مختارات من كتاب (التأويل الحداثي للتراث) – د. إبراهيم السكران
إعداد د. بسام الصفدي
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه مختارات من كتاب (التأويل الحداثي للتراث) للشيخ إبراهيم السكران.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- مشروع طه عبد الرحمن ليس في جوهره مشروع علم كلام يسعى لبرهنة العقائد الإيمانية بالحجاج العقلية، ولكن جوهر رسالة طه عبد الرحمن التي تدور حولها كتبه: تقديم سند فلسفي حديث للتصوف. ص10.
2- في كتب الحداثيين العرب ومصادرهم الاستشراقية تفاصيل كثيرة في وسائل التفسير وصيغ القراءة وأنماط الاستنتاجات، إلا أنه اتضح لي أيضا أن نقطة نهاية الطريق في عامة هذه التفسيرات تصل بالقارئ إلى نهايتين: إما رد علوم التراث الإسلامي إلى كونها اقتراض من ثقافات سابقة كتابية أو هيلينية أو فارسية أو غيرها، دون برهنة ملموسة على ذلك؛ أي اعتبارها وافدة، وهو ما يمكن تسميته (تقنية التوفيد)، وإما رد علوم التراث الإسلامي إلى أنها حصيلة صراع سياسي وليست حصيلة نظر موضوعي حسب مقتضيات الدلائل العلمية، دون برهنة ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن تسميته (تقنية التسييس).
فهاتان التقنيتان التفسيريتان؛ أي: توفيد الأصيل وتسييس الموضوعي لاحظت أن عامة الاستشراق الفيلولوجي يؤول إليها، وعامة من أخذ عنهم من الحداثيين العرب إنما يعيد إنتاجهما. ص12-13.
3- طالب العلم الشرعي المنهمك في التخصص يغلب عليه الاستغراق في المحور الموضوعي لمسائل العلم، بينما المثقف العام تخلب فضوله روايةُ نشأة علم من العلوم وأحداثه الكبرى والاستعراضات التاريخية لمؤسسيه وملهميه. ص41.
4- يبدو ملموسا فعلا أن المزاج العام لاهتمامات المستشرقين يميل لعدم المشاركة الموضوعية المباشرة في العلوم الإسلامية، ولكن يستحوذ على اهتمامهم دراسة تاريخ العلم نفسه، وهذا الميل ذاته يلاحظه المراقب أيضا بين الحداثيين العرب الذين كتبوا في برامج إعادة قراءة التراث. وهذا لا يعني طبعا أن المعنيين بتاريخ العلم لا يطرحون رؤية في موضوعات العلم، بل إنهم يطرحون ولكن بشكل غير مباشر، وذلك من خلال دور المقيم، فالتقييمات المتناثرة التي يضخها مؤرخ العلم بين ثنايا روايته تتضمن رفعا لمدارس ومناهج ووضعا لأخرى، وتثمينا لرموز وتهجينا لآخرين، وتكثيفَ حضور أسئلة وتغييبا لأخرى، ونحو ذلك، وهذه كلها تحمل في داخلها محتوى موضوعي يتشربه القارئ وتتغير من خلاله اتجاهاته ونمط تفكيره دون شعور كاف؛ لأن القارئ عادة أقل احتراسا وممانعة تجاه الرسائل غير المباشرة، ولذلك فإن كتب تأريخ العقيدة التي يكتبها مؤرخون مستشرقون أكثر تأثيرا من كتب مسائل العقيدة التي يكتبها علماء من خارج أهل السنة. ص44.
5- قال الشيخ السكران في سياق كلامه عن أحمد أمين وسلسلته المشهورة (فجر الإسلام وضحاه وظهره ويومه): والحقيقة أن سلسلة أحمد أمين هذه كادت أن تكون إضافة علمية مميزة في تأريخ التراث لولا أنه كان مهزوما أمام تحليلات المستشرقين، مذعنا لطعونهم في العلوم الإسلامية وخصوصا السنة النبوية.. ولكنه والحق يقال كان يعيد عرض التحليلات الاستشراقية بلغة دبلوماسية غالبا فلا يجرح القارئ ولا يثير سكينته وهو يدني تحته الطبق المسموم. ص50.
6- يلاحظ لدى حسن حنفي خصوصا، والمشروعات الحداثية الكبرى لقراءة التراث عموما كثرة النقول والاقتباسات والمعلومات التي ينقلونها أحيانا من العلوم الإسلامية بشكل مستغرب، برغم أنها في غالبها ليست للبرهنة على أصل الفكرة، وقد يتساءل بعض القراء عن تفسير ذلك؟ والحقيقة أن الدافع المضمر خلف هذه العملية إنما هو الرغبة في عرض بطاقة ترخيص لمزاوله التحريف أمام القارئ، فهي في حقيقتها تتغيا الإيحاء للقارئ بأن المؤلف يعرف هذا العلم وبالتالي فيحق له طرح الشذوذات المخالفة لبدهيات هذا العلم. ص63.
7- الجابري بحسب متابعتي هو أول حداثي عربي يكتب برنامجا شاملا في التراث وعينه على القارئ الإسلامي/ السلفي يستهدف تغيير مساره. ص84-85.
8- كان العلمانيون قبل الجابري يستعملون أسلوب المراغمة والمناكفة، ويقدحون في الأحكام الشرعية قدحا حادا صريحا جارحا لمشاعر القارئ المسلم= فانعطف الجابري إلى أسلوب آخر تماما. ص86.
9- خلاف قديم متجدد بين العلمانيين: هل نطرح العلمانية بصورة مباشرة ونفصل الشريعة بكاملها عن الدولة ونجعل الدين علاقة روحية شخصية، أم نقرر علنا تحكيم الشريعة ونعيد صياغتها بشروط تجعلها عمليا موافقة للنتائج العلمانية؟
لكل اتجاه فريق من العلمانيين يميل إليه، وهو خلاف تكتيكي لا اختلاف أهداف، والرأي الذي ينتشر بين العلمانيين هو بحسب قوة الاتجاه الإسلامي وتراجعه. ص87.
10- الفكرة المركزية لدى وائل حلاق: أن ما نعرفه اليوم من الحديث والفقه كان شيئا متأخرا، وأن العامل الجوهري في صياغة التشريع هو العادات الاجتماعية السائدة في الثقافة العربية، وأن الصدر الأول كانت السلطة فيه لخلفاء الصحابة، وليست للحديث النبوي، ثم انقلب الأمر وصارت السلطة للأحاديث! وهذه فكرة إذا قورنت بالمعطيات التاريخية فهي أشبه بالهذيان. ص97.
11- كنت أحسن الظن بوائل حلاق حين اطلعت أول مرة على نقده لشاخت، ثم لما استكملت مطالعة كتبه اكتشفت أنه بعيد عن الموضوعية العلمية، وأنه يعيد إنتاج الاستشراق بتلوينات أخرى. ص98.
12- غالب من يتصل من الحداثيين العرب بالمستشرقين ويزعم أنه يستميلهم للإسلام إنما يستميلهم للإسلام المعاد تصنيعه طبقا للذوق الغربي؛ وهو الإسلام الملبرل، وليس إسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ص117.
13- المستشرقون نظروا إلى علوم الإسلام باعتبارها مجرد عربة توصيل كتب، ووظيفة المستشرقين استيقاف هذه العربة، وفرز الكتب، وإرسال كل كتاب لصاحبه بطرود فيلولوجية، لتبقى عربة الإسلام فارغة ويكتشف الناس حقيقتها! هكذا كانوا يتوهمون. ص150.
14- أحسن من ناقش شاخت مناقشة علمية رصينة في نظري هو الشيخ البحاثة د محمد مصطفى الأعظمي في كتابين: الأول: رسالته للدكتوراة في كامبردج عام (1966م)، والثاني: كتاب خاص مكرس لشاخت، وكلاهما نشرا باللغة الإنجليزية، وكلاهما ترجما للعربية، ومن الإنصاف أن نذكر أن من فتح الباب في مسألة تدوين السنة المبكر هو فؤاد سزكين، وقد شرح المستشرق الألماني المعاصر هارلد موتسكي أثر سزكين ثم الأعظمي في خلخلة التصورات الاستشراقية عن السنة النبوية. ص184.
15- قدم نصر أبو زيد بحثا للترقية بعنوان “الإمام الشافعي وتأسيس الآيديولوجيا الوسطية”، وادعى فيه أن الشافعي يقوم بمهمة سياسية من أجل بني أمية، برغم أن دولة بني أمية كانت قد انتهت أصلا بمقتل آخر خلفائهم مروان الحمار عام (132هـ) قبل ولادة الشافعي عام (150هـ)، وقد كتب كثير من الأساتذة حينها سخرية وتهكما من هذه الأطروحة التي لم تتنبه لأبجديات تاريخية، فماذا صنع نصر أبو زيد؟ طبع الكتاب وادعى في مقدمته أن هناك خطأ طباعيا في كلمة الأمويين، وأنه كان يريد أن يكتب العلويين. ص204-205.
16- ويهمني جدا التنويه ها هنا إلى ضرورة اختبار وفحص الأطروحات الاستشراقية وشروحاتها الحداثية العربية على ضوء التاريخ أولا، وقبل كل شيء، فكتب التأويل الحداثي العربي للتراث مكتنزة بتفسيرات وتحليلات لا يمكن وقوعها إلا بالرحلة عبر الزمن لتلتقي شخصيات الحكاية المتخيَّلة!. ص206.
17- “أحمد بن حنبل والمحنة” لوولتر باتون: هذه الدراسة لباتون هي أقل دراسات المستشرقين تحيزا في موضوع المحنة بحسب ما أعلم، على أن فيها مواضع يسيرة اشتط فيها قلم الباحث. ص220.
18- قال الشيخ السكران في سياق حديثه عن المستشرق الألماني جوزيف فان إس -وكان عميق الانحياز للمعتزلة-، ودراساته وأبحاثه عن المحنة وما يتصل بها: ومادة أبحاثه عموما ليست من كتب العقيدة والفرق المعتبرة، بل هذه مصادر ثانوية عندهم، بل مصادر الدراسة الأساسية هي كتب التاريخ والتراجم؛ كعادة المستشرقين في العناية الشديدة باستخلاص العقائد والفقه من كتب التاريخ والتراجم والأدب والرحلات وفهارس الوراقين ونحوها. ص227.
19- فهمي جدعان استعمل استراتيجية شائعة لدى محترفي السطو على الأبحاث؛ وهو شكر المسروق منه في غير موضع السرقة، بمعنى الثناء على المسروق منه بشأن فكرة أو معلومة ليست هي الفكرة أو المعلومة المسروقة، فبذلك يظهر أمام المسروق منه أنه شكره ولم يجحده، وبنفس الوقت يظهر أمام القارىء أنه صاحب الفكرة أو المعلومة المسروقة، هذه استراتيجية يسير عليها بعض المؤلفين. ص262.
20- رصد الإمام ابن تيمية في غالب التيارات العقدية وجود اتجاه يميل في السلوكيات إلى تألُّه المتصوفة، فيشكلون اتجاها صوفيا داخل التيار العقدي نفسه، كما يقول ابن تيمية -في عبارة من عجائب رصده للتركيبات العقدية-: “فصارت المتصوفة: تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم، وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة” [الصفدية (1/267)]. ص299-300.
21- من أبشع ما صنعه ابن أبي دؤاد: امتحان أسرى المسلمين في سجون النصارى أيام الواثق، فمن أجاب بعقيدة المعتزلة فداه، وإلا تولى عنه يرسف في قيوده تحت الأعداء المحاربين، وهي حادثو مشهورة إذا قرأها المؤمن زفر زفرة كادت تنقصف ضلوعه لها، وقد رواها المؤرخون ذوو الميول المعتزلية والشيعية، كما قال المسعودي مثلا: “وحضر هذا الفداءَ رجل يكنى أبا رملة من قِبَل أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة، يمتحن الأُسارى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق التلاوة ونفي الرؤية فُودي به وأُحسِن إليه، ومن أبى تُرك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأُسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وأبى أن يسلم الانقياد إلى ذلك، فنالته محن ومهانة” [التنبيه والإشراف (ص162) للمسعودي]. ص310.
22- أي مطلع على كتابات الجاحظ يدرك أن المركز فيها هو التفنن في البيان الأدبي، وليس الدقة والرصانة في النقل والرواية، وخصوصا إذا طالع المرء انحداره السلوكي؛ مثل كثرة إسفافه في حكاية الترهات والهزليات والألفاظ الفاحشة وشرعنتها، وتجويز شرب المسكرات، وتحسين إطلاق البصر في النساء ومنادمتهن، ومع ذلك فقد أقر أصحابه المعتزلة أنفسهم بتصرفه في النقل لأغراض التشويه والتجميل. ص365-366.
23- فن الجاحظ وبحر علمه هو البيان الأدبي الذي لا يكاد يجاريه أحد في مضماره من أهل عصره، وجوهر الجمال الأدبي لنصوص الجاحظ هو قدرته على الجمع بين الجزالة والبلاغة بألفاظ معهودة غير وعرة، كما أشار له ابن حزم وابن حجر، وأما الخبرة بتمحيص المنقولات فهذا فن أجنبي عنه، وليس من فرسان هذا الشأن. ص369.
24- الإنصاف والموضوعية البحثية تقتضينا أن نعترف أن المستشرقين أكثر دأبا وجلدا في جمع المعلومات وتتبع المخطوطات من الحداثيين العرب، بل لا نسبة بينهما، وخصوصا قدامى المستشرقين، إلا أننا نؤكد أيضا أن هذا يجب ألا يقود الباحث الحداثي إلى الإطراق برأسه والانكسار والإذعان أمام المستشرقين، فلهم زلات وعثرات تبلغ الفكاهة فيها أن تدخل السرور على الثكالى. ص395.
25- أشهر من كتب عن القرآن بين المستشرقين هو المستشرق الألماني نولدكة (1836-1930م)، وله هالة وفخامة وجاه في نفوس المستشرقين، ووقع في أخطاء عجيبة في فهم النصوص، وتفسير ظاهرة جمع القرآن، وحين ألف كتابه الضخم هذا [تاريخ القرآن] كان عمره (24) سنة، وهذا ما يفسر العشوائية والاندفاع في الكتاب، حتى أنه لما طبع الكتاب طبعة ثانية -قام على تنقيحها تلميذه وصديقه شفالي- قدم نولدكة لهذه الطبعة وعمره (73) سنة، وأشار في مقدمته هذه إلى حماقاته في هذا الكتاب، وأن سببها صغر سنه حينذاك، حيث يقول نولدكة عن كتابه في مقدمة الطبعة الثانية المنقحة: “آثار الوقاحة الصبيانية لن يمكن محوها بالكلية من دون أن يعاد تأليف الكتاب من جديد، بعض ما قلته حينذاك -بقليل أو كثير من الثقة- انعدمت ثقتي به لاحقا”.
هذا هو نولدكة الكهل وعمره (73) سنة يتحدث عن نولدكة البالغ الذي كان عمره (24) سنة، والغريب حقا أن المستشرقين والحداثيين العرب ما زالوا يعتمدون على نولدكة اليافع الذي شهد عليه نولدكة الكهل بالوقاحة الصبيانية. ص396-397.
26- الاستشراق الفيلولوجي ما لبس أكفانه بعد، بل ما زالت كتبه في حقائب الحداثيين العرب، فإذا ضممت إلى ذلك أن المؤسسات السياسية في الغرب، والأكاديميين الغربيين غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية إنما يعتمدون في فهم المجتمع المسلم على أطروحات أنثروبولوجيا الإسلام، وأن دعاة الإلحاد والمناظرين النصارى وفضائيات الإثارة الغربية تعتمد على الطروحات الشكية الاستشراقية= إذا جمعت ذلك كله استبان لك أخطبوطية الاستشراق، وضرورة العناية برصده، وتكثيف الدراسات المتخصصة فيه، وتحليل أنماط تأثيراته وتتبعها. ص403-404.
والحمد لله رب العالمين
المصدر: رابطة علماء المسلمين