محمد فتحي عثمان في ذكرى وفاته
مدرسة الفكر الإسلامي الجديد
بقلم: أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
تحل غداً ( 11 سبتمبر 2010) ذكرى ميلاد مفكر وداعية إسلامي، يعد واحدا من أبرز مجددي الفكر الإسلامي الحديث وصاحب دور تنويري كبير ومؤلفات عديدة تميزت بالجرأة في معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد توفي الراحل في مدينة لوس أنجلس، كاليفورنيا الأميركية في 11 سبتمبر 2010 عن عمر ناهز 82 عاما ًمضى منها أكثر من 30 عاما مهاجراً يدرس للطلبة ويدعو إلى الله بكتبه ومقالاته ومحاضراته. وصفته صحيفة لوس أنجلوس تايمز في نعيها له بأنه أكثر العلماء تأثيراً في العالم الإسلامي، لكن حظه في التعريف بفضله وعلمه ومكانته في عالمنا العربي ضئيل كما هو عادة العلماء الكبار.
ينتمي محمد فتحي عثمان لمدرسة الفكر الإسلامي الجديد، كما كتب على أول كتبه الصادر عام 1947م، مدرسة الإخوان المسلمين التي أنشأها ورعاها الإمام حسن البنا رحمه الله، والتي أخرجت للأمة ثلة من المفكرين الأفذاذ الذين كانوا نجوم الدعوة وحماة الدين طوال ما يقرب من قرن مضى حتى اليوم، كان فتحي عثمان من أبرزهم مع محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وعبد الحليم أبو شقة وجمال الدين عطية وحسن الشافعي وغيرهم من أعلام الأمة.
فقد جذبت جماعة الإخوان منذ نشأتها العديد من الشباب الواعد المؤمن بقضية أمته، الساعي لإعادة مجدها، الذين وجدوا في تلك الجماعة ضالتهم المنشودة. ومن هؤلاء الدكتور محمد فتحي عثمان الذي انضم للجماعة في أوج مجدها وعنفوان قوتها وتدرج في أسرها وشعبها ونال حظا من القرب من قيادتها في عهد المرشد الأول والثاني، حتى غادرها في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن تباينت سبل التغيير بينه وبين قادتها نظرا لاختلاف طريقة النظر للتغيير وطبيعته ومحتواه.
عاش محمد فتحي عثمان حياة مديدة وعاصر أحداثا فريدة وانتمى لجماعة كانت وما زالت جزءا من تاريخ أمتنا وعالمنا المعاصر، كان عثمان منغمسا في محاولة فهم تقلبات عصره وتحدياته التي يواجه به الإسلام والمسلمين ويجهر بالقول بما يراه ضروريا لتجديد حياة المسلمين العقلية والواقعية.
ولذلك كان نتاج عثمان الفكري انعكاسا واستجابة لتحديات عصره، فمن خلال الجمع بين ايمان المؤمن المطمئن وتساؤل الباحث الدؤوب وسعي الايديولوجي الجازم وحدب الداعية المحب لهداية العالمين. كتب عثمان عن كافة المشكلات الملحة التي واجهت أمته بداية من مشكلة الفقر والعمال إلى تجديد الفقه وتجديد الفكر وهموم المهاجرين وفي التاريخ والقانون وحقوق الإنسان ومشكلات العالمين والمرأة والثابت والمتغير في الأحكام.
ففي المنيا كان خطيبا داعية وفي القاهرة كان تنظيميا وباحثا وموظفا وفي الجزائر صار استاذا وفي الرياض والكويت تفتحت ملكاته وفي لندن عاد صحافيا محترفا بقلم مفكر رصين واخيرا في نيوجرسي ارسى دعائم مشروعه الفكري في العالم الجديد أستاذا بالجامعات وداعية من خلال مؤسسة عمربن الخطاب الدعوية
فقد تعددت سبل سعي الدكتور فتحي عثمان لبناء مشروع حضاري إسلامي من خلال وظائفه التي تعددت في تحرير الصحف وإدارة دور النشر والمكتب الفني بالأزهر داخل مصر ثم فترة إعارته للجزائر ثم السعودية والكويت حتى بدأ هجرته خارج البلدان العربية حيث استقر فترة من الزمن في لندن عاصمة بريطانيا مديرا لتحرير مجلة أرابيا، ثم بدأت تغريبته الأخيرة التي قاربت الربع قرن في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أسس المركز الإسلامي في فرجينيا درس في الجامعات الأمريكية الشمالية في أمريكا وكندا وزار معظم دول العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا.
وقد أثمرت رحلته الفكرية طوال هذه السنوات عن حصيلة فكرية كبيرة وعميقة بدءا من مؤلفه الأول في منتصف الأربعينيات عن الفقر مرورا بمؤلفاته عن التاريخ الإسلامي والفكر القانوني الإسلامي والفكر الإسلامي والتطور ودفاع عن الدين والدين في موقف الدفاع والإسلام يواجه الجوع ومن تراث الفكر الإسلامي حتى مؤلفاته عن الشريعة الإسلامية والإسلام والآخر والمرأة والأسرة في الإسلام وعوامل الثبات والتطور في الفكر الإسلامي ومفاهيم الإسلام التي تمثل مشروعا فكريا متكاملا للنهوض بالفكر والأمة الإسلامية في عصرنا. ومن هنا تأتي هذه الدراسة التي تحاول أن تلقي الضوء على معالم هذا المشروع الفكري وتنسقها في شكل مرتب يبين معالم المشروع الفكري.
مع فتحي عثمان في أول كتبه
مدرسة الفكر الإسلامي الجديد: الإسلام يحارب الفقر: عرض لقضية الفقير والعامل في نظر الإسلام والمذاهب الحديثة وبيان للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، هكذا حملت الصفحة الأولى بعد الغلاف للكتاب الأول لمفكرنا الراحل الكبير، الشاب النابه الذي لم يتخرج بعد في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول ولم يكد يبلغ العشرين من عمره، فقد اختار عثمان أول ما يعرف به قارئه موضوعا من موضوعات الساعة في عصره: موضوع الفقر والفقراء وبؤس العمال والحلول المعروضة من منظور الإسلام، في وقت كانت مسألة الفقر والعمال في قلب الصراع السياسي والاجتماعي في مصر، فماذا قدم لنا محمد فتحي محمد عثمان كما قدم نفسه للقراء؟
بعد أن عرض مبادئ الرأسمالية والاشتراكية بأمانة من مصادرهما عرضا يدل على اجتهاده في الدرس قبل القول وهو لم يزل طالبا نجده يكتب بقلم المسلم الواثق من دينه قائلا: “إن الرأسمالية وإن قررت الحرية الشخصية واحترمت الملكية، لكنها اقترنت بالطغيان والجبروت واكتناز حق الفقير، كما أن الشيوعية والاشتراكية وإن أرادتا أن تدافعا عن حق الفقير وأن تستنقذاه من براثن الليث وفكي الأسد إلا أنهما ابتليتا بجوانب من العجز والضعف ما أحال المجتمع إلى عهد مادية ميكانيكية أهدر فيها حق الروح، وخيم عليها الضيق الاقتصادي، وألغي فيها كيان الفرد ووجوده، وقطع الطريق على اجتهاد العاملين المجدين، كل ذلك في ظل استبداد غاشم من الهيئة الحاكمة تحمي به نظامها وتركيز للرأسمالية في شخصها يعقد مسئولياتها فلا تستطيع أن تفي بها كاملة إن توخت الإحسان، وتكون شر رأسمالية مؤيدة بالقوة والسلطان وصولة الحكم إن جنحت عن الطريق السوي والصراط المستقيم“.
ثم تناول في الجزء الثاني من الكتاب ما أسماه “الاشتراكية الإسلامية“، ونجده يأت بنظرات جديدة وجريئة في كتابه على حداثة سنه وعهده بالكتابة في موضوع شائك، فهو يعرف الفقير بأنه” ليس هو المعدم الذي لا يجد شيئاً، ولكن الفقير في عرف الإسلام وكما عرفه العلماء هو الذي يملك منزلا للسكن وثيابا للصيف والشتاء وقوت يوم، وقال بعض العلماء قوت شهر، ودابة للركوب وسلاحه للجهاد” متأثرا بذلك بالآراء المتجددة في فقهنا الإسلامي وخاصة آراء ابن حزم الذي يكن له احتراما كبيرا.
ثم يتحدث عن “نظرية الاستخلاف التي هي قاعدة الإسلام في توزيع الثروة“، والتي تقوم على معالجة واقعية لمشكلة الفقر، فيعترف بوجود الفقير والغني كما واقع في كل مجتمع، لكنها لا تعد ذلك حتما مقضيا ولا تعتبره عائقا لنهضة المجتمع كله، بل تراه حافزا لتعاون الفريقين لتحقيق الحياة الكريمة لهم جميعا من خلال التكافل الحقيقي بينهما القائم على أخوة الإسلام التي تأبى أن يترك المسلم أخاه يضيع في مهاوي الفقر.
فالمال مال الله وليس للغني حرية التصرف المطلقة فيه لكنه مندوب لتنفيذ حكم الله فيه ورعايته وإنفاقه في حدود أحكام الإسلام لتحقيق التوازن الاجتماعي، ثم يحدد سلطة الحكومة في تحقيق مصلحة الجماعة بتوجيه المال الوجهة المؤدية لنفع جميع أبناء الأمة ومن ثم فقد رأى أن “للحكومة أن تفعل ما تشاء في الأموال لإقرار التوازن الاجتماعي، فلها زيادة نسبة الزكاة عن الحد الأدنى إن كان هذا لا يكفي للتقريب بين الطبقات لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولها فرض الضرائب، ولها مصادرة الأموال كلية في الأزمات” وهي آراء كما نرى جريئة من شاب يكتب لأول مرة في موضوع شائك في لحظة أزمة مستحكمة في المجتمع المصري بلسان إسلامي مبين. وآخر قواعد النظرية هو مبدأ تكافؤ الفرص للناس جميعا أمام مال الدولة ومجهوداتها فلا تميز طائفة بالاستثناءات والخدمات وطائفة تهمل في قاع الحضيض.
ثم يتناول تطبيقات هذه القواعد في عهود الراشدين أبو بكر وعمر وعمر بن عبد العزيز ، ويستشهد بآراء ابن حزم في كتابه المحلى. ثم يعرض لأسلحة الإسلام السلبية والإيجابية في محاربة الفقر، وتتمثل الأسلحة السلبية في : منع الربا، منع الكنز، منع الغبن، تحديد الملكية، منع الخبائث، منع الترف والسرف، ومنع السلب والنهب. أما الأسلحة الإيجابية فتتمثل في: الزكاة، الفيء، الغنيمة، الصدقة، النفقة والمواريث، مصادرة الأموال
ثم تناول المسائل العمالية بنفس الجرأة التي تناول بها مشكلة الفقر ، فقدم عرضا مختصرا لتطورات المسألة في زمانه، وكيف تم معالجتها من المذاهب الغربية، ثم تناول مبادئ الإسلام في التعامل معها من منظور نظرية الاستخلاف التي ترفض التواكل وتحث على العمل وترفض الغبن والظلم وتحث على أن يؤدي كل مسلم واجبه ويأخذ حقه.
فالمبادئالإسلاميةقدرتالمالحققدره،وقدرتالعملحققدره،وقطعتالطريقعلىالبطالةوالتعطلبتحريممواردالكسبالتيلايصاحبهاعملمثلالسرقةوالرباوالقماروالأنصاب،وفتحأبوابالعملعلىمصاريعهاوبينأوجهالرزقومصادرالثروةوطرقالإنتاجوالرزقالشريففيكلمجال.
ثم تناول مبدأ التأمين الاجتماعي الذي كان مفخرة حزب العمال الإنجليزي في ذلك الوقت وافتتان العالم به، وبين أنه يدور حول محورين: صاحب العمل الذي أفنى فيه العامل شبابه وصحته مما ساق الأرباح وفيرة طائلة إلى صاحبه فعليه أن يقدم له في شيخوخته أو مرضه عرضا جميلا ومكافأة كريمة، والحكومة باعتبارها رمز الدولة التي خدمها هذا العامل في خدمته في عمله أنتج العمل إنتاجا طيبا استفاد منه الكيان الاقتصادي العام. ثم يقرر أن الإسلام قد رعى الجانبين تمام المراعاة مستدلا بنصوص القرآن والسنة وتطبيقات الواقع الإسلامي في عصر الراشدين وأقوال وتقريرات الفقهاء في المسألة.
ثم تناول حقوق العمال قائلا : “يقرر مبدأ العدالة الإسلامية أن يأخذ الأجير أجره دون مماطلة أو تسويف وبناء على ذلك يحدد التشريع الحد الأدنى للأجور عند حد معقول ليس له قوة نقدية فحسب، بل قوة شرائية تكفيه هو ومن يعول ليعيشوا عيشة هانئة راضية، ثم يصرخ قائلا” وإنه لمن الحرام أن يعمل العامل المصري قبل الحرب الأخيرة من مشرق الشمس إلى مغربها لقاء عشرين مليما أو ثلاثين ووراءه زوجة وأولاد، وحرام أن يكون بمصر اثنا عشر مليونا من عمال الزراعة والصناعة المصريين لا يملكون شيئا ويعيشون على أجر تافه يأخذونه منة وإنعاما وفضلا وإحسانا من أيدي أصحاب الملايين ممن يعدون على الأصابع“، وما أشبه الليلة بالبارحة بل هي أدهى وأمر.
وهو يقرر أن “لولي الأمر أن يتدخل ليراقب العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وينظم الرابطة بينهما حتى يكفل مصلحة الطرفين، وله أن يحدد الأجور مستندا إلى روح التشريع الإسلامي والحكم الشرعي العام الواضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إنصاف الأجير “اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه“، ويؤكد أنه في حدود هذه القاعدة للحاكم أن يشرع ما يشاء من اللوائح والقوانين“.
ثم يتناول موضوع تحديد ساعات العمل فيقول” لدينا في مصر مأساة قائمة حالكة السواد لعمال ملايين يعملون من مشرق الشمس إلى مغاربها بصورة مستمرة، وحرام على صاحب العمل أن يستنزف دماء هذا العامل المسكين الذي اضطرته ظروفه لأن يعمل تحت يديه، في حين رفعت تلك الظروف هذا الرأسمالي إلى مقام تشغيله لديه، والإسلام يرفض ذلك ويضع القواعد التي تنظم حقوق كل طرف، فروح التشريع الإسلامي تتضح في إلزام صاحب العمل الاعتدال والإنصاف ويسهر على ذلك ولي الأمر الذي له أن يصدر من التشريع ما يحقق تلك الروح، وله أن يحدد ساعات العمل وفق ما يرى استنادا إلى تلك القواعد الإسلامية. فمبدأ تحديد الأجور وتحديد ساعات العمل مبدآن إسلاميان خالصان أتى بهما الإسلام صريحين ظاهرين مفصلين، أو مندرجين تحت قواعد عامة، وكفل بذلك حقوق العمال لدى أصحاب الأعمال“.
ثم تناول واجبات العمال إزاء أصحاب الأعمال، فأكد على أن الإسلام أمر العامل وألزمه بالإتقان في العمل وحذر من الإهمال والغش، ثم تحدث أخيرا عن رقابة الحكومة للشئون العمالية والسير بها إلى الإنصاف والعدالة وتطبيق القواعد التي وضعها الإسلام وإعلان وتطبيق الرقابة الحكومية على ميادين العمل كافة لتحقيق العدالة واستقرار المجتمع.
ماذا في وادي النيل؟
ثم يختتم كتابه بنظرة على أحوال مصر الاقتصادية والاجتماعية وبعدها عن مبادئ وقواعد الإسلام في التعامل مع مشكلة الفقر والعمل والعمال، حيث يبدأ باستعراض الأدواء الاقتصادية وأسبابها التي جرعت الوادي علقم الفقر المر الواضح على محيا أبناء تلك البلاد في كل مكان، وهي:
اختلال العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة حيث نجد ارتباك توزيع الثروة بين الأهلين، والظلم في توزيع الأجور للعمال الأجراء المحرومين من أي ملكية، فمصر التي تدعي أن الإسلام دينها الرسمي يسودها الطمع الجشع والجبروت والطغيان مما أدى إلى فوضى أخلاقية فحيث يرتفع نداء المعدة قد يخفت بل يتلاشى صوت الضمير. ولقد انتشر الوعظ والإرشاد في المساجد والكنائس فما زاد الأمر غير تخسير، لأن قضية الدين وحدة كاملة، فأما أن تأمر الناس أو فئة من الناس بالخير والكف عن السرقة والنهب والغصب وسفك الدماء وتترك فئة أخرى من ناس لا يزيدون عن أولئك شيئا تتجبر وتسرق وتغصب وتسفك الدماء قطرة قطرة بدل أن تسفكها دفعة واحدة بالظلم الصارخ والاستبداد والجور فهذا دجل باسم الدين، والإسلام بريء من رجال يتكلمون باسمه فيقولون للسارق لا تسرق ولا يقولون للغني لا تظلم، ولكن لا يسرق السارق ولا يظلم الظالم في نفس الوقت هذا هو العدل وهذا هو الإسلام.
ثم يتحدث عن الاستعمار الاقتصادي الأجنبي من خلال اطراد تزايد أملاك الأجانب وتناقص أملاك المصريين، وهو يرجع ذلك إلى تزايد بنوك التسليف والرهونات وجميع المرابين وأغلبهم أجانب فالأجانب يسيطرون على الزراعة والتجارة واحتكار كافة الخدمات: النور والمياه والترام والأتوبيس والكحول والبترول وغير ذلك كثير. وهو في ذلك كأنه يتحدث عن مصر في عامنا هذا 2024م.
ثم يتناول إهمال الحكومات وأصحاب الأموال في الاستغلال الاقتصادي في كافة مجالات الحياة: الزراعة والثروة المعدنية والتجارة والمبادلات وربط الجنيه بالإسترليني، ومسألة التنسيق التجاري مع السودان، مؤكدا أن كل هذه الأمور وغيرها لو اتجهت إليها الحكومات وأولتها شيئا من عنايتها بدلا من التنازع على مقاعد الحكم والمهاترات الحزبية والدعايات الوزارية الجوفاء لاستفادت البلاد خيرا كثيرا، كما يشدد عثمان رحمه الله على أن نكبتنا في أغنيائنا أشد لأنهم لا يستثمرون إلا في تجديد ألوان الترف وأساليب النعيم.
ثم تحدث عن اتجاهات الإصلاح في ذلك الزمان متمثلة في: الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، والنقابات العمالية، والأحزاب السياسية، والاتجاهات الحكومية والحركات الهدامة كالشيوعية ثم يقيمها قائلا:
أما الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية فآثارها وقتية جزئية لا تصل لمجموع الشعب وإن عالجت بالتسكين والتخدير فليس بالشفاء الناجع الحاسم، وأما الحركات النقابية فإنها أن كسبت للعامل شيئا من مزايا فإنها لم تحقق له كل حقوقه، فما زال مضطهدا من صاحب العمل لا كلمة له عند أصحاب السياسة والحكم، أما الأحزاب السياسية فهي كما وضح من تاريخها منذ تكوينها لا تنادي بالحق لتنصر حقا ولا تهاجم الباطل لتخذل باطلا ولكن الأمر عندها نكاية وضغينة وانتقام، وأما الحركات الهدامة فهي محكوم عليها بالفشل والبوار، أما الاتجاهات الحكومية فليس يغني أرباب السياسة ضربة تنكيل تصب على الشيوعيين من سطوة القانون، ولا حملة من أرباب الخوذات والعصى الغليظة على العمال المتذمرين تحاصر بها المصانع ولا حساب لأنفاس الناس وخلجات صدورهم ونفثات أقلامهم بمراقبة دور الصحافة والنشر، لن يغني هذا الاتجاه السلبي فتيلا ولن تزيد الأزمة غير استحكام والنفوس غليان والرأسمالية غير طغيان.
أما الإصلاح الحاسم والقرار الحازم فهو اتجاه إيجابي نحو إحقاق الحق وإبطال الباطل يتحرى التوازن الاجتماعي بين الناس ويصون حقوق الفقير والعامل وينظم توزيع الثروات. إن مقولة بمحاربة الفقر والجهل والمرض لن تغني بجانب رفض مشروع تحديد الملكية الذي قدم في البرلمان وتعثر مشروع الضريبة التصاعدية ومسخ ضريبة التركات.
ثم كتب كلمة كأنها كتبت اليوم، تستحق أن تنقل في خاتمة كتابه، كتب يقول:
“إن الشرق الآن يجتاز مرحلة تكوينية، فلقد عاش هذا الشرق ردحا طويلا يقدر بالقرون الطوال، عاش طفيليا على مائدة الغرب، وإمعة على حضارته وثقافته، كما كان أسيرا لاستعماره في ميدان السياسة والاقتصاد، والآن يريد الشرق أن يتحرر وأن يعود إلى أمجاده التي استلبها منه الغرب في غفلة من غفلات الزمن، وغفلات أبنائه أيضا، فامتطاها إلى الجوزاء ولكنه سخرها لشر الإنسانية، إذ تجاهل الروحانية، وكان ماديا بحتا فأحالها قنابل مدمرة وذريات ودبابات وأساطيل بحرية وجوية، أحالها حروبا شعواء، وأحالها في السلم ترفا وعبثا وإباحية وفجورا وفسوقا. وليس في هذا كله غناء.
يريد الشرق الآن أن يسترجع مجده التالد، وعزه الخالد، وأن يحطم الأغلال التي كبله بها الاستعمار. وفي هذه المرحلة التي ينشد فيها الشرق تكوين شخصيته وتركيز معنويته، وطرد الغاصب والمحتل، عليه أن ينبذ الدخيل، ويقاوم الغريب، ويطرد الطفيلي، ويصد هذا التيار العنيف من الطابع الغربي والصبغة الغربية ويتمسك بتراثه وتراث الأبد.
هذا هو الإسلام مفخرة الإنسانية ونور الشرق الوضاء “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” ويل للشرق إن أراد استقلال سياسيا أو اقتصاديا، وهو لم يكون تلك الشخصية الكاملة الغنية عن فتات الناس بما أمره به الله.
فالخطوة الأولى أن يستشعر الشرق كيانه ووجوده، ويقول ها أنا ذا أدلي بدلوي في بناء العالم وتنظيم الإنسانية. وبرنامجي في ذلك تراثي ومفخرتي ومجدي. هذا الإسلام” فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم“، ويقدم للعالم زعامة من نوع جديد صنعت بأعين العناية الربانية فكانت هي الكمال والجمال والجلال. وكانت هي الحكمة وفصل الخطاب “صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة“
إيها الشرق المتوثب فلتطرح هذا الزيف الكاذب.. ولتقذف بهذا الباطل الذي يلقيه إليك الملقون، فلا اشتراكية ولا شيوعية ولا كل ما تلوكه الألسنة وتمضغه الأفواه، ولكن إسلامية كاملة شاملة “تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين“
وخلاصة القول إن فتحي عثمان في أول كتبه بدا كاتبا واعدا ملما بأدواته ومطلعا على تراثه وعارفا بتيارات العصر ايجابياتها وسلبياتها، واثقا في غنى دينه وقدرته على قيادة الأمة نحو مستقبلها إن أحسنت التقدم نحوه والانقياد إليه والاعتصام به لمواجهة مشاكلها، وهو في كتابه هذا رسم صورة واضحة لموضوع بحثه نظريا وعمليا في كلمات قليلة حاسمة: من يحكم ومن يعارض، من يملك ومن يعمل، من يوجه ومن يستمع، من يفتي ومن يستفتي، والغريب المحزن أن الذي يراجع الفترة منذ بداية الحرب العالمية الثانية حتى 23 يوليو 1952 سيجد تشابها يكاد يصل لحد التطابق مع المرحلة التي نعيشها في كل شيء تقريبا.
لقد أعلن هذا الكتاب عن ميلاد كاتب شاب يعبر عن رأي جماعة الإخوان في قضية شائكة يكتبه بهذا العمق وتلك الدقة والحيوية والواقعية، ويقدمه وكيل الجماعة آنذاك أحمد السكري. وإن إعادة التذكير بهذا الكتاب اليوم في ذكرى ميلاد مؤلفه رحمه الله، يجب أن يكون نبراسا للجماعة لتجدد شبابها برجال أمثال فتحي عثمان؛ نتاج وصناعة حسن البنا، وتهيأ الأجواء لتخرج أمثالهم للأمة، وهو جيل يستحق أن تفرد له دراسة شاملة، فقد التف حول الرجل مجموعة من الشباب المؤمن الواعد أثر فيهم ورباهم وفتح لهم مجال الفعل والقول وشجعهم فكانوا طليعة لهذه الأمة من بعده: إن محمد فتحي عثمان ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وعبدالحليم أبو شقة وجمال الدين عطية وحامد ربيع، توفيق الشاوي وسعيد رمضان وغيرهم يستحقون أن تفرد عنهم دراسة لبيان تأثير حسن البنا ومناخ جماعة الاخوان التي اسهمت في تكوينهم.
رحم الله محمد فتحي محمد عثمان رحمه واسعة وألهم الأمة الوعي لتنتفع بتراثه المكتوب العربية، وترجمة ما كتبه بالإنجليزية وهو كثير غزير، وانتداب بعض الباحثين لتحقيق أعماله الكاملة لتنتفع بها الأجيال الحالية والمقبلة وتكون عونا لكل ساع لبعث إسلامي جديد.