مقالاتمقالات مختارة

مخططات التغيير الجغرافي والديموغرافي في مدينة القدس – د. تيسير التميمي

تدرك سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن محاولات الجماعات اليهودية المتطرفة اقتحام المسجد الأقصى المبارك ووضع حجر الأساس للهيكل المزعوم في ساحاته بدعمها وحمايتها قد باءت بالفشل، وذلك بفضل تصدي المصلين من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يصرون على شد الرحال إلى مسجدهم ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلجأت إلى منع أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة الوصول إليه، ومنعت من هم دون الخامسة والأربعين أو الخمسين من المقدسيين أن يدخلوه، وحاولت إحداث الخلل الديموغرافي في مدينة القدس بشتى الوسائل فصادرت أراضيها لإقامة المستوطنات عليها وأحاطتها بجدار الفصل العنصري؛ لتنفذ فيها ما تشاء من المخططات التهويدية بعيداً عن الأنظار، وسعياً منها إلى الاستفراد بالمسجد الأقصى المبارك والكيد له بالنسف أو الهدم والتقويض على حين غفلة من أبناء الأمة.

تعتبر سياسة تفريغ القدس من أهلها أبرز ما اتبعته سلطات الاحتلال الإسرائيلية لتحقيق أطماعها؛ كما صنعت قبل أكثر من قرن؛ حيث سعت المنظمات اليهودية المنبثقة عن الحركة الصهيونية العالمية جاهدة لتمويل التسلل اليهودي إلى فلسطين عبر الهجرة المكثفة تمهيداً لإقامة دولتهم فيها، فأسلوب التهجير القسري والترحيل الجماعي والإبعاد وتدمير القرى وارتكاب المذابح البشعة؛ كانت سياسة مرسومة وعملية مقصودة هدفت إلى إيجاد أكثرية يهودية في فلسطين، فتسارعت موجات الهجرة المكثفة منذ صدور وعد بلفور عام 1917، وزحف اليهود إليها بالآلاف؛ مما أسهم في إحداث خلل ديموغرافى لصالح اليهود شيئاً فشيئاً حتى بلغت نسبتهم عام 1998 أكثر من 68 %، مقابل انخفاض نسبة الفلسطينيين إلى 32 %؛ على الرغم من ارتفاع نسبة النمو السكاني بين الفلسطينيين. وأدى هذا الخلل بدوره إلى إحداث خلل جغرافي بالاستيلاء التدريجي على أراضيها وبالأخص الزراعية، فبلغت مساحة الأراضي المحتلة عام 1948 أكثر من 76 % من أرض فلسطين، ولا زالت عمليات ابتلاع المساحات الشاسعة منها مستمرة.

هذا في أرض فلسطين التاريخية، أما مدينة القدس المباركة على وجه الخصوص فالمؤامرة عليها كبيرة، ابتدأت خطة تغيير معالمها وتفريغها من أهلها الفلسطينيين بعد وقوعها في براثن الاحتلال عام 67 مباشرة، وذلك بالعمل الدؤوب على توسيعها ورسم حدود جديدة لها ومصادرة آلاف الدونومات من أراضيها ومن محيطها، منها على سبيل المثال:

* في 11/6/1967 هدمت سلطات الاحتلال الغاشمة حي المغاربة ودمرت 135 منزلاً وطردت 650 مواطناً مقدسياً بذريعة توسيع ساحة البراق لصالح المصلين اليهود.

* وفي شهر كانون الثاني من عام 1968م قامت بمصادرة 3830 دونماً لإنشاء المغتصبات على طول الخط الأخضر الذي كان يفصل بين جزئي مدينة القدس لإزالته بشكل نهائي.

* وفي 18/4/1968 استصدر وزير المالية الإسرائيلي قراراً باستملاك 116 دونماً وسط المدينة لاستخدامها في الأغراض والمصالح العامة، واستولى بعد ذلك على الممتلكات الفلسطينية الممتدة ما بين حي المغاربة وحي الأرمن وأسكن فيها يهوداً مكان سكانها المقدسيين.

* وفي الشهر ذاته قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بمصادرة 881 دونماً في البلدة القديمة من القدس لإقامة الحي اليهودي فيها، وحتى نهاية عام 1970 كانت سلطات الاحتلال قد نزعت ملكية حوالي 30% من مساحة القدس الشرقية.

* وفي عام 1987 أقدم شارون على احتلال مبنى مهم في أحد الأحياء الإسلامية في القدس؛ فكان له أثر في إيجاد أكثرية يهودية في قلب القدس لأول مرة؛ إذ بلغ عددهم عام 1993 أكثر من 160 ألفاً مقابل 155 ألف فلسطيني، وما زال عدد اليهود فيها يتزايد مقابل تناقص عدد الفلسطينيين بشكل ملحوظ.

* وفي عام 2004 أعلنت سلطات الاحتلال عن مصادرة 2000 دونم من أراضي قرية الولجة جنوبي القدس.

* وأعلنت أيضاً عن مخطط استيطاني يبتلع جميع أراضي بيت إكسا شمال غربي القدس المحتلة ويبقي لأهلها فقط ألف دونم هي المنطقة المصنفة فقط.

لم تتوقف عمليات مصادرة أراضي مدينة القدس والاستيلاء على بيوتهم، مما أدى إلى تضييق الخِناق على المقدسيين لتهجيرهم قسراً من مدينتهم وأراضيهم وديارهم، في حلقة من سلسلة حلقات شرسة تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بهدف تهويد المدينة المقدسة، فالتطهير العرقي وتفريغ القدس من أهلها الفلسطينيين مخطط خبيث كانت تجتهد سلطات الاحتلال الإسرائيلية في تنفيذه بسرية تامة بعيداً عن أعين الناس والإعلام بل والعالم، نفذته حكوماتها المتعاقبة عبر عدة مراحل منذ عام 1950 بإعلان القدس عاصمة لها، ثم بقرار توحيدها بشكل كامل في 28/6/1968م، وبإقرار الكنيست القانون الذي يعتبرها العاصمة الأبدية في 30/7/1980م.

أما اليوم فلم تعد إسرائيل تكترث للعالم ولا للإعلام فهي ماضية في مخططاتها الاستيطانية ضد مدينة القدس بصورة علنية، حتى القرار التاريخي الذي صدر مؤخراً عن مجلس الأمن الدولي لن يثنيها عن المضي في مخططاتها ضد مدينة القدس ما لم يجد طريقه إلى التنفيذ بجهود فعلية من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمجتمع الدولي، بل سيكون كمئات القرارات السابقة التي وضعت على الرف.

وتعتبر هذه القرارات وأمثالها انتهاكات إسرائيلية صارخة، وتحديات صريحة للقوانين والاتفاقيات الدولية التي تنظم العلاقة بين سلطات الاحتلال والبلاد الخاضعة لها، والتي اعتبرت القدس مدينة محتلة، ولكن وعلى الرغم من تنديد مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة بها واعتبارها لاغية؛ إلا أن إسرائيل مضت في تنفيذ خطتها بالاستيلاء على الأرض وتفريغها من أهلها الفلسطينيين، متذرعة بحجج وادعاءات واهية، وأنى لها أن تعبأ بالعالم أجمع وبمن فيه وقد حظيت بالدعم الكامل من الإدارة الأمريكية؛ وبالعجز الملحوظ من المجتمع الدولي عن مساءلتها.

لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلية أيضاً إلى خطوة خبيثة بتخيير المقدسيين بين الحصول على الجنسية الإسرائيلية أو الاكتفاء ببطاقة الإقامة الدائمة التي تخضع لشروط وزارة الداخلية وموافقتها؛ هادفة بذلك إلى كسر الوحدة وشق الموقف الوطني الفلسطيني في القدس وخلق فتنة داخلية، وإلى تطهير القدس وتنظيفها من العرق غير اليهودي.

والخياران أحلاهما مر، فالجنسية الإسرائيلية وإن كانت تعني البقاء في القدس بصورة قانونية مضمونة؛ إلا أنها تعني الرضا والتسليم بتضييع هويتها وفرض الهيمنة الصهيونية عليها، ولذا يشكك المقدسيون في وطنية من يحاول الحصول عليها، وأما البطاقة الزرقاء المؤقتة فهي تعني تصريحاً بالإقامة الدائمة في القدس، لكنها في ذات الوقت عرضة للسحب والإلغاء في أي وقت بدون إبداء الأسباب؛ إذ إنها خاضعة لمعايير وشروط إسرائيلية دائمة التغير، وتتصف بالسرية بدليل فشل منظمات حقوق الإنسان وعجز المحامين عن تحديد هذه المعايير، وبدليل رفض وزارة الداخلية إعطاء المعلومات عن عدد من سحبت هوياتهم وألغي حق إقامتهم في القدس، ومع ذلك تشير بعض الإحصائيات إلى أن أكثر من مائة وعشرين ألف فلسطيني مقدسي مهددون بالترحيل من القدس. ويعتبر سحب هويات المقدسيين إجراءً عدوانياً على حقوقهم المدنية ويعني تجريدهم من حق المواطنة في مدينتهم التي عاشوا وأقاموا فيها منذ آلاف السنين. ويعني أيضاً ضياع حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

وكما هو متوقع  فقد اختار المقدسيون الفلسطينيون البطاقة الزرقاء؛ حفاظاً على هويتهم ومواطنتهم ووطنيتهم، ومع ذلك فقد أمعنت سلطات الاحتلال في التضييق عليهم بشتى السبل لإرغامهم على الهجرة منها، ففرضت عليهم الضرائب الباهظة، ومنعتهم توسيع منازلهم أو بناء غيرها، وهدمت بيوت كثير منهم، ورفضت منحهم رخصاً للبناء، وعرقلت معاملات جمع الشمل التي تتقدم بها المقدسيات ممن تزوجن فلسطينيين غير مقدسيين فرفضت معظم الطلبات، وفرضت وزارة الداخلية إجراءات تعسفية مشددة على من يسعون إلى الحصول على البطاقة الشخصية لهم أو لأطفالهم أو تجديدها، واعتمدت أساليب الإحباط المتنوعة كالروتين لدفعهم إلى الملل واليأس وترك المطالبة بها.

ولإضفاء الصفة القانونية على هذه الإجراءات أصدر رؤساء ما يسمى ببلدية القدس المتعاقبون منظومات من القوانين المنظمة للوجود السكاني في القدس والتي تستهدف المقدسيين الفلسطينيين، ولعل أخطرها قانون الهجرة والدخول والخروج، فهو سري غير معلن رسمياً؛ وبموجبه تمنح وزارة الداخلية أو تمنع بطاقات الهوية الزرقاء وتصاريح الدخول والخروج من وإلى مدينة القدس المباركة.

إن هذا الخلل بشكليْ الجغرافي والديموغرافي الذي تحدثه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس المحتلة دليل آخر على أنها دولة استيطانية توسعية احتلالية إحلالية، تمارس سياسة التفريغ والتهجير والإبادة لتحقيق مزاعمها بأن فلسطين وطن بلا شعب، وأنها الأرض التي وعدوا بها، فإن صدقوا فما دليل ادعائهم ؟ قال تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} آل عمران 93-94. بل إن في التوراة ذاتها الدليل على أن مدينة القدس وفلسطين لم يكن فيها لليهود يوماً أي أثر أو وجود، ثم إن حادثة الإسراء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المبارك وصلاته بجميع الرسل إماماً فيه تأكيد على الهوية الإسلامية لمدينة القدس، قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء 1.

(موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى