محاولة لفهم الحالة السلفية في مصر
بقلم محمد جلال القصاص
تمتد الحالة السلفية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لأنها رؤية للإسلام وليست جماعة وظيفية متخصصة منظمة أو غير منظمة؛ ولذا- كالإسلام- تغطي جميع مناحي الحياة، ولذا ترى بعضهم في أقصى اليمين يقاتل وبعضهم في أقصى اليسار يدعم المستبدين، وبين الطرفين يتواجد السلفيون. يتفق السلفيون على الهدف الكلي وعلى نقطة البدء. فجميعهم يستهدفون استعادة الحياة الإسلامية على ما كانت عليه في عهد الصحابة والتابعين، وكلهم يرى البداية من (فئة مؤمنة). ثم يتفرقون حسب ما يرونه مناسبًا من الأدوات، أو بالأحرى يأخذ كل واحدٍ ما يناسبه من أدوات فبعضهم يقاتل وبعضهم يتعلم ويعظ، وبعضهم منشغل بالعمل الاجتماعي الخدمي… وبعد ثورة يناير2011 أقبل عامة السلفيين إلى المشاركة السياسية بعد أن كانوا يحرمونها أو لا يرون جدواها ويسخرون منها. حتى المقاتلين منهم ألقوا السلاح- أو قللوا من العمليات- وبشكلٍ ما شاركوا أو انتظروا ثمرة المشاركة. ظن الصحويون أنهم يستطيعون الوصول لهدفهم عن طريق الديمقراطية؛ والسبب في هذا التصور السطحي هو عدم إدراك التحديات القابعة خلف الديمقراطية، وبُعدهم عن التحليل النفسي لنخبة المجتمع الثقافية والسلطوية وأصحاب الأموال ومدى تمكن الدنيا من قلوبهم وأفعالهم، مع أنهم يقرءون في كتاب ربنا أن كفرَ الملأ كفرُ عناد واستكبار.. حب للدنيا وحرص عليها (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(النمل: 14)، (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)(النحل:107)، والسبب عدم دراسة التجارب السابقة تلك التي انحرف فيها (الإخوة) بعد أن تمكنوا من السلطة والمال (الحركة الإسلامية في السودان نموذجًا، وانظر شهادة الدكتور حسن الترابي على العصر). كنت بين السلفيين. أرى وأسمع وشاركت. وكتبت رسالة الماجستير، وهي مطبوعة، أعالج بعض جوانب المشهد السلفي حال المشاركة السياسية (التوجهات والتحديات والمآلات)؛ وفي هذا المقال أحاول-بما يسمح به مقال- إلقاء الضوء على بعض الأمور التي كشفتها المشاركة السياسية وكيف أن الانقلاب العسكري أنقذ الحالة السلفية من التردي والانهيار… أولًا: غياب الوعي السياسي: من المسلمات شديدة الوضوح أن السياسة قواعد وممارسة. فقبل أن تشارك سياسيًا لابد أن تطلع على قواعد اللعبة السياسية وتناقشها، وخاصة إن كانت تتغير باستمرار، وخاصة إن كنت تتدعي طلب العلم وفقه الواقع. وبعد الثورة أمسك العسكر بقواعد اللعبة واندفع الإسلاميون جميعًا للمشاركة على قواعد غيرهم.. اندفعوا للمشاركة على قواعد يتم العبث بها وتغييرها، وقد ظهر هذا العبث مبكرًا ( إضافة مبادئ دستورية لم يتم الاستفتاء عليها بعد استفتاء مارس2011، قوانين الأحزاب، التهديد بتجميد مجلس النواب ثم تجميده..).والسؤال: لماذا لم يناقش الصحويون (وهم أهل علم وفقه) القواعد السياسية التي شاركوا على أساسها؟! ظنوا أن الحصول على أكثرية يكفي لفعل كل شيء، ظنوا أن أدوات الديمقراطية العلمانية (الملحدة) ستعمل معهم كما يريدون. ظنوا أن كل المطلوب لاستعادة الحياة على قواعد الإسلام هو الحصول على أغلبية في الانتخابات؛ ولذا طالبوا مجلس النواب (أداة التشريع العلماني) بتحكيم الشريعة؛ وطالبوا من فاز بالرئاسة بالتحكيم الكامل لشرع الله، مع أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- لم يطالب النجاشي، وكان مسلمًا تقيًا، بتطبيق الشريعة ولا بإرسال نصرة للمسلمين. حالة من الجهل المطبق بالسياسة والواقع، مع أنهم يتحدثون ليل نهار عن فقه الواقع؛ ويحتاج الأمر لإعادة النظر في رؤيتهم للواقع في ضوء التجربة السابقة، وأن يتخلوا عن حالة التعالم ودعوى فقه الواقع، ويدركون أن فقه واقعنا المعاصر يحتاج لأدوات معرفية ليست بأيديهم. ثانيًا: التشتت والتشرذم والبحث عن الذات: كان أول ما تحدث به السلفيون بعد ثورة يناير مباشرةً التوحد على مستوى الإسلاميين ككل، فكان أول ما اقترح هو: أن يبقى السلفيون خارج السياسة ويدعمون الإخوان، باعتبار أنهم متخصصون في السياسة، أو أعلم بها منهم. وما كادت الأيام تتحرك حتى استجاب السلفيون لمن دعاهم من داخل جهاز الدولة إلى المشاركة السياسية بجوار الإخوان منافسين لهم. وتحول الحديث من توحد الإسلاميين إلى توحد السلفيين في كيانٍ واحد، وتم تبادل الزيارة بين سلفية القاهرة (الشيخ محمد عبد المقصود) وسلفية الاسكندرية (اسماعيل المقدم وبرهامي) وظهرت أجواء حميمية، وتجمع السلفيون في حزب الفضيلة. وبدأ الوعاظ يعلنون دعمهم، وما كادوا يتحركون في مكانهم حتى اختلفوا، وسريعًا أعلنت سلفية الأسكندرية عن نفسها من خلال حزب (النور)، ثم ظهرت الجماعة الإسلامية بحزب، وجماعة الجهاد بحزب، وجماعة (الفضيلة) بثلاثة أحزاب (الأصالة، الفضيلة، الشعب)، ولاحقًا ظهر حزب الراية… وبعض الأفراد من ذوي المزاج العصبي جمعوا عددًا من التوكيلات ونصبوا أنفسهم رؤساء (وكلاء) ومؤسسين لأحزاب تحت التأسيس… ماذا يحدث؟ اعتاد السلفيون على تكوين مجموعات دعوية أشبه ما يكون بالتنظيم غير المنضبط، أو أنساق مغلقة صغيرة، تلك التي ظهرت في المساجد والبيوت قبل يناير 2011، واشتهرت بالتناحر والتنابذ وفي أحسن الأحوال التنافس على خلفية الأنا والإنغلاق وضيق الصدر بالمخالف، انتقلت هذه الأنساق المغلقة الصغيرة بدوافعها ومظاهرها ونخبتها إلى الساحة السياسية، فلم يروا إلا أنفسهم، وتناحروا فيما بينهم حتى اصطف بعضهم مع المخالف نكايةً في الأنساق المغلقة المجاورة له، تمامًا كما يحدث في ساحة الدعوة، والذي يتحمل وزر هذا الشطط هو أداة الفعل.. الجماعة.. النسق المغلق.. التحزب!! نعم انتقلت معارك المساجد للساحة السياسية. جاء شيخ المسجد بطلابه يظن أن السياسة هي الدعوة، جاء يبحث عن توقير وتبجيل وأتباع، جاء يتحدث فيما لا يفهم يظن أنه-على قلة علمه وفقهه- نبي مرسل أو إمام متبع، يستطيع أن يتحدث في كل شيء. وعمل الانغلاق والتعصب وإعجاب كل ذي رأي برأيه. .. فحزب النور انشق على نفسه، والفضيلة انشق على نفسه، والكتلة القادمة من العمل المسلح بعد المراجعات متفتتة وتتفتت، والمنفردون في كل موقف متفتتون بأنفسهم ويتفتتون.. ومن أعجب-وأطرف- ما يرصد هنا هو أنهم جميعًا يدعون للوحدة. فكلهم يريد الوحدة شرط أن تأتيه.. أن تركب معه.. أن توافقه!! ولم تتوقف حالة التشظي السريع هذه إلا بالانقلاب العسكري، فكأنه أنقذهم من أنفسهم!! ثالثًا: انعدام النخبة: أظهرت الأحداث أن الحالة السلفية لا تمتلك نخبة متخصصة تصلح لفهم المرحلة والتعاطي مع إكراهات الواقع وتحدياته، فضلًا عن نخبة تستطيع التعاطي عمليًا مع ما يحدث. فانعدمت النخبة على المستوى الأطر والاتجاهات (المستوى السياسي) والاستراتيجيات، وانعدمت في المستوى التكتيكي والتنفيذي، وظهر مَن أسميهم بـ (المبررون) الذين يفعلون الأسهل ثم يبررون بأنه ليس في الإمكان أكثر مما كان. أولئك الذين طال لسانهم وقصرت أيديهم. وعلى قصر المدة التي شارك فيها السلفيون في السياسة إلا أن الأحداث كشفت عن قابلية الحالة السلفية لإنتاج نخبة علمانية تتنازل عن مبادئها لأهداف شخصية أو حزبية ضيقة، فلغة الخطاب والمواقف تزحزت بعيدًا عن مكانها قبل المشاركة السياسية، وأقرب شهيد على هذا حزب النور بأطره النظرية وبعض أفراده والمنشقين عنه (حزب الوطن). وحتى النخبة الثورية في جيل الوسط، حين تدقق النظر في الأشخاص ومواقفهم وانتاجهم الفكري تجد أنهم لا يملكون جديدًا يغيرون به الواقع. فإذا قلنا أن تفاعلات الأشخاص كتفاعلات الأشياء، تظل على حالتها من السكون والحركة حتى تأتيها قوة من خارجها تغير من حالها. فتغيير الواقع يحتاج إمكانات معرفية ابتداءً ثم مادية أكبر من المتاح، والرفض أو المزايدة على من يعمل لا يُعَدُّ تطويرًا ولا يَعِدُ بتطويرٍ. وجيل الوسط يرفع شعارات الرفض ويمارس الهتاف، تمامًا كما كانت تفعل الحالة الإسلامية قبل أن تنزل لساحة الفعل. فكأن الانقلاب أعطاهم مساحة وشرعية. هل السلفيون كذبة؟! إطلاقًا. والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدًا من خلقه. الحالة السلفية نمط غريب.. شديد الغرابة. مفرداته صواب ولكن التركيبة الكلية خطأ وخطيئة في ذات الوقت، تمامًا كلعبة الأرقام (Puzzle) قبل ترتيبها. فالعقل السلفي.. والفرد السلفي يتحرك بين أضداد فكرية وعملية مع أن عامة المنتسبين للتيار السلفي من ذوي الإمكانات الشخصية العالية بمقايس عامة الناس، ويضحون بالفعل: بأوقاتهم وأموالهم وأنفسهم وهم الأكثرية في كل مواطن البأس حتى التي يتصدرها غيرهم!! والسبب غياب النموذج الفكري المتكامل المضطرد. وغياب من يفكر في صياغة نموذج فكري متماسك.. وسقوط النخبة في وحل النسق المغلق (التحزب). ونقطة البدء من طرح سؤال الفشل: لماذا فشلنا كسلفيين؟! وأرجو أن لا يمتلئ غيرهم فخرًا ويظن أنه قد نجح، فتعاطي السلفيين في هذا المقال من باب دراسة حالة تشير إلى غيرها من طرفٍ جلي. سأعود_ إن شاء الله مرة بعد مرة- فلم أقل شيئًا مما أريد قوله!!
(المصدر: طريق الإسلام)