مقالاتمقالات المنتدى

مختارات من كتاب الوسطية في القرآن الكريم .. هدي القرآن الكريم في تعدُّد الزوجات

مختارات من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

هدي القرآن الكريم في تعدُّد الزوجات

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إن قضية تعدُّد الزوجات دلالة واضحة على وسطيَّة القرآن وهدايته للتي هي أقوم، ومعلمٌ من معالم الشريعة الغراء في رفع الحرج عن الأمة، وعلامة على اليسر والسماحة في هذا الدين، لقد أتى القرآن الكريم في هذه المسألة بالكمال، وفي كل المسائل ليبرهن بالأدلة المحسوسة على وسطيَّة القرآن في التشريع، وعلى إعجازه في إصدار الأحكام والتكاليف، وحتى لا يشك عاقل في كون القرآن الكريم تنزيلاً من حكيم حميد.

وإليكم ما قاله العلامة محمد الأمين الشنقيطي في هذه المسألة في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] حيث قال: (ومن هدي القرآن للتي هي أقوم إباحة تعدد الزوجات، وأنَّ الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن؛ لزمه الاكتفاء بواحدة، أو ما ملكت يمينه، كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولا شك: أنَّ الطريق التي هي أقوم وأعدلها، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء.

منها: أنَّ المرأة الواحدة تحيض وتمرض وتنفس، إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة، فلو حبس عليها في أحوال أعذارها؛ لعطلت منافعه باطلاً في غير ذنب. ومنها: أنَّ الله أجرى العادة بأنَّ الرجال أقلُّ عدداً من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضاً لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قصر الرجل على واحدة لبقي عددٌ ضخم من النساء محروماً من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة، فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم المحافظة على الشرف والمروءة والأخلاق، فسبحان الحكيم الخبير!

ومنها: أن الإناث كلهن مستعداتٌ للزواج، وكثيرٌ من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم، فالمستعدون للزواج من الرجال أقلُّ من المستعدات له من النساء؛ لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر، وعدم القدرة على لوازم النكاح، فلو قصر الواحد على الواحدة؛ لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضاً بعدم وجود أزواج، فيكون ذلك سبباً لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة والانحطاط الخلقي، وضياع القيم الإنسانية كما هو واضح، فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن وجب عليه الاقتصار على واحدة أو ما ملكت يمينه؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهنَّ لا يجوز لقوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].

أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض، فهو غير مستطاع دفعه للبشر؛ لأنه انفعال وتأثر نفسي لا فعل، وهو المراد بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129]. وأما ما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء الإسلام من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة؛ لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين؛ سخطت الأخرى، فهو بين سخطتين دائماً، وأن هذا ليس من الحكمة؛ فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل؛ لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه البتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة، فهو أمر عاديٌّ ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدُّد الزوجات من صيانة النساء، وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام؛ لأن المصلحة العظمى يقدَّم جلبها على دفع المفسدة الصغرى.

فلو فرضنا: أن المشاغبة المزعومة في تعدُّد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة؛ لقدِّمت عليها تلك المصالح الراجحة، فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها، فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريعٌ حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر. وتحديد الزوجات بأربع تحديدٌ من حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلَّة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع).

هذا دفاع عظيم في قضية تعدُّد الزوجات، وتعمَّدت الإطالة في هذا المبحث؛ لِمَا ظهر فيه من آراء وأفكار مستوردة من الغرب للهجوم على الشريعة الغراء، وقد أعجبني كلام نفيس للأديب المفكر سيد قطب ـ رحمه الله ـ في ظلال القرآن عندما قال: (إن الإسلام نظامٌ للإنسان، نظامٌ واقعيٌّ إيجابيٌّ يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان وشتى الأحوال. إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقعه الذي هو عليه؛ ليرتفع به في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة في غير إنكارٍ لفطرته أو تنكُّر، وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال، وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف.

إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء، ولا على التطرف المائع، ولا على المثالية الفارغة، ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخَّر في الهواء، وهو نظام يراعي خُلق الإنسان ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع تحت مطارق الضرورة التي تصدم بذلك الواقع، بل يتوخى دائماً أن ينشئ واقعاً يساعد على صيانة الخلق ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد والمجتمع، فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي؛ ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات، فماذا نرى؟

نرى أولاً: أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة تاريخية وحاضرة تبدو فيها زيادة النساء الصالحات للزواج على عدد الرجال الصالحين للزواج، والحد الأعلى لها الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيّاً: أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد، وهو يدور دائماً في حدودها، فكيف يعالج هذا الواقع الذي يقع، ويتكرر وقوعه بنسب مختلفة، هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين، أو نتركه يعالج نفسه بنفسه حسب الظروف والمصادفات؟ إن هز الكتفين لا يحل مشكلة، كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جادٌّ يحترم نفسه ويحترم الجنس البشري.

لابدَّ إذاً من نظام، ولابد إذاً من إجراءٍ، وعندئذٍ نجد أنفسنا أمام احتمالٍ من ثلاث احتمالات:

1 ـ أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج … ثم تبقى واحدة أو أكثرـ حسب درجة الاختلال الواقعة ـ بدون زواج، تقضي حياتها ـ أو حياتهن ـ لا تعرف الرجال.

2 ـ أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجاً شرعيّاً نظيفاً، ثم يخادن أو يسافح واحدةً أو أكثر من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال، فيعرفن الرجل خديناً، أو خليلاً في الحرام والظلام.

3 ـ أن يتزوج الرجال الصالحون ـ كلهم أو بعضهم ـ أكثر من واحدة.. وأن تعرف المرأة الأخرى زوجة شريفة في وضح النور لا خدينة، ولا خليلة في الحرام والظلام.

الاحتمال الأول ضدُّ الفطرة، وضدُّ الطاقة بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدَّق به المتشدِّقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب، فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتطرِّفون، الجهال عن فطرة الإنسان، فألف عمل وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، أومطالب الروح والعقل، من السكن والأُنس بالعشير، والرجل يجد العمل، ويجد الكسب، ولكن هذا لا يكفيه، فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل ـ في هذا ـ فهما من نفسٍ واحدة.

والاحتمال الثاني ضدُّ اتجاه الإسلام النظيف، وضدُّ قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضدُّ كرامة المرأة الإنسانية، والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم يتعالون على الله، ويتطاولون على شريعته؛ لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول، بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كلَّ تشجيع، وتقدير. والاحتمال الثالث: هو الذي يختاره الإسلام، رخصة مقيَّدة لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هزُّ الكتفين، ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء، يختاره متماشياً مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو بفطرته وظروفه وحياته ـ ومع رعايته للخُلق النظيف، والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمَّة السامقة، ولكن في يسرٍ ولين وواقعية).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى