“محمد بن مسلمة”.. رئيس مخابرات النبي وقائد العمليات الخاصة
بقلم يسري الخطيب
حارسُ النبي
أول رئيس مخابرات في عهد الدولة الإسلامية.. وقائد العمليات الخاصة في عهد النبي، ثم عهديّ: الصدّيق والفاروق عمر..
إنه حارس النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي كان لا يفارقه، حتى قالوا عنه: أينما تجد ناقة النبي؛ تجد “محمد بن مَسلمة”.. فقد كان لا يترك مِقْوَد دابة النبي…
ولما دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة، وطاف بالكعبة، كان “مُحمّد بن مَسْلَمة” رضي الله عنه، هو الذي يمسك بزمام ناقة النبي.
إنه “الهارب من الفِتَن”.. وعندما قامت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان – رضي الله عنه – كسَّرَ سيفه، واتخذ لنفسه سيفًا من خشب، وبنى لنفسه بيتًا صغيرًا اعتزل فيه، فقال له أصحابه: لماذا فعلت ذلك؟ فأجابهم قائلا: «أعطاني رسول الله سيفًا، وقال لي: “يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا، فأتِ به جبل أُحُد، فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة أو منيّة قاضية (يعنى الموت)، وقد فعلتُ ما أمرني به رسول الله».
– هو مُحمد بن مَسْلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ،
أمه: أم سهم، واسمها: خليدة بنت أبي عبيد بن وهب بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب، وكان يُكنَّى أبا عبد الله.
سمّاه أبوه “محمدا” ؛ طمعًا في النبوة
– وُلد قبل البعثة بـ 22 سنة، وكان ممن سُميَ في الجاهلية محمدا، فقد ذكرَ “ابن سعد” في الجزء الأول من الطبقات الكبرى، مَن تسمَّى في الجاهلية بـ “محمد” فقال عن سعيد بن المسيب أنه قال :”كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكُهّان أن نبيًا سيُبعث من العرب اسمه “محمّد” فكانوا يسمّون أبناءهم بـ اسم “محمد” طمعًا في النبوة، وقَال القاضي عياض: (وَإِنَّمَا تَسَمَّى بَعْضُ الْعَرَب مُحَمَّدًا قُرْب مِيلَاده لِمَا سَمِعُوا مِنْ الْكُهَّان وَالأَحْبَار أَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ فِي ذَلِكَ الزَّمَان يُسَمَّى مُحَمَّدًا فَرَجُوا أَنْ يَكُونُوا هُمْ فَسَمَّوْا أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ)، قَالَ: وَهُمْ سِتَّة لا سَابِع لَهُمْ: محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن زيدى مناة بن تميم – محمد بن الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم – محمد بن بر بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة – محمد الشويعر بن حمران بن أبي حمران الجعفي – محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح الأوسي – محمد بن مسلمة الأنصاري.
جامع الصدقات
– كان “محمد بن مَسلمة” أسمر شديد السُمرة، طويل القامة، أصلع الرأس، ضخم الجسم، وقورًا ، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، وآخَى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشهد بدرا، وأُحُدا، وكان فيمن ثبت مع رسول الله يومئذٍ حين ولّى الناس، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا غزوة تبوك التي استخلفه فيها رسول الله على المدينة.
إنه أحد فضلاء الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها من الغزوات، استخلفه النبي، على المدينة في بعض غزواته، وأمَّره على نحو (15) سرية، وكان يرسله ليأتي بالصدقات من الإمارات الإسلامية، وقد بلغت جميع سرايا النبي 73 سرية، كما أجمع المؤرخون.
دوره التاريخي في غزوة أُحُـد
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم، محمد بن مسلمة، في ليلة غزوة أُحُد، على الحرس فِي 50 رجلا يطوفون بالعسكر، وفي صباح اليوم التالي شارك في المعركة ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقه، وظل معه حين اضطرب حال المسلمين، يقاتل ويدافع عن النبي، وعندما جُرح النبي صلى الله عليه وسلم، خرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماءً فلم يجد عندهن ماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشًا شديدًا، فاخترق محمد بن مسلمة رضي الله عنه الصفوف، بين السيوف والحراب واضطراب حال المسلمين، حتى وصل إلى قناة ماء، واستقى، وأتى النبي بماءٍ عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بخير.
قائد الشرطة العسكرية والاستطلاع
كان عمل “محمد بن مسلمة” يعادل في أيامنا هذه وظيفتي: الشرطة العسكرية والاستطلاع، يحرس الجيش في الميدان ليلا، ويكشف الطريق ويفتحها أمام الجيش أثناء انتقاله، يُلقي القبض على المجرمين، ويعاقب القتلة، كما كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى القبائل.. وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم كُتُبًا إلى القبائل ويكتب في آخرها: كتب محمد بن مسلمة الأنصاري.
وفي فتح مكة، حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح، والدروع، والرماح، وقاد 100 فرسا عليها “محمد بن مسلمة” رضي الله عنه، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدّم الخيل أمامه، واستعمل على السلاح “بشير بن سعد” ، ومضى مُحمد بن مسلمة، رضي الله عنه بالخيل إلى مر الظهران فوجد بها نفرًا من قريش فسألوه ، فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصبح هذا المنزل غدًا إن شاء الله.
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم، مكة وطاف بالكعبة، كان “محمد بن مسلمة” رضي الله عنه هو الذي يمسك بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
قائد سرايا النبي
روَى عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كثيرا من الأحاديث ، وقد رُويَ عنه أنه قال: (يَا بَنِيَّ سَلُونِي عَنْ مَشَاهِدِ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَوَاطِنِهِ فَإِنِّي لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْهُ فِي غَزْوَةٍ قَطُّ إِلا وَاحِدَةً فِي تَبُوكَ خَلَّفَنِي عَلَى الْمَدِينَةِ. وَسَلُونِي عَنْ سَرَايَاهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا سَرِيَّةٌ تَخْفَى عَلَيَّ إِمَّا أَنْ أَكُونَ فِيهَا أَوْ أَنْ أَعْلَمَهَا حِينَ خَرَجَتْ) وقد ذكر “ابن كثير” إن محمد بن مسلمة قاد 15 سرية، وكان له دور عظيم في فتح مصر
قتلُ الشاعر كعب بن الأشرف
كان الشاعر “كعب بن الأشرف” قائدًا وزعيمًا من زعماء بني النضير، وقد قاد حربًا ضروسًا ضد المسلمين، وكثيرًا ما صرَّح بسبِّ الله وسبِّ الرسول الكريم ، وقد أنشد الأشعار في هجاء نساء المسلمين والصحابة ، ولم يكتفِ بهذا الأمر، بل ذهب ليؤلِّب القبائل على الدولة الإسلامية، وذهب أيضًا إلى مكة المكرمة، وألّب قريشًا على المسلمين، وبدأ يذكِّرهم ويتذاكر معهم قتلاهم في بدر، بل فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى – وهو كما نعرف من اليهود ويعلم أن الرسول مُرسَل من رب العالمين – فعندما سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام، قالوا له: “أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأيُّ الفريقين أهدى سبيلاً؟”، فقال الكافر: “أنتم أهدى منهم سبيلاً”.
وفي ذلك أنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51].
وهذا الكلام الذي قاله كعب لقريش شجَّعهم على حرب المسلمين، بل فعل هذا الكافر أمورًا تخرج عن أدب العرب وعن فطرتهم، سواء في إسلامهم أو في جاهليتهم، فقد بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة، رضي الله عنهن وعن أزواجهن جميعًا.. وهنا كان قرار النبي صلى الله عليه وسلم، الحاسم الحازم: “مَنْ لِي بِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟”.. فقام الصحابي الجليل ورئيس مخابرات دولة الإسلام “محمّد بن مَسلمة” وقال: أنا يا رسول الله، ونجح ابن مسلمة في مهمته، وقتلَ الشاعر الفاجر “كعب بن الأشرف”.. وتخلصت دولة الإسلام الوليدة من أحد ألدِّ أعدائها.
تأديب الخونة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يترك مهمة تأديب الخونة لحارسه ورئيس مخابراته “محمد بن مسلمة” الذي كان يجيد التعامل ويُحسن تصريف الأمور، وكانت “هَيبة” محمد بن مسلمة، وجسده الضخم، ترعبان أعداء الله من اليهود، وعندما خان يهود بني قريظة العهد مع المسلمين خلال غزوة الأحزاب (الخندق) حاصر المسلمون بني قريظة إلى أن استسلموا، وأَمرَ رَسُول اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ – مُحمد بن مسلمة، بالتعامل مع الخونة، فكتِّف “ابن مسلمة” الرجال، وأخرج النساء والأطفال فكانوا في ناحيةٍ أخرى.
الآن نغزوهم ولا يغزونا
“الآن نغزوهم ولا يغزونا”.. إنه شعار النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فشل الأحزاب، ورحيلهم عن حصار المدينة المنورة، فوجّه السرايا الإسلامية لعقاب الذين شاركوا في حصار المسلمين، وكانت أولى هذه الحملات هي سرية “محمد بن مسلمة” رضي الله عنه إلى منطقة تعرف بالقرطاء على بُعد أكثر من 300 كيلومتر من المدينة المنورة، وكانت هذه السرية موجّهة إلى بطن بني بكر بن كلاب، من قبائل نجد التي اشتركت في حصار المدينة في غزوة الأحزاب،
وكانت السرية تضم 30 فارسا، وقد ألقى الله عز وجل بهم الرعب في قلوب بني بكر، ففروا وتفرقوا في الصحراء، وقتل منهم عشرة، وساق ابن مسلمة وسريته عددا كبيرا من الإبل والشاء بلغ 150 من الإبل، و3 آلاف من الشاء، وزادت هيبة المسلمين، وارتفعت معنوياتهم، ولم تكن هذه السرية أولى السرايا التي قادها محمد بن مسلمة، ولا كانت آخرها، فقد بعثه صلى الله عليه وسلم على رأس 15 سرية، وكان ابن مسلمة يفخر بذلك ويقول: يا بنيّ سلوني عن مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لم أتخلف عنه في غزوةٍ قط، إلا واحدة في تبوك خلّفني على المدينة، وسلوني عن سراياه صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس منها سرية تُخفَى عليّ، إما أن أكون فيها، أو أن أعلمها حين خرجت.
اعتزال الفتن
كان رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة؛ فلم يحضر موقعة الجمل ولا صِفّين، بل اتخذ سيفًا من خشب وتحول إلى الربذة فأقام بها.. عن أبي ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلنا على حذيفة فقال: “إني لأعرف رجلًا لا تضره الفتن شيئًا”. قال: فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك فقال: “ما أريد أن يشتمل عَليّ شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت”
رئيس جهاز المخابرات
هو أول رئيس للمخابرات في عهد الدولة الإسلامية، وأول رئيس لجهاز الاستطلاع، فقد كان النبي يرسله لمعاينة أي مكان يريده، فيسبق الجيش الإسلامي ليستكشف الطريق ومكان المعركة، ويتحسس أخبار العدو، ويتحَرَّى عن الأعداء، وأيضا عن الولاة وبعض المُشتَبَه فيهم، في دولة الإسلام، وقد استمر في هذه المهمة في عهدي الصدّيق والفاروق، وكان الولاة في عهد “عمر بن الخطاب” يصابون بالرعب إذا زارهم “محمد بن مسلمة” فهو رئيس مخابرات أمير المؤمنين، ولم يأتِ إلا لأمرٍ جلل.
وفي “الصحاح” ، من حديث جابر: أخبرنا ابن عيينة، عن موسى بن أبي عيسى، قال: أتى عمر، مشربة بني حارثة ، فوجد محمد بن مسلمة، فقال: يا محمد، كيف تراني؟ قال: أراك كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، قويا على جمع المال، عفيفا عنه، عدلا في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال الفاروق عمر: الحمد لله، الذي جعلني في قومٍ إذا مِلت عدلوني .
رجل المهمّات الصعبة
كان “محمد بن مسلمة” دائما في مقدمة الصفوف المقاتلة المجاهدة، وعندما كان قائدا لقوات الاستطلاع الإسلامية على مقربة من مكة، قبيل توقيع صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي قريش في العام السادس للهجرة، وكانت قريش قد بدأت تفكر جديا في الصلح، فأرادت مجموعة من شباب قريش أن يقطعوا كل طريق للصلح، وعملوا على فرض القتال على المسلمين وعلى قريش، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي 50 من المشركين بالتسلل لمعسكر المسلمين ليلا، وكان “محمد بن مسلمة” ومجموعته في انتظارهم، فاعتقلهم جميعا، وساق الصيد الثمين إلى رسول الله بعد أن أمكن الله منهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بإطلاقهم تأكيدا لنيته في الصلح، ونزل في ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) الفتح: 24
الوفاة
“محمد بن مسلمة” الفارس العملاق الذي لم تنصفه الكتب، ولم ينصفه المؤرخون ولم يفردوا له الأبحاث، فلقد كان زاهدا، مخلصا ، مُحبا لله ورسوله، لم يطلب مالا ولا منصبا، ولما وقعت الفتنة اعتزلها، واعتزل الناس.
مات – رضي الله عنه – سنة 43 هـ ، بالمدينة المنوّرة التي لم يستوطن غيرها، وَصلَّى عليه مروان بن الحكم (أمير المدينة في العهد الأموي).. وترك من الولد 10 ذكور و6 بنات، وقاتل معه بعض أولاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق وما بعدها.
—————————–
أهم المصادر:
– أسد الغابة في معرفة الصحابة – ابن الأثير.
– الاستيعاب في معرفة الأصحاب – ابن عبد البر
– سِيَر أعلام النبلاء – الذهبي
– البداية والنهاية – ابن كثير
– طبقات ابن سعد
– سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد – الصالحي الشامي.
– رجال حول الرسول – خالد محمد خالد
– الإصابة – ابن حجر العسقلاني
– تاريخ الرسل والملوك – الطبري
– معرفة الصحابة – أبو نعيم الأصبهاني .
– موقع “طريق الإسلام”
– موقع “إعجاز” الإليكتروني
– موقع “قصة الإسلام” – د. راغب السرجاني
– موقع “المنتدى الإسلامي”
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)