محمد الغزالي.. عمامة العالم وثورية المناضل وقلم الأديب
إعداد أمين حبلا
كأنما خلق من جمال وعاش له، ومرت سنواته مطمئنة به في رحلة حياة عرف فيها الكتاب والمحابر والمحاريب والمنابر والسجون والسبحة والعكاز. مرت عليه أغاريد الأشواق وهو سجين ينشد الحرية من ثقب باب حديدي صارم يختزل في قضبانه ومصاريعه وجه مصر الشاحب أيام الخمسينيات.
في محرابه، وفي سجنه، وفي دفق مداده، وعلى سجادته، عاش إبداعا أدبيا مجنحا جعل من هموم الأمة الإسلامية زورقه في الحياة، فسار مغالبا أمواج التقليد والجمود وعزلة العقل، وسطوة الأسطورة، وغلبة العادات على الأصول.
وعلى الضفة الأخرى صارع بعنف المداد وحدة القلم المقاوم دلافين الفكر العلماني المتوحش بقوة، بمناظرات خالدة وأثيرة في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي المعاصر.
وقد عني الشيخ محمد الغزالي مثل سميه القديم أبي حامد الغزالي، بإحياء قيم الدين الإسلامي وأخلاقه، في محاور منها أخلاق المسلم مع ربه، وأخلاقه مع الكون المحيط به والحياة المضطربة الأمواج من حوله.
آل السقا الجبيلي.. ميلاد صبي عظيم في نكلا العنب
ولد الشيخ محمد الغزالي في أسرة فقيرة مرتبطة بالأرض والقرآن، مثل الكثير من أقرانه في أرياف مصر، ففي 22 سبتمبر/أيلول 1917 ازدانت أسرة السقا الجبيلي بولد جديد سماه والده محمد الغزالي، تيمنا بالشيخ أبي حامد صاحب “إحياء علوم الدين” وفيلسوف الإسلام الذي ترك بصمات عظيمة على التراث والفكر الإسلامي إلى اليوم.
وفي قرية نكلا العنب بمحافظة البحيرة، عاش الغزالي طفولته الأولى يغرف شغاف السنين الوضيئة عبر سطور وآيات القرآن الكريم الذي حفظه وهو دون العاشرة من عمره.
وقد ارتبط الشيخ الغزالي بالقرآن، فكان رفيق طفولته وأنيس سجنه وزاد فكره ومداد بيانه وخليل شيخوخته. وعن صحبته مع القرآن تحدث فقال: كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي وقبل نومي وفي وحدتي، وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسا في تلك الوحدة الموحشة.
بعد حفظه للقرآن الكريم وإتقانه تجويده، التحق الغزالي بالمعهد الديني الابتدائي في مدينة الإسكندرية، وبين أروقته وسواريه أقام أساس معارفه الدينية، وصقل شغفه المعرفي، حينما وجهه إلى معارف القرآن والسنة النبوية، وقد حصل الشيخ الغزالي في هذ المعهد على شهادة الكفاءة، وشهادة الثانوية الأزهرية التي أهلته سنة 1937 للانتقال إلى القاهرة للدراسة في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، حيث حصل فيها على الشهادة العالية، كما حصل أيضا على الماجستير في الدعوة والإرشاد سنة 1360 للهجرة.
“هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون”
طر شارب الشيخ الغزالي في مرافقة العلوم، ودخل القاهرة ذات صباح ناعم، فتلقفته بضوضائها وصخبها الهادر، وذراعيها المفتوحين بالعلم والفكر والإغراء لابن الريف المتعطش للمعارف، فآنس في تلك الفترة من قلمه تدفقا وانسيابية، فقد مهدت فورة الأدب في ذهن الشاب البحيري (محافظة البحيرة) بساط الأدب، فانطلق ممتطيا صهوات الكلمات في مجلة الإخوان المسلمين الذين تعرف عليهم خلال دراسته بكلية أصول الدين، فوجدوا في قلمه وهجا يضيء لدعوتهم وفكرهم مدارات واسعة في قلوب الشباب والفتيات.
كان مؤسس حركة الإخوان الشيخ حسن البنا يثني بالدوام على أسلوب ولغة الشيخ محمد الغزالي، ويدعوه إلى الاستمرار والزيادة، حيث كتب له مرة قائلا: قرأت مقالك “الإخوان المسلمون والأحزاب” في العدد الأخير من مجلة الإخوان، فطربت لعبارته الجزلة ومعانيه الدقيقة وأدبه العف الرصين. هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون.. اكتب دائما وروح القدس يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد أربع سنوات من الدراسة المعمقة في كلية الدين، تخرج الغزالي شيخا ذا قلنسوة حمراء وقلم وهاج ولسان صارم لهج بالقرآن.
تعملق فكر الإخوان المسلمين لدى الغزالي فكان أحد كتابها المبدعين
عقد الأربعينيات.. وهج الشبيبة وعنفوان الحماس الدعوي
كانت سنة 1941 سنة مهمة في حياة الإمام الغزالي، ففيها تخرج، من كلية أصول الدين عالما متخصصا في الدعوة والإرشاد، وفيها تعززت صلته بالمساجد والدعوة العملية، حتى عين بعد ذلك بسنتين عام 1943 إماما وخطيبا لأحد مساجد القاهرة، مواصلا مع ذلك دراسته الجامعية التي أهلته لنيل شهادة العالمية المعادلة لشهادة الدكتوراه سنة 1943، وكان يومها في وهج الشبيبة وعنفوان الحماس الدعوي، فلم يكن عمره يزيد تلك الأيام على 26 ربيعا لا أكثر.
تتلمذ الإمام الغزالي على رعيل من علماء مصر الكبار كانوا كالقنطرة التي أوصلت بها أجيال ما قبل ثورة 1952 المعارف الأزهرية إلى الأجيال اللاحقة، ومن الأسماء الكبيرة التي درس عليها الشيخ عبد العظيم الزرقاني والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ محمد المدني، وغيرهم من أجلاء علماء الأزهر.
وكان من بين رفاق الغزالي في تلك الفترة طلاب نبغوا بعد ذلك في سماء العلم والدعوة الإسلامية، ومن بينهم على سبيل المثال الفتى السوري حينها محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ يوسف القرضاوي الذي سيكون في وقت لاحق عنوانا مهما في تاريخ الإسلام المعاصر، ليس في مصر والخليج فحسب، بل في العالم الإسلامي كله.
الغزالي هو أحد أكبر منظري جماعة الإخوان المسلمين وكان يرى في الإمام حسن البنا مرشدا قويا
حسن البنا.. صدفة في المسجد توقد جمرة الأشواق
شهدت علاقة الشيخ الغزالي بجماعة الإخوان المسلمين مدا وجزرا قبل أن تستقر على وطيد من المودة والتقدير والاحتفاء، حيث لا تزال كتبه ومحاضراته جزءا أساسيا من بنائهم الفكري وتفسيرهم للدين ونظرتهم للمجتمعات وللقيم الإنسانية.
كان الشيخ الغزالي ينظر إلى مؤسس الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا بتقدير عظيم، ويرى فيه ذلك الشاب الذي أوقد في قلبه جمرة أشواق الإسلام، وعرفه على فقه وصوت جديد لفهم شرائع وأخلاق الإسلام، وهز نبضات قلمه، فانطلق يقذف بما يراه “الحق المر” لهبا على ما رآه باطل القرن العشرين.
وقد تحدث الشيخ الغزالي عن حسن البنا وتأثيره عليه فقال: وكان من عادتي لزوم مسجد عبد الرحمن بن هرمز حيث أقوم بمذاكرة دروسي، وذات مساء نهض شاب لا أعرفه يلقي على الناس موعظة قصيرة شرحا للحديث الشريف: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) وكان حديثا مؤثرا يصل إلى القلب، ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به، واستمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الرجل العظيم إلى أن استشهد عام 1949.
حسن الهضيبي ثاني مرشدي الإخوان المسلمين الذي بسبب اختلافه معه خرج الغزالي من الجماعة
إمام السجن.. انفصال سلس بعد مقتل المرشد الأول
دخل الشيخ الغزالي السجن مع الإخوان المسلمين، وأوذي في سبيل دعوته، ويذكر الشيخ يوسف القرضاوي بأنه كان إمام السجن وقارئه الذي يهز شغاف القلوب في غسق الفجر وظلمات الزنازين الكالحة التي زارها الغزالي أكثر من مرة منذ العام 1949.
وبعد مقتل حسن البنا توترت العلاقة بين الغزالي والمرشد الثاني للإخوان حسن الهضيبي، وذلك بعد ثورة يوليو الناصرية والتحولات الفكرية والسياسية العميقة في مسارات الإخوان وعلاقتهم مع النظام العسكري الجديد.
ولم يكن الشيخ الغزالي الوحيد في ذلك الخلاف الذي خرج من جماعة الإخوان المسلمين بسببه عدد من شبابها المحسوب يومها على فئة العلماء والدعاة، غير أن حبال الود والصلة الروحية والفكرية بين الطرفين تعززت وتعمقت بعد ذلك، ويبدو أن الشيخ الغزالي قد بلغ من التأثر بالجماعة درجة لا يمكنه بعدها أن يخلعهم من فكره وثقافته، ورأت فيه الجماعة أحد أقلامها اللامعة حتى وإن أخذ سبيلا غير سبيلها تنظيميا وإداريا.
قضى الغزالي على الشابين المتهمين بقتل فرج فودة أنهما اعتديا على حق الحكومة وأن فودة مرتد
الجامعة الإسلامية.. معارك السلفية في المدينة المنورة
أعير الشيخ الغزالي إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مدرسا لمعارف إسلامية شتى، وهنالك وجد نفسه في بيئة إسلامية أقل انفتاحا مما كان في مصر، ثم وجد نفسه طرفا في معارك فقهية ودعوية في قضايا عديدة.
جادل الشيخ الغزالي علماء وشباب الصحوة الإسلامية في السعودية، وقف ضدهم صارما في الموقف من الغناء الذي رآه فنا إنسانيا يمكن أن يخدم الأهداف النبيلة، فيحرك الشجون ويثير حماس الجيوش ويرفع وتيرة العزم والبذل، وأعاد الشيخ الغزالي إحياء موقف العالم الأندلسي أبي محمد بن حزم بوضوح على مسامع علماء ومشايخ السلفية في الحجاز، فانتفضوا في الرد عليه غاضبين.
اتهم الغزالي خصومه بالتشدد في قضايا عدة، وظل يقرع على مسامعهم بأن الاختلالات العميقة في عالم اليوم وما يشهده من أمواج متضاربة وحرب دائمة على الإسلام، تستدعي نظرا شموليا أكثر مرونة وتيسيرا على الناس في كثير من القضايا.
وازدادت معاركه حدة على تلك الجبهة بعد صدور كتابه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، حيث أثار الكتاب جدلا واسعا، وأشعل فتيل معاركه مع عدد من مشايخ ورموز السلفية في العالم العربي عموما، فتتالت عليه الردود، حتى وصلت إلى 14 كتابا في الرد عليه.
كان الشيخ الغزالي يرى أن العقل السلفي حافظة للحديث النبوي الشريف، لكن فهمه وربطه بقيم الإسلام المختلفة، كان مما يعوز هذا العقل حسبما يرى.
بطلب من الشاذلي بن جديد تولى الشيخ الغزالي رئاسة جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية
جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية.. رحلة من المشرق إلى المغرب
وصل الغزالي إلى الجزائر سنة 1984 بطلب من رئيسها الشاذلي بن جديد لتولي رئاسة جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية، وقد كان للشيخ الغزالي يومها سعي حثيث على مسارات متعددة منها، بناء مناهج الجامعة ووضع مناهجها، واحتضان أسئلة الكثير من الشباب الجزائري التائه يومها بين الفرنكوفونية المتوحشة، والسلفية الجامحة التي ستأخذ بعد ذلك أبعادا عنيفة جدا مع التنظيمات الإسلامية المسلحة، مما أدى في نهاية المطاف إلى صراعها المسلح مع الجيش وقوى الأمن الذي أحرق خضراء الجزائر طيلة عشرية الجمر.
كان وصول الشيخ الغزالي إلى الجزائر قصة أخرى من معالم شخصية الرجل، حيث أًصر الرئيس الجزائري حينها على الشيخ الغزالي ليكون رئيسا للجامعة الجديدة، وذلك بعد أن اقترح اسمه وزير الشؤون الإسلامية العالم الجزائري عبد الرحمن شيبان.
قبل الشيخ العرض الجزائري، وتولى الإشراف على المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية في قسنطينة، ودخل بقوة في النسيج الإسلامي المعاصر للجزائر، عبر نقاشاته ومشاركاته المتعددة في الندوات والمناشط العلمية، أو عبر برنامجه الأسبوعي حديث الإثنين الذين كان يبث عبر التلفزيون الجزائري، وكان من أنجح البرامج وأكثرها تأثيرا في الشباب الجزائري.
“أنت عميل للشاذلي”.. وسام في ساحات الحروب الجزائرية
أولى الرئيس الشاذلي بن جديد رعاية وودا خاصا للشيخ الغزالي الذي غادر الجزائر سنة 1989 بسبب عارض صحي، بعد أن وشحه رئيسها بوسام الأثير تقديرا لجهوده، وكان ضيفا دائما على القصر الرئاسي في شهر رمضان، دون أن ينقص ذلك من صرامته ووضوحه وحدته في إنكار ما يراه منكرا.
لم تكن الجزائر ساحة الحرب الوحيدة على العلمانية عند الشيخ الغزالي، فقد حاربها في جبهات عديدة، وخصوصا في بلاده مصر، فمن ذلك مناظرته الشهيرة برفقة يوسف القرضاوي ومحمد عمارة مع الكاتب المصري فرج فودة، ودعوته للمفكر محمد أركون إلى إعلان التوبة خلال ندوة عقدت في الجزائر، وقد دعا فيها أركون إلى اعتبار القرآن خطابا لغويا لا أكثر، وأنه ينبغي أن يخضع لمقاييس النقد اللغوي، وهو ما رأى فيه الغزالي كفرا صريحا وردة ماثلة.
تجول الشيخ الغزالي في مختلف مدن الجزائر داعيا ومفتيا ومرشدا وإماما للتراويح وخطيبا في المساجد، وقد واجه فيها عنفوان الصحوة الجزائرية الناشئة، وفورة الخطاب الذي وصف بالمتشدد لبعض قادتها، ورغم حب الجزائريين للشيخ الغزالي، فقد أغضبه ذات مرة أن خاطبه أحد طلابه بتشنج قائلا “أنت عميل للشاذلي”، فانفجر الشيخ غاضبا، وذكره بأنه لو كان باحثا عن حظوة أو مال لما غادر الخليج ولما رد عروض وهدايا قادته وملوكه.
مكتبة ضخمة من العناوين الفكرية والإيمانية والتربوية تركها الشيخ محمد الغزالي
ربانية الواعظ وخيال الأديب.. إرث علمي غزير
ترك الشيخ محمد الغزالي مكتبة متعددة العناوين، فقد كان سيال المداد دفاق القلم أخاذ الأسلوب، وكان يجمع في أسلوبه بين صرامة الباحث ودقة الفقيه، وبين ربانية الواعظ وخيال الأديب، ومن كتبه الشهيرة:
1. السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.
2. عقيدة المسلم.
3. فقه السيرة.
4. كيف نفهم الإسلام.
5. هموم داعية.
6. سر تأخر العرب والمسلمين.
7. دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين.
8. خلق المسلم.
9. تأملات في الدين والحياة.
10. ركائز الإيمان بين العقل والقلب.
11. الإسلام والأوضاع الاقتصادية.
12. الإسلام والاستبداد السياسي.
13. جدد حياتك.
14. الحق المر.
15. مشكلات في طريق الحياة الإسلامية.
16. الاستعمار أحقاد وأطماع.
17. مع الله.. دراسات في الدعوة والدعاة.
بين صحابيين من كبار صحابة رسول الله أحدهما فقيه والآخر محدّث دفن الغزالي في البقيع سنة 1996
كان من آخر كلمات الشيخ محمد الغزالي عبارته الشهيرة نريد أن ننشر في العالم “لا إله إلا الله”، عندما رد على أحد الذين اتهموه في دينه وفي حبه للسنة النبوية، وظل في رده اللاهب عليه حتى باغتته ذبحة صدرية نقل بعدها إلى المستشفى وتوفي هناك، ودفن في البقيع بالمدينة المنورة، حيث كان يتمنى ويدعو الله، ووسد الثرى بين قبري عالمين كبيرين من علماء المدينة المنورة، وهما نافع مولى الصحابي عبد الله بن عمر، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عن الجميع.
(المصدر: الجزيرة الوثائقية)