامة أو التي تعيب صاحبها(8)، وينوَّه إلى أن البسطة والزيادة في العلم والجسم توحي بأنه كان أعلمهم وأقواهم على مقادير الملك، قال ابن كثير في الآية: (أي وهو مع هذا -أي مع اصطفاء الله تعالى له- أعلم منكم وأنبل، وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها، أي: أتم علمًا وقامةً منكم، ومن هنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه)(9) وأضاف العلماء شرط الذكورة (10) والحرية والعقل والبلوغ والشجاعة، وهذه كلها صفات جِبِلِّيّة، وأما الصفات المكتسبة فهي: العلم والورع.
أما العلم فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين مستجمعًا صفات المفتين، وهذا أمر مجمع عليه،(11) عند المتقدمين، ويقدم الأعلم من مستوفي الصفات في حال فقد هذا الشرط كما في زماننا، وأما التقوى والورع فلا بد منهما إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس فكيف يُولَّى على أمور المسلمين كافَّة؟ فإذا استجمع الإمام هذه الصفات الحسية والمعنوية، الجبلّيّة والمكتسبة، كان أهلًا لذلك المنصب، وجَمَعَ الناسُ أمرهم عليه، ونزلوا عند رأيه؛ ذلك أن الغرض الأعظم من الإمامة جمعُ شتات الرأي واستتباعُ رجل أصناف الخلق على اختلاف إراداتهم وأخلاقهم ومآربهم وحالاتهم(12)، فإذا لم يكن المتبوع بالمكانة التي يخضع لها المجموع فسيكون ذلك سببًا للخروج عليه وإثارة الفتن في ولايته، وهو عكس المقصود.
وأما العنصر الثاني في مفهوم السياسة -وهو القيام على الشيء بما يصلحه- فإنه يستلزم أن يكون القائم عليه مستجمعًا الصفات التي وردت في الإمام؛ ثم إنه ما ينبغي أن يغيب عن ذهننا أن صلاح الدين والدنيا إنما هو بشرع الله سبحانه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فيتفرع عن هذا المبدأ العنصر الثالث في مفهوم السياسة، وهو الأمر والنهي أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله تعالى به، والمنكر: كل ما نهى الله تعالى عنه؛ ذلك أن القيام على الشيء بما يصلحه يقتضي معرفة هذا الشيء معرفةً دقيقةً بماهِيَّتِه وأسباب صلاحه وفساده وإدراك كُنْهِ وجوده، فإذا تحصلت هذه المعرفة استطاع القائم عليه أن يُشَرِّع له ما يُصلحه ويؤدي إلى الاستفادة منه على الوجه المطلوب، وهذا أمر عام يشمل عظائم الأمور وحقيرها.
إن النفس البشرية -إذا تجردت عن الهوى- قد تكتسب عن طريق التجربة الطويلة شيئًا من معرفة هذه الحقائق، لكن قد تنقضي أجيال قبل التوصل إلى هذه الحقائق، من هنا كانت رحمة الله تعالى للبشرية التي تمثلت بإرسال الرسل وإنزال الشرائع، فوفّرت على البشرية كثيرًا من الجهد والتجارب التي قد تجر من الويلات ما هو مشاهد إضافة إلى صعوبة تجرُّد الْمُشرِّع من البشر عن هواه وحاجاته التي تؤثر في قراره؛ فتعين أن اتباع أمر الله تعالى في كل شيء عنصرًا أساسًا في السياسة الشرعية.

أهمية السياسة الشرعية

يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (إن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعةُ الآخرة، وهي الآلة الموصلة إلى الله عزّ وجلّ لمن اتخذها آلةً ومنزلًا لا لمن يتخذها مستقرًا ووطنًا، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين، وأعمالهم وحِرَفُهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام؛ أحدها: أصول لا قوام للعالم دونها وهي أربعة: الزراعة وهي للمطعم، والحياكة وهي للملبس، والبناء وهو للمسكن، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها)، ثم قال: (وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح، ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفّل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم -لا محالة- صاحبُ هذه الصناعة سائر الصنّاع)(13)، ثم ذكر بقية الأقسام وقسم السياسة إلى أربع مراتب:
المرتبة الأولى: وهي العليا، سياسة الأنبياء عليهم السلام، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا في ظاهرهم وباطنهم.
المرتبة الثانية: الخلفاء والملوك والسلاطين، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم.
المرتبة الثالثة: العلماء بالله عزّ وجلّ وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء، وحكمهم على باطن الخاصة فقط، ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم، ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع.
المرتبة الرابعة: الوعاظ، وحكمهم على بواطن العوام فقط(14).
قال الإمام الزبيدي: (وصلاح العالَم ونظامه بمراعاة هذه السياسات لتخدمَ العامّةُ الخاصةَ وتسوسَ الخاصةُ العامةَ، ثم إن السياسة في حدّ ذاتها على قسمين: سياسة الإنسان نفسه وبدَنه وما يختصُّ به، والثانية: سياسته غيرَه من ذويه وبلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه)(15) ويقول ابن خلدون رحمه الله: (إن حقيقة الخلافة نيابةٌ عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف في الأمرين؛ أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري، وقد قدّمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت، وقدمنا أن الْمُلك وسطوته كافٍ في حصول هذه المصالح، نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح)(16).

السياسة بين الإسلام والنصرانية

يقول الشيخ محمد تقي عثماني حفظه الله: (قد اشتهر عن النصارى أنهم يفرقون بين الدين والسياسة بقولهم المعروف: “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، فكأن الدين لا علاقة له بالسياسة، والسياسة لا ربط لها بالدين، وإن هذه النظرية في الحقيقة نوع من أنواع الإشراك بالله من حيث إنها لا تعترف للدين بسلطة في الحياة المادية، وإنما تقصر سلطة الدين على رسوم وعبادات يمارسها المرء في خَلْوَتِه أو في معبده، فكأن الإله ليس إلهًا إلا في العبادات والرسوم، وأما الأمور الدنيوية فلها إله آخر، والعياذ بالله؛ ولذلك ما زال الراسخون يردّون على هذا الكلام الزائف لأنّه لا مجال له في الإسلام الذي قرّر الأحكام الإلهية في جميع شؤون الحياة بما فيها السياسة والاقتصاد.

السياسة والعقيدة:

لما كان المسلمون يصدرون عن عقيدتهم سلوكًا ومبادئَ ومُثُلًا، كان ارتباط السياسة بالعقيدة ارتباطًا وثيقًا يضبط أصولها وتوجهاتها وأسبابها وشروطها وموانعها، وهو ما يعرف بفلسفة السياسة، فليست إقامة الحكومة الإسلامية هي المقصدَ الأصلي والهدف العامَّ لجميع أحكام الدين، بل هي وسيلة لتحقيق عبادة الله تعالى وتوحيده في الأرض، والوسيلة يجب أن ترتبط بهدفها صحةً وفسادًا وقبولًا وردًّا، فالغاية لا تبرر الوسيلة في السياسة الشرعية، بل إذا كانت الغاية شرعيّة فلا بدّ أن تكون الوسيلة كذلك.
وظيفة السياسة
وظيفة السياسة تربيةُ المواطن الصالح وتكوينه على القيم والمعاني الأخلاقية التي تكفل له الصلاحية للمواطنة الحقة في الدنيا على نحو يوصله إلى الفوز بالسعادة ونعيم الآخرة، وهذا يُظهر مدى ارتباط الدنيا بالدين والآخرة، ومدى ارتباط السياسة بالمثل العليا والقواعد الأخلاقية والمبادئ الإنسانية السامية، وهذا ما يعبر عنه بفلسفة السياسة وهي غير مبادئ السياسة، أما (فلسفة السياسة الوضعية) فقد فصلت بين الدنيا وبين السياسة والأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية السامية(17).
من القواعد الفقهية أنَّ (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)، وتلك هي وظيفة السياسة في الدنيا، فالمقصود بالمصلحة هنا ما فيه صلاح أمر الرعية لا المصلحة المرسلة التي لم يأتِ بحقها في الشرع اعتبار أو إلغاء، ومعناها أن نفاذ تصرف الإمام في رعيته متعلق بتحقيقه للمصلحة العامَّة، أي بما يُصلِحُ حال الرعية، وهذا يكون بحفظ دينها ومنع الأعداء من الهيمنة عليها بقدر وبالسهر على أمنها الديني والاجتماعي والاقتصادي وغيره؛ فالرعية ما اختارت هذا الحاكم إلا لحفظ هذه المصالح وللتصرف في شؤونها، فإذا فعل ذلك سرت أحكامه وأفعاله في الرعية ولزمتهم طاعته، وإن لم يفعل فمن حق الرعية خلعه لأنها هي ذات السيادة في اختيار الحاكم، وقد أشار ابن خلدون إلى أن سياسة الدنيا تتحقق بمقتضى رعاية الإمام لصالح الرعية في العمران البشري(18)، وذكر شيخنا محمد تقي العثماني حفظه الله تعالى(19) تعليقًا على حديث سريّة عبد الله بن حذافة السهمي وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ((إنما الطاعة في المعروف)): أن في أحاديث الباب –باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية- مبدأين عظيمين من مبادئ السياسة الإسلامية: الأول مبدأ طاعة الأمير، والثاني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي شرح المبدأ الأول ذكر أن هذه الطاعة مشروطة (بكون الأمر صادرًا عن مصلحة لا عن هوى أو ظلم؛ لأن الحاكم لا يطاع لذاته وإنما يطاع من حيث إنه متول لمصالح العامة، فإن أمر بشيء اتباعًا لهوى نفسه دون نظرٍ إلى مصالح المسلمين، فإنه أمرٌ صدر من ذاته وشخصه لا من حيث كونه حاكمًا، فلا يقع بمنزلة أمره من حيث كونه حاكمًا، ولذلك قال الفقهاء: «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة»(20). لكن كيف تدرك هذه المصلحة، يقول العزّ بن عبد السلام رحمه الله: (أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تُعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيءٌ طلب من أدلَّة الشرع، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طُلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المناسِبات والمصالح والمفاسد راجحَهُما ومرجوحَهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرِدْ به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حُكْمٌ منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبَّدَ الله به عباده ولم يَقِفْهُم على مصلحته أو مفسدته)(21).

الدعوة والسياسة:

حذَّر العلماء من استغراق الدعاة في السياسة والعمل لها على حساب العبادة، فالعبادة هدفٌ والسياسةُ وسيلةٌ لتحقيقها، يقول شيخنا محمد تقي عثماني حفظه الله: (ولكن بعض المسلمين الذين قاموا بالردِّ على العلمانية في عصرنا قد أفرطوا في ذلك حتى وقعوا في غلطة دقيقة قد قلبت الموضوع وسبّبت أخطاء كثيرةً في هذا المجال، وهي أنهم جعلوا السياسة وإقامة الحكومة الإسلامية هي المقصدَ الأصلي والهدف الأقصى لجميع أحكام الدين، فكأن أحكام العبادات وغيرها لا ترمي إلا إلى هدف واحد، وهو تأسيس حكومة إسلامية، وكأن العبادات والديانات كلّها وسائل لتحصيل هذا المقصد الأصيل، حتى إنهم قلَّلوا من أهمية العبادات، فجعلوها تدريبًا للغاية الأصلية -وهي تأسيس الحكومة الإلهية- وتمرينًا عليها)(22) قال: (وتولد عن هذه النظرة مفسدتان عظيمتان:
الأولى: اعتبار أن العبادات ليست مقصودة لذاتها وإنما لغاياتها التي هي الحكومة الإسلامية عندهم، مما يعني أنه لو اقتضت الظروف أن يُضحَّى بهذه الوسائل باختيار وسائل أخرى يُتوصل معها إلى ذلك المقصد المرموق، فإنه يمكن أن يُضحَّى بها، لكونها غير مقصودة.
والثانية: أن علاقة المرء بهذه الوسائل تكون علاقة عادية محدودة في نطاق الضرورة، فهو ينظر إليها على أنها مرحلةٌ انتقاليةٌ مؤقتة لا أنها غايةُ حياته، فلذلك تراه لا يعيش روح العبادة ولا يتلذذ بها ولا يطمئنّ إليها.(23) وهذا يُحدث عنده قساوة في القلب يتولّد عنها بُعْدٌ عن “جادة الإيمان بالغيب والحنين إلى الآخرة وطلب رضا الله والتفاني في حبّه؛ تلك الجادة التي وضعه عليها الأنبياء عليهم السلام، فيتحول إلى دَرْبِ طلبِ الحكم والعز والغلبة والوصول إلى الحكم، وبالتالي إلى الماديّة المجرّدة”  كما يقول الشيخ أبو الحسن النَّدْوي رحمه الله.(24)
من الكتَّاب من حمله حماسه في الردّ على العلمانية وتركيزه على الناحية السياسية من الشريعة على أن جعل الإسلام كله دينًا سياسيًّا بدل أن يجعل السياسة دينًا، والحق أن السياسة شعبة من شعب الدين كما أن الاقتصاد شعبة منه، وأحكام الدين متعلقة بالسياسة كما أنها متعلقة بالتجارة، ولكن ليس شيءٌ من السياسة والتجارة هدفًا جذريًّا لدعوة الإسلام ولا مقصودًا أصليًّا من وراء أحكامه وتعاليمه؛ فكما أن تعلُّقَ أحكام الشرع بالتجارة لا يستلزم أن تكون التجارة هي المقصودة من الدين كذلك أحكام الشرع المتعلقة بالسياسة لا تعني أن تُجعل السياسة مقصدًا أصليًّا للإسلام.(25) وهذا يؤخذ من قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، يقول الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله: (وضح بهذه الآية أن المقصودة بالذات هي الديانات، وأنّ شيئًا من السياسة والجهاد ليس مقصودًا أصليًّا، وإنما هو وسيلة لإقامة الديانة، ولهذا السبب قد أُعطِيَت الدياناتُ وأحكامُ الديانة لكل واحد من الأنبياء عليهم السلام دون استثناء أحد، ولم تُعْطَ السياسةُ والجهادُ لجميعهم، وإنّما أعطى الجهاد والسياسة لبعضهم حيث دعت الحاجة والمصلحة، وإن ذلك شأن الوسائل، فإنها لا تُعطى إلا لضرورة)(26)، ثم قال: (فاتضح بهذا أن السياسة وسيلة من الوسائل، والمقصود هو الديانةُ، وليس معنى ذلك أن السياسة ليست مطلوبةً إطلاقًا، وإنما أردت بهذا تعيين مكانة السياسة من الدين بأنها ليست مقصودةً بخلاف الديانة فإنها مقصودةٌ بذاتها)(27).

المبادئ الأساسية للسياسة الشرعية (28)

شرع الإسلام للسياسة أصولًا ومبادئ وأحكامًا عامة لا بد من رعايتها والمحافظة عليها في كل زمان ومكان، وأما التفاصيل الجزئية لنظم الحكومة فقد أُتيح للأمة الإسلامية أن تختار منها ما يلائم ظروفها في كل عصر ومصر، بشرط أن تكون تابعة في كل ذلك للأصول والمبادئ والأحكام التي شرعها الإسلام في نصوص القرآن والسنة وفي سنة الخلفاء الراشدين المهديين(29)، وهي:
أولًا- إنِ الحكم إلا لله:
بناء على هذا الأساس لا يجوز إصدار قانون يصادم أحكام الله سبحانه وتعالى المشروحة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهذا المبدأ هو الذي يميز النظام السياسي الإسلامي عن كل من الديمقراطية والدكتاتورية، فإن الديمقراطية تفوض الحكم إلى الشعب دون أي قيد، والدكتاتورية تفوضه إلى الحاكم، أما في الإسلام فإن سلطة الحاكم مقيّدة بالشرع، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثانيًا- نصب الإمام مفوض إلى اختيار أهل الحل والعقد:
ليست الخلافة وراثة كما الإمبراطورية، ولا مبنية على أساس القوة العسكرية كما الديكتاتورية، ولا مفوضة إلى رأي الجهال والحمقى كما في الديمقراطية الحديثة(30)، وإنما هي مفوضة إلى أهل العلم والخبرة والتجربة الذين لهم عقل ورأي في الأمور الاجتماعية، وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايَعُ هو ولا الذي بايعه تغرَّةً أن يقتلا)(31)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أي حذرًا من القتل، والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل)(32)، وفي مصنّف ابن أبي شيبة(33) أن عمر رضي الله عنه قال: (إني قد عرفت أن أناسًا يقولون: إن خلافة أبي بكر فلتةٌ، وإنما كانت فلتةً، ولكنّ الله وقى شرَّها، إنه لا خلافة إلا من مشورة)(34).
ثالثًا- يجب أن يكون الحاكم عادلًا:
وقد ذكرنا سابقًا الشروط التي يجب أن تتوفر في الحاكم فلا حاجة لإعادتها هنا، وهو على العكس تمامًا مما نجده اليوم من أنظمة الجمهوريات القائمة التي لا تشترط في رئيسها أوصافًا منضبطة من العلم والعدالة، فلا مانع في هذا النظام من انتخاب الجهّال والفسّاق الدعرة رؤساءَ دولة.
رابعًا- الحكم مسؤولية وليس مكسبًا:
الحكم مسؤولية وليس حقًّا يَطْلُبُ الرجلُ من ورائه منفعةً دنيوية، فالإمارة أمانة خطيرة بيد الحاكم، وعهدة كبيرة في عنقه، وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها))(35).
خامسًا- لا يفوَّض الحكم إلى من يطلبه:
في الإسلام طالبُ الولاية لا يُولَّى، وقد حدَّث عبد الرحمن بن سَمُرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتَها عن مسألة وُكِلْت إليها، وإن أُعطيتَها من غير مسألة أُعِنْت عليها))(36) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عزّ وجلّ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّا والله لا نُولّي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه))(37).
سادسًا- الشورى ووجوب المشاورة:
الشورى واجبة على الإمام بحكم قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] حتى ذكر الفقهاء أنه لو ترك المشاورة استحق العزل، وحكى ابن عطيّة فيه الإجماع، فقد نقل عنه العلامة أبو حيّان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) عند هذه الآية قوله: (إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف له). ولن ندخل في خلاف العلماء حول إلزامية الشورى أم عدمها فهو أمر يترك لتقديرات الظروف من حيث استجماعُ الإمام لشروط الاجتهاد وعدمُه.
__________________________________________________________________
(1) تاج العروس، مادة (س و س)، (8/322).
(2) المرجع السابق،.
(3) المرجع نفسه.
(4) المرجع نفسه.
(5) المرجع نفسه.
(6) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، (1/126).
(7) المرجع السابق.
(8) غياث الأمم للإمام الجويني، (91 – 92).
(9) تفسير ابن كثير، 1/450.
(10) المرأة مأمورة بأن تلزم خدرها، ومعظم أحكام الإمامة تستدعي الظهور والبروز فلا تستقل المرأة إذًا. (غياث الأمم: ص97).
(11) غياث الأمم، (94-95).
(12) المرجع السابق، (96).
(13) إحياء علوم الدين، (1/126 – 127).
(14) المرجع السابق.
(15) المصدر نفسه.
(16) مقدمة ابن خلدون، (202).
(17) دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، د. فتحي الدريني (1/348).
(18) مقدمة ابن خلدون، (31).
(19) تكملة فتح الملهم (3/323 -324).
(20) حاشية نزهة النواظر على الأشباه والنظائر للعلامة ابن عابدين، (137 – 141).
(21) القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام، (1/13).
(22) تكملة فتح الملهم، (3/270 – 271).
(23) المرجع السابق.
(24) التفسير السياسي للإسلام، ص (107) نقلًا عن تكملة فتح الملهم: (3/271).
(25) تكملة فتح الملهم (3/272).
(26) المرجع السابق.
(27) المرجع نفسه.
(28) هذا المبحث مأخوذ من كتاب تكملة فتح الملهم (3/273 – 277).
(29) ذكر شيخنا محمد تقي عثماني في مقدمة هذا الفصل أنه لا يوجد في الإسلام شكل خاص للحكومة ولا منهج خاص بجميع التفاصيل الجزئية. واعترض بعض مشايخنا على هذا الإطلاق بأن العلمانيين إنما يلجون من مثل هذه الإطلاقات لنفي أن يكون في الإسلام نظام حكم. وليس هذا ما قصده شيخنا هنا، لذلك ابتعدت عن هذا الإطلاق.
(30) سئل بسمارك عن مفهومه للديمقراطية، فقال الديمقراطية تعني أن عشرةَ حمير يغلبون تسعة بسمارك.
(31) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا، ح (6830).
(32) فتح الباري، (12/183).
(33) كتاب المغازي، باب خلافة أبي بكر.
(34) قوله (فلتةً) أي: فجأة. ومقصده من ذلك منع الناس من القياس على مبايعة أبي بكر التي كانت من غير سابق مشورة بين المؤمنين، وإنما كانت في وقتها بمبادرة من سيدنا عمر لتدارك الموقف، وقد سلم الله تعالى بأن رضي الله المؤمنون جميعًا بذلك، وأما بعد ذلك فلا يُبايع إمام إلا بعد مشاورة أهل الحلّ والعقد.
(35) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة لغير الضرورة.
(36) مسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها.
(37) المرجع السابق.

(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى