بقلم عصام تليمة
تمر هذه الأيام الذكرى العشرون لوفاة العلامة الكبير الشيخ محمد الغزالي، الذي توفي في التاسع من مارس سنة 1996م، والرجل الذي ملأ فكره ما بين طباق الأرض، وصدق عليه قول القائل: ملأ الدنيا، وشغل الناس، وإن مات الرجل، فيظل فكره وعلمه رافدا مهما للجميع.
للشيخ محمد الغزالي رحمه الله فضلٌ على جُلِّ ـ إن لم يكن كل ـ أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة، وعلى علمائها كذلك، فهم عالة في كثير من أفكارهم على أفكاره وكتبه وخطبه ومحاضراته، الذي عاش طوال حياته يذود عن الإسلام، ويرشد مسيرة أبنائه، فقد عاش رحمه الله بالإسلام، وعاش للإسلام، عاش بالإسلام عقيدة وشريعة، وخلقا وعبادة، ومنهاج حياة، وعاش للإسلام داعية إليه، يكشف غوامضه للناس، ويصحح ما اعوج من فهم المسلمين له.
كانت ميزة الشيخ الغزالي عن كل دعاة وعلماء عصره، أنه يمتلك الجرأة في الطرح، ولم يكن يبالي بخوض معركة يرى فيها الإسلام يشوه، فخاض مع من حصروا الإسلام في طقوس شكلية، فأطلق عليهم لقب: أصدقاء الإسلام الجهلة، رغم كثرتهم في وقته، ورغم علو صوتهم. وخاض معارك مع أنظمة عسكرية واستبدادية، منذ أيام الملك فاروق، إلى حكم مبارك، كانت كتبه من عناوينها تتضح أنه رجل مناضل يبغض الظلم والاستبداد، فكتب: (الإسلام والاستبداد السياسي) و(قذائف الحق) و(الاستعمار أحقاد وأطماع)، وغيرها من الكتب التي جرت عليه محنا وابتلاءات.
الشيخ الغزالي رجل رزقه الله قلما رشيقا، سهلا ممتنعا، لا يتكلف في الكتابة، ولا تشعر بمقاله أو كتابه وأنت تقرأه إلا بدخول سريع في الموضوع، فتراه يبدأ المقال بموقف يحدث له مع شخص، متشدد مثلا، أو فاهم للإسلام فهما سطحيا، ثم يرد عليه، مبينا موقف الإسلام الصحيح من القضية، في ثوب قصصي أدبي رائع يصلك فكره وعلمه، لقد كانت تنتابني أحاسيس شتى وأنا أقرأ كتب ومقالات الشيخ الغزالي رحمه الله، قد يراها الإنسان متضادة، ولكن هذا ما لمسته ـ ويلمسه غيري ـ عند قراءتي له، فقد كان يقشعر بدني، ويقف شعر رأسي، وتسيل دموعي، وأنهمر في البكاء أحيانا. وأحيانا أهتز طربا لبليغ عباراته، وأحيانا أنفجر ضاحكا من تعليقاته الساخرة، وتشعر وكأن قلم الغزالي آلة راقصة لا تملك إلا أن تتراقص معها طربا، وأحيانا أشعر بغليان الدم في عروقي، وربما تخيلت نفسي في كتيبة جيش قائدها الغزالي، أتخيل نفسي أحد جنودها، شاهرا سيفي معه في معركة الحق، لا أملك تفسيرا لهذا كله إلا أن أقول: إنه الشيخ الغزالي، إحدى فلتات القرن الرابع عشر الهجري في الأدب والفكر الدعوي.
إنه نموذج واضح وقوي للأزهري المنشود، الأزهري الذي يجمع بين فهم الدنيا والدين، فليس مخاصما للحياة، متقوقعا في صومعة علمه، وليس رجل سلطة يلهث وراءها لينال رضاها، ويخاف من سخطها، وقد كان كثيرا ما يقول عن نفسه: أنا لست من علماء السلطة، ولا من دعاة الشرطة، وهو مصطلح صكه وصار مثلا يقال. نموذج للأزهري (المفتح)، الذي لا يجر لسفاسف الأمور، ولا ينطلي عليه الباطل، رزق جرأة وشجاعة قل نظيرها في كثير من أبناء جيله وأزهره. أزهري يعيش بجسده في مصر، لكن قلبه وعقله يطوف أقطار الدنيا مهتما بشؤون أمته ودينه، هو نموذج نتمناه في الأزهر، وفي كل أزهري، حيث تعدد جوانب إبداعه رحمه الله الفكري والديني، ولا يستطيع مقال أن يفي بحق الرجل، ولعل في مقالاتنا القادمة إن شاء الله ما نجلي كثيرا من حياته ومواقفه وعلمه ليكون نبراسا لكل أزهري، وداعية مسلم.
المصدر: الجزيرة مباشر.