محمد عصمت زين الدين .. حصار العلماء وتوارث كراهية الظلم
بقلم عبد الفتاح ماضي
رحل عن دنيانا في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2018 العالم الجليل الدكتور محمد عصمت زين الدين (1924 – 2018) بعد حياة حافلة من العطاء والعمل في خدمة البحث العلمي والجامعة، ومن النشاط والنضال في العمل النقابي والعام.
كان الفقيد شخصية فريدة، كان معلمًا وتربويًا، حاملًا لقيم عادلة، رافضًا للظلم والفساد، مدافعًا عن استقلال الجامعات وحرية البحث العلمي، ومناضلًا ضد الدكتاتورية والحكم الفردي. دفع الفقيد ثمن مواقفه المشرفة سجنًا ونفيًا وحصارًا وفصلًا من الجامعة. أمثاله في العمل الجامعي والنشاط السياسي قلة، لكنهم قلة مؤثرة وملهمة للأجيال، وستظل تحظى بكل تقدير وعرفان.
حصار العلماء
كانت للدكتور عصمت زين الدين بوصلة في حياته هي مصلحة وطنه، وظل أمينًا ومخلصًا في التقيد بها. وعرف الفقيد الدور الحقيقي لأستاذ الجامعة، فلم يقتصر دوره على الواجب التعليمي والتربوي داخل قاعات الدرس، بل راح وبكل إصرار وقوة يربط بين معارفه وخبراته العلمية وبين مصلحة وطنه في دخول مجال الطاقة النووية.
حرص الدكتور زين الدين على إعداد الخبرات في تخصص من أهم التخصصات في عصرنا، ونجح في إنشاء أول قسم للهندسة النووية في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية عام 1964، في وقتٍ كانت فيه الإمكانات والقدرات محدودة للغاية. كتب الكثير من الدراسات عن استراتيجيات الطاقة، وأصبح مُعلّمًا وأستاذًا لعدد كبير من خبراء الطاقة النووية في مصر والعالم.
اهتم الدكتور عصمت زين الدين بإعداد الكوادر لإنشاء مشروع للطاقة النووية في مصر، وكان عضوًا في المكتب الاستشاري للبحث العلمي أيام عبد الناصر عام 1966. لكن حلمه لم يتحقق بسبب طبيعة الحكم الذي كان قائمًا والصراعات السياسية الناتجة عن تقريب أهل الثقة وإدارة الدولة عبر التنظيمات السرية والأجهزة الأمنية، وبسبب عجز السلطة عن تحرير إرادتها السياسية من الضغوط الخارجية التي منعت مصر ولا تزال من استخدام استراتيجيات الطاقة النووية، ولا سيما بعد هزيمة 1967، وبعد اتفاقيات كامب ديفيد.
وبينما كان الدكتور عصمت زين الدين يرى أن أساتذة الجامعات والباحثين هم ثروة مصر الحقيقية، كان نظام الحكم يعتقد أن الدكتور زين الدين وأمثاله من «القوى المضادة» التي تريد تغيير نظام الحكم، ولهذا عَمَدَ النظام إلى استخدام كل طرق الترهيب والترغيب لعزل العلماء عن العمل العام، وإدخال مشاريعهم العلمية في متاهات السياسة القائمة على الشللية والانتهازية، بدلًا من توفير البيئة المناسبة لهم للتركيز في مهامهم الأساسية في إعداد الكوادر والقدرات وتقديم الأفكار والبرامج. وهذا سببٌ أساسي من أسباب تخلف مصر في مجال الطاقة والبحث العلمي وغيرها من المجالات عن كثير من الدول التي بدأت نهضتها مع مصر أو بعدها.
أيقن الدكتور زين الدين مبكرًا أنه لا يمكن القيام بنهضة علمية وتنموية في ظل هذا النمط من الحكم والإدارة، فدفعته بوصلته الوطنية إلى العمل النقابي عبر نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية. كانت مواقفه قوية وحاسمة ضد الظلم ونصرةً للحق، وكان من القلائل الذين دخل عبد الناصر والسادات في صدام مباشر معهم.
كان أول تصادم مع السلطة بعد هزيمة 1967 والأحكام الهزيلة التي صدرت لمحاسبة بعض المسئولين عنها في 1968. قاد الفقيد تظاهرات واعتصامات طلابية بدأت من كلية الهندسة وامتدت إلى شوارع الإسكندرية، وانتهت به – بعد أن استخدمت السلطة القوة بما في ذلك الطائرات لقمع الطلاب بالقنابل المسيلة للدموع – إلى السجن ثم النفي. وتكرر صدام الدكتور زين الدين مع السادات وانتهى بالسجن والنفي أيضًا.
ومن نادي أعضاء هيئة تدريس إسكندرية قاد الدكتور زين الدين العمل من أجل استقلال الجامعة ومواجهة الفساد والانتهازيين، رافضًا تدخل السلطة في إدارة الكليات وفي الترقيات والتعيينات، ومطالبًا بحقوق الأساتذة وحرية البحث العلمي واستقلالية العمل النقابي.
ومن النادي قاد أيضًا العمل الوطني غير الحزبي، معارضًا سياسات الدولة في تزوير الانتخابات، وسياسات التعليم، وسياسة التطبيع مع العدو الصهيوني. وكان الثمن الذي دفعه الدكتور زين الدين في عهد مبارك هو تلفيق الاتهامات له من زبانية الحزب الحاكم ليصل الأمر إلى فصله من الجامعة، ومنعه من دخول الكلية.
توارث كراهية الظلم
كان الفقيد قويًا في نصرة القيم التي كان يؤمن بها، حادًا في نقده، صُلبًا في مواجهة الفساد والظلم، وفي زمن الهزائم دائمًا ما ترفع مقولة في شأن ما كان يقوم به الدكتور عصمت زين الدين وأمثاله ممن ساروا على دربه، وهي: ما الفائدة؟ ما الذي حققه هذا النضال والتصادم مع السلطة إلا الأثمان التي يدفعها أصحابها؟
حقق الدكتور عصمت زين الدين بعض الأهداف التي كان يرفعها، لكن بلا شك ظل هناك الكثير من الأهداف التي لم تتحقق. من الناحية العلمية، صار بعض تلاميذه – من خريجي قسم الهندسة النووية الذي حورب وأغلق لاحقًا – أعلامًا في مجال الطاقة النووية في الكثير من الجامعات ومراكز البحوث الأجنبية، وفي المسألة الوطنية المصرية قامت ثورة 25 يناير 2011 تتويجًا لنضال الدكتور زين الدين ونضال رفاقه في التخلص من الفساد والدكتاتورية.
هذه الثورة مرحلة في طريق طويل للوصول إلى هدفي الاستقلال والحرية في بلدٍ محوري يقف أمام التغيير فيه الكثير من العقبات الداخلية والخارجية، وفي عالم لا تتحقق فيه التغييرات الكبرى إلا بعد نضال ممتد ومخاض طويل، وتاريخ أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها خير شاهد على هذا.
لكن هناك إنجازًا آخر مهمًا للدكتور عصمت عز الدين وأمثاله، إنجازًا لا يدركه الكثيرون، وهو توارث كراهية الظلم والاصطفاف مع الحق. تمامًا كما تُورّث المقاومة الفلسطينية الباسلة قضيتها العادلة وكراهية الاحتلال والصهاينة جيلًا بعد جيل. لا يمكن الحكم على فاعلية كل عمل مناضل بمفرده وبمعزل عن سياقاته العامة وحركة التاريخ، كما أنه لا نهاية لهذا النضال في هذه الحياة الدنيا التي خلق الله، عز وجل، الإنسان فيها “في كَبَد”، أي في مشقة ونضال مستمر من أجل القيم والقضايا العادلة.
قضايا النضال من أجل الحرية والتحرر من المستعمر أو المستبد قضايا عادلة ومستمر ة، والفائز فيها (والإنسان الطبيعي) هو من يصطف في الجبهة التي ترفض الظلم ومن يعمل على توريث هذا الرفض جيلًا بعد جيل. وقناعتي هي أن هذا التيار هو الأغلب داخل الجامعات والمجتمع بالعموم، تيار أنصاره هم أغلبية صامتة قابضة على الجمر، بجانب قلة ثائرة تمتلك أدوات النقد وكشف الفاسدين والانتهازيين والمتلونين ومبرري استمرار الأوضاع على ما هي عليه في كل عصر وزمان، وذلك حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
نعم تُلخص حياة الدكتور عصمت زين الدين جوانب مؤلمة من تاريخ مصر في محاصرة الجامعة وقمع علمائها وإهدار فرص النهوض والتنمية، لكنها أيضًا حياة تؤكد صدق وشرعية المطالب التي عاش من أجلها الدكتور زين الدين، فأمام تلفيق الاتهامات والأحكام المسيسة والظلم الشخصي الذي تعرض له الرجل هناك مطلب حكم القانون والقضاء المستقل الذي يحمي الحقوق والحريات، وأمام تقريب الانتهازيين والانتخابات المزورة والحكم الشخصي والفساد السياسي هناك دولة المؤسسات والشفافية والمحاسبة وتمكين أهل الخبرة والكفاءة، وأمام محاصرة العلماء والباحثين وتقديم أشباه المتعلمين والوصوليين كقدوة في الإعلام، هناك استقلال الجامعات وتمكين العلماء وتوفير البيئة الحقيقية للبحث العلمي وتوفير سُبل تمويله.
سيأتي يوم يُرد الاعتبار للدكتور عصمت زين الدين، وسيذكر التاريخ أنه كان رمزًا من رموز الحركة الوطنية المصرية، وامتدادًا لنضال المصريين منذ مطلع القرن العشرين من أجل الاستقلال والحرية، وسيظل مثالًا يحتذى وملهمًا لأجيال عدة من الأساتذة الذين يعرفون الدور الحقيقي لأساتذة الجامعات.
رحم الله الدكتور عصمت زين الدين، وجعل عمله في رفض الظلم في ميزان حسناته وأسكنه فسيح جناته.
(المصدر: موقع “إضاءات”)