محمد الغزالي في ذكرى مولده .. المعلم والمربي الخبير
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
محمد الغزالي (السبت 5 ذو الحجة 1335 هـ/ 22 سبتمبر 1917م- السبت 20 شوال 1416 هـ/ 9 مارس 1996م)، الشيخ الجليل والرجل الكبير, العالم العامل العابد, والمجاهد الصادق, الإنسان المصري الذي عربه الإسلام, والأب الحقيقي لأجيال كثيرة أتت وستأتي من أبناء أمتنا العربية المسلمة, يجهدون أنفسهم ويجاهدونها ويجاهدون بها وبأموالهم في سبيل بعث جديد لأمتنا يخرجها من تيه التراجع إلي جادة الطريق المستقيم ومحجته البيضاء حيث شهادتها وشهودها علي العالمين.
ولا يعرف قدر وقيمة قامة الغزالي العلمية والعملية سوى من قرأ له قراءة جادة, أو استمع له وحاوره, أو عايشه في مواقفه. لقد كان الغزالي أمة وحده, وكان أكثر ما ميزه عن غيره من أفذاذ الدعوة والإصلاح- في تقديري-, شيء لم تكن تخطئه العين, ولا يغيب عن القلب والعقل: إنه إخلاصه الذي يشع من عينيه لينفذ إلى قلبك مباشرة, ووجهه الباسم الضحوك, ودمعته القريبة عندما يتكلم عن أحوال العرب والمسلمين وما صاروا إليه من تراجع كبير.
لقد ترك الشيخ الغزالي بصمات واضحة على العقل الإسلامي من خلال كتاباته ومحاضراته وخطبه وأسلوبه التربوي الذي شاع وانتشر في عالمنا العربي والإسلامي، فقد تلقى عنه آلاف الطلبة العلم في: الأزهر، وفي جامعة أم القرى بالمملكة السعودية، وفي كلية الشريعة بقطر، وفي جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بالجزائر، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين استمعوا لمحاضراته وقرأوا كتبه ومقالاته في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي.
إن الإمام الغزالي رحمة الله عليه ليس مجرد فقيه أو داعية أو مفكر مرموق في تاريخنا المعاصر وإنما هو قبل ذلك وبعده مرب عظيم ومعلم كبير وموجه ومرشد لأجيال كثيرة فقد كان الغزالي بتعبير الدكتور عبد الرازق القسوم “الغيث الفكري الذي ساقه الله إلى العقل الجزائري حينما بدأ الجدب يدب إليه فحول قحطه وجفافه إلى نماء”[1]، وقال الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله عن كتبه موجها النصيحة للشباب ” إذا أردتم الهداية دون اضطراب والنطق دون تحريف والحق دون تمويه، فعليكم بمكتبة الأستاذ محمد الغزالي[2]
وقد لفت الغزالي أنظار المسلمين إلى أساليب التربية الناجعة، والأخلاق الرائعة التي جاء بها صاحب الرسالة الخاتمة، ونقل بها العالم من الغي إلى الرشاد”[3]، حيث أكد من خلال كتاباته وسيرته العملية على أن “الإسلام قد جاء لينتقل البشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، واعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عد الإخلال بهذه الوسائل خروجاً عليه وابتعاداً عنه[4].
التنشئة ومركزيتها في أي نهضة إسلامية
التنشئة عملية تكوين وتوجيه تحددها قيم مرغوب فيها ومطلوب العمل بها، فمادة (نشأ) في اللغة تتحمل بمضامين عديدة أهمها: الإحداث والحدوث، والتجديد والتجدد، والتأليف والتربية، وجمع المعاني والتأليف بينها وتنسيقها وحسن التعبير عنها، والمنشئ: هو القائم باستنباط المعاني وتأليفها والتعبير عنها بكلام بليغ، والناشئ: من تجاوز حد الصغر وشب، وناشئة الليل: الاستيقاظ من النوم والقيام للصلاة، والنشأة: الحياة.
ونشأة أي أمة تبدأ من مناهج التربية فيها وما تبثه من قيم في أبنائها، فالأمة جماعة من الناس متحدة الجنس في الغالب، وتربط أفرادها على طول الزمن عادات وتقاليد متشابهة ومصالح وأماني مشتركة، وهي في الإسلام جماعة اتحدت على قيم دينية لتحقيق أهداف العبادة لله وحده وتعمير الأرض وتعبيدها لتهيئة حياة طيبة لأبناء آدم ينعمون فيها بالأمن ويتعاونون معاً لبناء مجتمعات صالحة مصلحة.
ولذلك قصد الإسلام إلى بناء مجتمع صالح فتعهد الناس بالتربية من أول اتصالهم الحياة وتعهدهم مع نمو أعمارهم بتنمية عقولهم وقلوبهم كما تعهد بحسن تغذية أجسامهم، وتعد الحياة الإسلامية الأولى التي أخرجت لنا ذلك الطراز الفريد من المؤمنين الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وحملوا إلينا الدين غضاً طرياً كانوا نتاج تلك التربية العالية، هي النموذج المثال الذي يجب أن يقتدي به المسلمون في منطلقاته مع تجديد أدواته في كل جيل.
الغزالي وتنشئة الأجيال المسلمة
أكد الغزالي-رحمه الله- على ضرورة تنشئة أجيال المسلمين على قيم دينهم وثقافتهم الإسلامية، لأن “الثقافة الذاتية للأمة هي التي تصنع “شخصية” الأمة وتبرز معالمها وتحدد خصائصها وتقرر تقاليدها وقوانينها وتستحسن لها أشياء وتستهجن أخرى، بل هي التي تكون مزاج الأمة العام”[5]، مؤكداً على أن ظهور الإسلام قد اقترن “بحركة إحياء عامة تنفست بها المشارق والمغارب كما يتنفس الصبح بعد ليل طويل حالك. وفي هذه البكرة الصاحية انتفض البشر انتفاضة الانتعاش والنشاط، ودبت في أوصالهم روح العمل لمستقبل أفضل وحياة أكرم، لقد شعر الناس- بعد ما استمعوا إلى القرآن-أنهم متخلفون مسافات طويلة عما يجب أن يبلغوه من رقي وكمال”[6].
وقد بين رحمه الله من واقع تجربته التربية وتأملاته الفكرية في أزمة أمتنا الحضارية في جانبها التربوي أن “ترويض النفس على الكمال والخير، وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة وطول حساب، مؤكداً أنه إذا كانت عمارة دار جديدة على أنقاض دار خربة لا يتم طفرة، ولا يتم عن ارتجال وإهمال، فكيف ببناء نفس وإنشاء مستقبل”[7].
ولهذا فقد اهتم الإسلام من خلال معماره السامي بتربية الإنسان المسلم وتنشئته التنشئة الصالحة التي تؤهله لحمل رسالة الإسلام في نفسه ومجتمعه وتوصيلها إلى العالمين، فنجد أن “توزيع التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيه إلى حقيقة ألا يترك للنفس فراغ يمتلىء بالباطل لأنه لم يمتلئ من قبل بالحق، فالإسلام يملك على الإنسان نفسه من هذه الناحية، ولذلك نجد أن أغلب شرائعه يدور على جهاد النفس وجهاد الناس: وجهاد النفس فطامها عما تشتهي من آثام أو ما تجنح إليه من مناكر، وجهاد الناس منع مظالمهم من إفساد الحياة وخلخلة الإيمان والإصلاح في جنباتها، وكلا الجهادين يستغرق العمر كله لحظة لحظة، ولا يستبقي فرصاً للعبث والذهول والغفلات”[8].
والغرض الرئيسي من معالجة الغزالي لشئون التربية لأبناء الأمة هي إدراك الفهم السليم الواقعي للأبعاد العقيدية والفكرية والتربوية والمؤسسية اللازمة لبناء الفرد ومن ثم بناء الأمة من خلال أهداف الإسلام المتمثلة في: “إصلاح النفس وإيجاد الضمير المهذب الذي يحمل على تقوى الله في السر والعلانية”[9] لأنه من المستحيل “قيام حضارة صحيحة على قلوب عليلة، وأنه ما لم تستقم الضمائر وتصف النيات فلن يكبح جماح البشر شيء”[10].
فالغزالي يرى مستبطناً روح القرآن والسنة وعبرة وخبرة التاريخ الإسلامي والعالمي “إن الأحوال النفسية الحية تجعل القليل كثيراً والواحد أمة، وإلى هذه الأحوال-كماً وكيفاً- يرتد مستقبل الإنسان وتأخذ حياته مجراها، فالنفس وحدها هي مصدر السلوك والتوجيه حسب ما يغمرها من أفكار ويصبغها من عواطف، وارتفاع الإنسان في مدارج الارتقاء الثقافي والكمال الخلقي يغير كثيراً من أفكاره وأحاسيسه، ويبدل أحكامه على كثير من الأشخاص والأشياء”[11].
ولذلك شدد الغزالي في غالب مؤلفاته على ضرورة العناية بالأدبيات التربوية الأسرية التي تنشئ الطفل على قيم الخير والعدالة والحق والكرامة والتكافل والتراحم والسلام، وعلى أن يكون ملتزماً بالقانون وحاملاً للمسئولية ورقيباً على ذاته وعلى السلطة وعلى الأمة، وأن على الأسرة والتربويين أن ينشئوا الأبناء والأجيال على ذلك.
وشدد على أهمية الانتباه لدور الأسرة المسلمة التربوي ودور المدرسة المعرفي ودور الدعاة لينبهوا الآباء والأمهات كيف يربون أبناءهم وينبون شخصياتهم ويمارسون أدوارهم حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على أسس المفاهيم الإسلامية السليمة والفكر الواعي العقلاني المدرك للحقوق والواجبات لتعود الأمة إلى مكانتها وتستطيع القيام بمهام رسالتها في الشهادة والشهود على العالمين.
ويعد كتابه “خلق المسلم” دليلاً تربوياً يستند لمصدري الإسلام الرئيسين: القرآن المجيد والسنة المشرفة، يمكن أن نبدع من خلاله مناهج تربوية لكافة الأجيال المسلمة من الجنسين بمختلف أعمارها
كتاب خلق المسلم دليل تربوي لكل مسلم ومسلمة
تحدث الغزالي في هذا الكتاب بقلبه وعقله، فخرج كتابه قطعة أدبية راقية، عناصرها آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ربط بينها الغزالي بأسلوبه الأدبي البليغ، فكان كل فصل من فصوله دليلاً تربوياً هادياً لكل مسلم ومسلمة عن معالم الخلق الجميل الذي يخرج لنا الإنسان المصلح، حيث يجد فيه كل من أسلم وجهه لله حديثاً ماتعاً عن أركان الإسلام ورباطها الوثيق بمبادئ الأخلاق، وكيف أن ضعف الخلق دليل على ضعف الإيمان، وكيف يتقلب الإنسان بين الخير والشر، وكيف أن الخلق السليم يعصم صاحبه من الشر، وإن ضعف ووقع فيه كان خلقه سبباً في عودته لجادة الطريق المستقيم، وتحدث عن أخلاق: الصدق، الأمانة، الوفاء، الإخلاص، ، وأدب الحديث، وسلامة الصدر من الأحقاد، والقوة، والحلم والصفح، والجود والكرم، والصبر، والقصد والعفاف، والنظافة والتجميل والصحة، والحياء، والإخاء، والاتحاد، واختيار الأصدقاء، والعزة، والرحمة، والعزة، والرحمة، والعلم والعقل، والانتفاع بالوقت والاتعاظ بالزمن، والشعور بالمسئولية وأداء الواجب قبل المطالبة بالحق، مما يجعل هذا الكتاب جديراً بأن يكون ضمن مكتبة كل بيت مسلم وكل مدرسة وجامع وجامعة ويفرض تدريسه في كافة مراحل الدراسة للأطفال والشباب، وتنظم حوله حلقات العلم في كل منتديات الرأي والوعظ في مجتمعاتنا.
وإن أخذ أمتنا بما جاء في هذا الكتاب ضرورة محتومة في أيامنا هذه التي نعاني فيها من الانفصال شبه الكامل والمستمر للشباب المسلم عن دينه ومظاهره المتمثلة في البعد عن المسجد وهجر القرآن والجهل بالسنة والسيرة والتاريخ الإسلامي والانغماس في ملذات الحياة والتفاهات خاصة مع الغزو القاسي للتكنولوجيا الحديثة لحياتهم وأوقاتهم الثمينة عبر ما تقدمه من ألعاب تخاطب الغرائز والدنيا لهم وتضيع أوقاتهم.
خاتمة
كان الغزالي-رحمه الله-داعية تغلغل القرآن في دمه تغلغل كرياته الحمر والبيض، درس وخطب وكتب بحرية فكر ورجاحة عقل وسماحة ضمير وطراوة إيمان من أجل أن يعود المسلمون لمنابع دينهم الصافية حتى يستردوا شخصيتهم التي غابت بسبب مناهج التنشئة والتربية الخاطئة التي جمعت بين الانبهار والتقليد للغرب الغازي والتمسك بالقديم البالي من التقاليد التربية التي انحرفت عن مبادئ الدين القويم، وقد استكشف في رحلة جهاده في سبيل بعث إسلامي جديد مناطق مجهولة داخل تراثنا الإسلامي تصلح للانطلاق منها لبناء نظرية تربوية إسلامية، ودخل مناطق ألغام محظورة في تراثنا الإسلامي أسهمت في تشويه مناهج تربية الأجيال المسلمة على مر العصور الماضية، وحرك سواكن كانت تعد ثوابتا في فكرنا وتقاليدنا وتربيتنا لأبنائنا فعلمنا أنها ليست بثوابت. وهذه كلها مجالات للبحث في فكره تستحق عناية الباحثين في فكره عن مخرج لأزمة أمتنا الحضاري.
بل إن قصة حياته لا بد أن تكون نموذجاً للإنسان المسلم في علاقته الحانية مع والديه، والأخ الكبير الذي تحمل أمانة أسرته بعد فقد عائليها، والزوج المحب لزوجته، والأب الحاني المربي لأولاده، والموظف المسلم الأمين، والداعية الخبير بالنفوس وصانع الرجال، والفقيه العالم، والمسلم المهموم بقضايا أمته في مشارق الأرض مغاربها.
رحم الله الغزالي رحمة واسعة وجزاه عن أمتنا خير الجزاء، فقد كان رجلاً راسخ الإيمان قضى حياته نشطاً نشاطاً خارقاً في خدمة الإسلام وأهله حتى قضى نحبه صادقاً مع الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من المؤمنين الصادقين.
[1] لعرابة، نصر الدين، الشيخ الغزالي: حياته وآثار، شهادات ومواقف، دار الأمة، الجزائر، 1998م، ص 236.
[2] المصدر نفسه، ص 194.
[3] الغزالي، محمد، خلق المسلم، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1987م، ص3.
[4] المصدر نفسه، ص 9.
[5] الغزالي، محمد، ظلام من الغرب، القاهرة، دار نهضة مصر، ط4، 2005م، ص 118.
[6] المصدر نفسه، ص 246.
[7] الغزالي، محمد، جدد حياتك، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1962م، ص 282-283.
[8] المصدر نفسه، ص 76-78.
[9] الغزالي، محمد، ليس من الإسلام، دار الكتاب العربي، ط1، القاهرة، دون تاريخ، ص9.
[10] المصدر نفسه، ص 10.
[11] الغزالي، محمد، جدد حياتك، مصدر سابق، ص 128.