مَنْ مِن ولاة أمر المسلمين يوفقه الله، الآن، إلى أن يعيد جمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم مرة أخرى على “المصحف الإمام” الذى جمعها عليه ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه وأرضاه، والذى توشك الأمة، مع ضعفها السياسى، وحاجتها الاقتصادية، ورثاثتها الحضارية، وتبعيتها المدنية، وهشاشتها الاجتماعية، أن تنشعب منه إلى مصاحف متفرقة، تمهيدا لتنفيذ إرادة أعدائها بهجر القرآن تماما؟
فى المصحف الإمام لم تكتب أسماء السور، لأن الصحابة كانوا يعرفونها يقينا، ويجمعون عليها، ويعرفون كيف يفرقون بين اسم السورة العلم، وبين صفاتها التى ترد على سبيل الشرح والتقريب. ولم توضع علامات الترقيم، لأن الصحابة كان بوسعهم أن يرتلوا القرآن حتى من غير نقط ألفاظه، والآن وقد اختلف الحال: من المجدد الذى يعيد هذه الأمة إلى المصحف الإمام مرة أخرى، معبدا الطريق نحوه بأدوات العصر، موحدا أسماء السور بما عليه إجماع المسلمين منذ 15 قرنا، بعد أن كاد المرجفون يصلون إلى غايتهم عبر بث الشبهات من هذا الباب، باب أسماء السور، وموحدا علامات الترقيم والتجويد لإغلاق باب واسع آخر، لشبهة أخرى توشك أن تصبح كبيرة؟
حادثة جددت النذير
فى المملكة الأردنية، أثار وجود مصحف مطبوع فى الإمارات الكثير من الجدل مؤخرا، وهو جدل امتد إلى خارج المملكة، حتى أن صحيفة “الرأى” نشرت خبرا تعلن فيه وزارة الأوقاف الأردنية سحبه من المساجد، وتتبرأ منه مؤكدة أنه لم يدخل البلاد بتصريح منها، فهل هذا المصحف مختلف فقط، كما يقول من انشغلوا ببعض التفاصيل عن الرؤية الكلية، أم أنه محرف؟
ما هو التحريف؟
جاء فى معجم تاج العروس: “حرَّف الشيء عن وجهه: صَرَفه. والتحريف: التغييرُ والتبديل. وهو في القرآن: تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها”. وفى لسان العرب: “تحريف الكلم عن مواضعه: تغييره. والتحريف في القرآن والكلمة: تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه، كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشباه”.
وخلاصة ما جاء فى هذه المادة ـ لغة واصطلاحا ـ أن التحريف اللفظى هو كل تغيير يطرأ على الكلام (ولو لم يمس إلا حرفا واحدا) عمدا أم خطأ، سواء أكان بالحذف، أم بالإضافة، أم بالاستبدال، أم بالالتباس. وسواء أكان فى بنية الحرف أم فى حالة نطقه (من السكون وحركات الضم والفتح والكسر وعددها).
وقد طرأ مثل هذا التحريف على بعض ألفاظ المصحف المشار إليه، ومنه تقريب علامة السكون التى توضع على سين “بسم” من الباء، لتصبح فوقها، ومد طرفها السفلى لتشبه الضمة، مما قد يلبس على القارئ ويجعله يظنها ضمة فوق الباء، وتحريفات أخرى فى التشكيل وفى علامات التجويد.
لا تجوز كتابة القرآن إلا بالعربية
ولتبرير هذا التحريف ذهب البعض إلى أن المصحف مكتوب بحروف الأردو! وهو تبرير يتردد بين الجهل والكذب، فحروف الأردو ليست إلا نوعا من الحروف العربية يستخدم في كتابة اللغة الأردية، وهى حروف تكتب في العادة بخط النستعليق، إذ اللغة الأردية ليست لها أبجدية مستقلة، وإنما هى الأبجدية العربية بتغيير طفيف لتلائم الاختلاف فى مخارج الحروف، كحرف “پ” الذى يقابل مخرج “P” فى لغات أوربا، ولا نظير له فى المخارج العربية. وفى المقابل نجد حرف العين الذى لا مخرج له فى اللغة الأردية، لكن المتحدثين بها أبقوا عليه للكلمات العربية الدخيلة على لغتهم.
وبديهى أن القرآن، الذى أنزله الله عربيا، ليس فيه إلا الحروف العربية، التى لا خلاف فى صورة كتابتها بين النصوص المكتوبة باللغة العربية والنصوص المكتوبة بالأردو، وبناء عليه لا مجال أصلا للحديث عن اختلاف اللغات واعتباره سببا لتغيير صورة الحرف.
والأكثر أهمية أنه لا تجوز كتابة آيات القرآن بغير اللغة العربية (يمكن أن يفسر بأية لغة لكن الآيات نفسها لا تكتب إلا بالعربية) أى أنهم لو صدقوا فى تبريرهم، يكونون قد خرجوا من تهمة تحريف بعض الحروف إلى تحريف المصحف كله بكتابته بغير العربية، وفى هذا يقول الشيخ “محمد رشيد رضا” فى المنار:
“المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة، فإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها لا تغنى غناء الحروف العربية لنقصها، كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها، لما فيها من تحريف كلمه، ومَنْ رضى بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر. وإذا كان الأعجمى الداخل فى الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فينطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين) فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر، ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت فى الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة، ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر. وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا، ففى المسألة تفصيل. والذى نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا بأصل الدين ولا تلاعبا به، وإن هو خالف الخط العربى فالفرق بين الخط العربي المعروف والخط الكوفى أبعد من الفرق بين الخطين العربى والفارسى، ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها ولكنهم يعتقدونها عربية. وإذا قيل إنها مختلفة اختلافا لا يكفى لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفى والفارسى (والأردو قريب من الفارسى): نقول قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغى الاتفاق على خط واحد، فَهِمَ المسلمون هذا من روح الإسلام، فكانوا متحدين فى كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك من آيات حفظ الله له وهو عندى واجب، فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين، والعروة الوثقى التى يستمسك بها جميع المؤمنين، ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها وكذا يقال فى سائر الشعوب. وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه”.
ويفند الشيخ “محمد رشيد رضا” أدلة من أفتى بجواز كتابة القرآن بالعربية، بزعم أن “سلمان الفارسى” رضى الله عنه كتب لقومه الفاتحة بلغتهم، وأن الحسن البصرى قرأ القرآن بالفارسية، فيقول: “فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس، فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم، وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم. وإن أريد به أن كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسى قريب من العربى ولا دخل له أيضا بلين الألسنة. والصواب أن الأثر غير صحيح، وأما الحسن البصرى الذى ذكره فما هو الحسن التابعى المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية، ولا حجة فى قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما فى الذى قبله وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية، إلا أن يقال كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها”.
ومما قيل فى بيان الموانع الشرعية لكتابة المصحف بحروف غير عربية وبيان ما فيها من الخطر:
1- ثبت أن كتابة المصحف فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفى جمعه فى عهد أبى بكر، وجمعه فى عهد عثمان رضي الله عنهما كانت بالحروف العربية، بل قصد عثمان رضي الله عنه رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين فى رسم الحروف، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود لغات وحروف غير عربية ووجود كتبة مسلمين من غير العرب، ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة فى المصحف بحروف غير عربية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى”. فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملا بما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة رضي الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير، وعملا بإجماع الأمة.
2- الحروف نوع من الأشكال المصطلح على الكتابة بها عند أهلها، فهى قابلة للتغيير والتبديل بحروف أخرى مرة بعد مرة، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضى ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة، واختلف الاصطلاح فى الكتابة للعلة نفسها، وقد يؤدى ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك، ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به كتب الرسل السابقين، حينما عبثت بها الأيدى والأفكار، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها حفاظا على الدين.
3 – يخشى إذا رخص فى ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله “القرآن” والعياذ بالله، ألعوبة فى أيدى الناس، كلما عنّ لإنسان فكرة فى كتابة القرآن اقترح تطبيقها، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية وآخرون كتابته بالسريانية، وهكذا مستندين فى ذلك إلى التيسير ورفع الحرج والتوسع فى الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة. وفى هذا ما فيه من الخطر العظيم.
وفى هذا المعنى قال تقي الدين الفاسى فى كتابه شفاء الغرام: “ويروى أن الخليفة (هارون) الرشيد، أو جده (أبو جعفر) المنصور، أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس”.
أسماء السور توقيفية
ومن أوجه التبديل فى المصحف المشار إليه (مصحف الإمارات) أنه يسمي بعض السور بغير الأسماء التي أنزلت بها، مثل سورة “الإسراء” التى يسميها “سورة بنى إسرائيل”. وأقول “أنزلت بها” لأن القرآن الكريم وحى كله: ألفاظه، وآياته، وأحكامه، وقراءاته، وسوره، وأسماؤها، وترتيبها. يقول الأستاذ “محمد الطاهر ابن عاشور” فى تفسير “التحرير والتنوير”: “أما أسماء السور فقد جُعِلَت لها من عهد نزول الوحى، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة، وقد دل حديث ابن عباس الذى ذكر آنفا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا نزلت الآية “ضعوها فى السورة التى يذكر فيها كذا”، فسورة البقرة (أى: فآيات سورة البقرة) مثلا كانت بالسورة التي تذكر فيها البقرة”.
وقال “ابن جرير الطبرى” فى “جامع البيان”: “لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وقال الشيخ سليمان البجيرمى فى “تحفة الحبيب على شرح الخطيب”: “أسماء السور بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم.. لأن أسماء السور وترتيبها وترتيب الآيات كل من هذه الثلاثة بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم، أخبره جبريل عليه السلام بأنها هكذا فى اللوح المحفوظ”.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال، موضحا كيف كان النبى صلى الله عليه وسلم يراجع مع كتاب الوحى تفاصيل ما كتبوا: “كنت أكتب الوحى لرسول الله، وكان إذا نزل عليه الوحى أخذته بحاء شديدة وعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فاكتب وهو يملى علىَّ، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تنكسر من ثقل القرآن، حتى أقول لا أمشى على رجلى أبدا، فإذا فرغت قال: اقرأ، فأقرأ، فإن كان به سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس”. فمن يجرؤ بعد هذا على الادعاء بأن القرآن ـ ولو فى أسماء سوره ـ كان فيه شىء مما سموه “اجتهاد الصحابة”؟ وكيف لهؤلاء الذين عاينوا بأبدانهم وأرواحهم، بالمشاهدة وبالمشاركة عظم هذا “القول الثقيل” أن يجترأوا عليه برأيهم؟
وروى الطبرى فى تفسيره، عن محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبى عدى، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبى معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: “أىُّ أرضٍ تُقِلُّنى، وأىُّ سماءٍ تظلّنى، إذا قلتُ فى القرآن برأيى” فانظر إلى “ثانى اثنين إذ هما فى الغار” وشدة إشفاقه رضى الله عنه من تحمل مسؤولية تفسير القرآن، فكيف يتحمل مسؤولية الاجتهاد فى تسمية سوره كما يزعم بعضهم؟
وينقل “السيوطى” فى “الإتقان فى علوم القرآن” عن “ابن الحصار” قوله: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحى. كان رسول الله يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا وقد حصل اليقين من النقل المتواتر ﺑﻬذا الترتيب من تلاوة رسول الله ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا فى المصحف.
وفى “الإتقان فى علوم القرآن” عرَّف السيوطى السورة بأنها: “الطائفة المترجمة توقيفا أي المسماة باسم خاص بتوقيف من النبى” ومعلوم أن التوقيف عكس الاجتهاد. وقال “قد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك. ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبى حاتم عن عكرمة قال كان المشركون يقولون سورة البقرة وسورة العنكبوت يستهزئون ﺑﻬا فنزل إنا كفيناك المستهزئين. وقد كره بعضهم أن يقال سورة كذا لما رواه الطبرانى والبيهقى عن أنس مرفوعا “لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله ولكن قولوا السورة التى تذكر فيها البقرة والتى يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله” وإسناده ضعيف بل ادعى ابن الجوزى أنه موضوع، وقال البيهقى إنما يعرف موقوفا على ابن عمر ثم أخرجه عنه بسند صحيح وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها عنه”. (السيوطى ـ الإتقان فى علوم القرآن ـ فى معرفة أسمائه وأسماء سوره).
وفى قول السيوطى “المترجمة توقيفا” مفتاح إزالة اللبس، ونشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر التوقيف، أى الأمر الذى لا يجوز معه الاجتهاد ولا التأويل، وأن اللبس الذى قام فى أذهان الكثيرين بشأن أسماء السور، استند إلى حديثين موقوفين، (والموقوف: هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم ولا يتجاوز بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الأول رواه البخارى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال في بَنِى إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ (أى قال عن هذه السور): هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِى”
والحديث الآخر، رواه الترمذى: عن عائشة رضى اللّه عنها قالت: “كَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لا يَنَامُ حَتَّى يَقرَأَ بَنِى إِسرَائِيلَ وَالزُّمَر”.
وهما حديثان لا يدلان على أكثر من أن سورة الإسراء كان “يُطلق” عليها “سورة بنى إسرائيل” على سبيل الوصف والإخبار عن موضوعها، لكن هذا لا يجعل من هذه “الصفة” بديلا يستغنى به عن اسمها الذى هو علم عليها، وهو الإسراء، هذا الاسم الذى أخبرنا به النبى صلى الله عليه وسلم، كما أخبرنا ببقية أسماء سور القرآن، مترجما لها، أى معرفا بذواتها التعريف الجامع المانع، وهو ما لا يحققه إلا اسم العلم. أما الصفات فلا مانع من استعمالها فى باب الإخبار والإشارة، لا فى باب التحقيق والتوثيق. ومن ذلك ما نقرؤه فى كتب السيرة من أن العرب كانت تسمى النبى صلى الله عليه وسلم “الصادق الأمين” حتى من قبل بعثته، وهنا يجوز أن تصلى على النبى فى حديثك مع نفسك أو مع الناس بصيغة “اللهم صل على الصادق الأمين” لكنك فى التشهد (فى الصلاة) لا يجوز أن تقول إلا “اللهم صل على محمد” لأن “محمدا” هو اسم العلم الذى تتحقق به المعرفة الجامعة لخصال المسمى المانعة من اختلاط غيرها بها. وكذلك الأمر بالنسبة لأسماء السور، إذ يجوز أن تشير إلى السورة بصفة تتعلق بها ويفهم منها السامع مرادك، كقول الأب لابنه: اقرأ “ألم تر” إشارة إلى سورة الفيل، لكن لا يجوز أن تذكر السورة فى المصحف إلا باعتبارها “سورة الفيل”. ومن الأدلة العقلية فى هذا الباب أن بعض سور القرآن تحمل عدة مسميات “صفات” غير اسمها العلم، الذى عليه الإجماع ولا ينكر أحد إطلاقه عليها، بينما تختلف الآراء فى “الصفات” فيختار البعض إحداها ويختار البعض واحدة أخرى، فبأى الآراء نأخذ فى المصحف: بالإجماع المنعقد على 114 اسما لـ114 سورة والمعروف يقينا لعموم الأمة، أم بترجيحات تتضارب فيما بينها وتتأرجح بين صفات مختلفة، ولا تتفق إلا على ما عليه إجماع الأمة؟ ثم هب أننا سنأخذ بالصفات ونعتبرها أسماء يجوز اعتمادها فى المصحف، أتدرون كم اسما للسور يصبح لدينا؟
إن سورة “الإسراء” نفسها، يطلق عليها ـ من باب الوصف كما أشرنا ـ سورة بنى إسرائيل، كما يطلق عليها ـ من باب التقريب ـ سورة سبحان، لأنها بدأت بهذه الكلمة، فأى اسم من الأسماء الثلاثة نختار حتى يتحقق “إجماع المسلمين” الذى أكد الشيخ “محمد رشيد رضا” فيما نقلنا عنه آنفا أنه الأصل، وحتى لا “تختلف القراءة تبعا لذلك، ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه” كما أشرنا من قبل.
كما أن الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم، مما رواه البخارى عن أبى هريرة، أنه وصف سورة الفاتحة بأنها “أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم” وهذه ثلاث صفات، لكن الاسم الوحيد الذى يثبت فى المصحف هو “الفاتحة” ومع أن (الأسماء) الأخرى ثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم، فإن الأمة كلها فهمت أنها صفات.
وورد فى “شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذرى ـ فى أسماء السور” أن سورة “التوبة” هى “سورة براءة” وهى أيضا “الفاضحة” لأنها فضحت المنافقين، وهى سورة “البحوث” لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، وهى “المبعثرة” لأنها بعثرت صفوفهم وأعلنت الحرب على المشركين. فهذه خمسة أسماء بزعم من اعتبر الصفات أسماء، فإلى أية حال نصل إن فرقنا المصاحف بينها، بحيث تختلف بين الأسماء الخمسة؟ أية فوضى شاملة نصبح فيها؟ إن المنذرى نفسه يقطع باختيار اسم “التوبة” ولا يجيز غيره، مع أنه هو نفسه من شرح “غيره” هذا، لكنه شرحه وهو يدرك، ويعتقد أنه ينبغى للقارئ أن يدرك، أنها “صفات” تطلق على سبيل الشرح والتفسير، لا على سبيل التسمية، التى تظل منعقدة لاسم واحد هو اسم العلم “التوبة”، مشيرا إلى أن السورة “كتبت في المصاحف بهذا الاسم”.
وفي الحديث نفسه، الذى جاءت فيه تسمية التوبة بالفاضحة: عن “سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ: التَّوْبَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ “وَمِنْهُمْ” “وَمِنْهُمْ” حَتَّى ظَنُّوا ألا يَبْقَى مِنَّهم أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا”. يقول ابن عباس عن سورة الأنفال “تلك سورة بدر”. ويقول عن سورة الحشر “سورة بنى النضير”. وواضح أن هذا كله على سبيل التفسير، وأن “سعيد ابن جبير” إنما ذهب إلى ابن عباس لأنه “ترجمان القرآن” يسأله عن معاني السور، ذهب إلى المفسر لأنه يريد التفسير، فشخص عبدالله بن عباس هنا هو مفتاح مهم لفهم السياق، وقد راح ابن عباس ـ وهو يفسر ـ يشبر إلى موضوعات السور، ليوجز معانيها، كأن يسألك أحدهم عن صاحبك فلان، لأنه يريد أن يصاهره أو يعمل معه، فتقول له: هو الشهامة والصدق، ومعلوم ـ يقينا ـ أن هذا ليس اسمه، وأنك إنما أردت توصيل المعنى إلى محدثك من أقصر طريق.
(المصدر: موقع الأمة)