محاكم التفتيش في العصر الرقمي .. الانتهاك الشامل
إعداد نبيل عودة
شكلت محاكم التفتيش التي نُصبت ضد المسلمين خصوصاً (وضد اليهود إلى حد ما) في إسبانيا واحدة من أبشر صور التطهير الديني والعرقي في التاريخ. فرضت السلطات الإسبانية رقابة صارمة على الشعائر الدينية، وأجبرت الناس على تغيير معتقداتها بالقوة باستخدام أكثر أساليب التعذيب وحشية المعروفة حتى ذلك الوقت. وقد جمعت عملية الإبادة الدينية تلك ما بين التفتيش وما يقتضيه من عمليات مراقبة وتقصٍ وتجسس، وبين المحاكمة بما تقتضيه من إجراءات التجريم، والشيطنة، والتبرير، وهو ما أدى بالأخير إلى إسباغ المشروعية على فعل الاعتداء والإقصاء والتهجير لملايين البشر.
وفي الوقت الذي انتهت فيه هذه المحاكم وأصبحت قابعة في قعر الذاكرة وكتب التاريخ والمتاحف، فإن جوهرها المتضمن لثنائية المراقبة والمحاكمة ما زال قائماً إلى الآن، ويُمارَس بأدوات العصر الأكثر تطوراً. فتكنولوجيا المعلومات، وما انبثق عنها من أدوات وبرامج رقمية، قد وضعت في يد السلطات منظومة متكاملة من آليات التجسس والمراقبة قادرة على رصد تفاصيل الناس كافة.
وقد أصبحت هذه المنظومات متوفرة على نطاق واسع لدى الحكومات، والشركات، والمؤسسات البحثية، بحيث تستخدم لأغراض مختلفة. وفي الوقت الذي ربما يكون لآليات المراقبة الشاملة هذه بعض الفوائد على الصعيد البحثي والعلمي من قبيل مكافحة الجوائح الوبائية، أو رصد الكوارث الطبيعية والمساهمة في تخفيف أضرارها، فإنها باتت تُستخدم من قبل العديد من الحكومات بطريقة غير منضبطة وغير منظَّمة، وهو الأمر الذي وضع حرية الناس وخصوصياتهم تحت تهديد أكيد وحتمي.
ويحاول كثير من الباحثين والمتخصصين توصيف المشهد دائماً بأن هناك نموذجين متقابلين من المراقبة الشاملة، هما النموذج الليبرالي الغربي (الأمريكي)، والنموذج الشمولي الشرقي (الصيني)، بحيث يُصوَّر الأول على أنه نموذج “الخير” والآخر هو نموذج “الشر”، على اعتبار أن المراقبة في النموذج الأول تخضع لضوابط من شأنها أن تحافظ على حرية المواطن وخصوصيته، في حين يخلو النموذج الثاني من أي ضوابط تُذكَر وهو ما يجعله نموذج الانتهاك الشامل.
ولا شك أن هذا التصوير ما هو إلا محاولة لذر الرماد في العيون، فقد أثبتت الوقائع من فضيحة سنودين عام 2013 إلى فضيحة كامبيرج أنلاتيكا عام 2016 بأن النموذج الليبرالي الغربي في المراقبة الشاملة ليس “خيراً” على الإطلاق، وهذا يقودنا إلى استنتاج مفاده أن سوق المراقبة ما هو إلا منافسة بين نموذجين أولهما شر والثاني أكثر منه شراً.
هذه المقدمة من الأهمية بمكان لتأكيد أن النموذج الأكثر شراً إنما يشكل رعباً حقيقياً لمستقبل البشرية مع ظاهرة المراقبة الشاملة التي تنزاح رويداً رويداً لأن تكون انتهاكاً شاملاً. وقد تقدمت الصين بكونها القوة الأكثر بروزاً، وصاحبة النموذج الأنجح حتى الآن في تطبيق هذا النموذج على مواطنيها بشكل عام، وعلى الأقليات القاطنة فيها على وجه الخصوص، وبالأخص منهم أقلية الأويغور.
النموذج الصيني في المراقبة الشاملة
وتكمن الخطورة في النموذج الصيني في المراقبة الشاملة في أمرين: أولهما أن هذا النموذج يتضمن مجموعة من القيم البنيوية الجاذبة والقابلة للمنافسة والتمدد والاستحواذ، وثانياً أنه نموذج قابل للتطبيق والتجريب، ونتائجه في مماسة الانتهاك الشامل قابلة للتحقيق.
تجادل السلطات الصينية بأن شعباً بهذه الكثافة السكانية لا يمكن السيطرة عليه إلا من خلال خلق ما يُسمَّىبمجتمع التحكم،عبر عملية متكاملة ومعقدة لهندسة الأنفس/الأرواح Soul Engineering لجعلها أكثر مطواعية، وقابلية لممارسة المراقبة الذاتية بحسٍ عالٍ.
وفي صلب هذه العملية المتكاملة والمعقدة تقع منظومة متطورة من الشبكات والمنصات والتطبيقات الإلكترونية القادرة على الرصد والمراقبة لأدق التفاصيل على مدار الساعة مثل كاميرات المراقبة CCTV، وأنظمة الذكاء الصناعي في تعرّف الوجه، والعملات الرقمية، ومنصات التواصل الاجتماعي، والشرطة السحابية، وأنظمة الائتمان الاجتماعي، التي أصبحت تشكل المعيار للمواطن المقبول أو المواطن الجيد، وهو التعريف المثالي للمواطن الخاضع الذي تستسيغه السلطات.
هذه التكاملية في بناء عملية المراقبة الشاملة تعززها الفاعلية المثيرة للأنظمة الصينية الإلكترونية وتمتعها بأسعار منافسة، الأمر الذي يجعلها أكثر جاذبية. فعلى سبيل المثال، استحوذت شبكة 5G من Huawei على اهتمام العديد من الحكومات الغربية المقرَّبة من الولايات المتحدة، وينافس نظام الملاحة الصيني Baidu نظيره الأمريكي الأكثر شهرة والمعروف بـGPS، في أكثر من 160 دولة حول العالم.
كما تشجع الصين الحكومات الصديقة لاعتماد منصتها الوطنية للنقل اللوجستي، وهو نظام لوجستي دولي مصمم لدمج المعلومات المتعلقة بالطرق البرية، والممرات البحرية، والمسارات الجوية للشحن، والتي تتحكم فيها وزارة النقل الصينية. كما تنتشر التطبيقات الصينية الرقمية بسرعة، فقد أصبحت TikTok عالمية بامتياز، وتحقق Alibaba تقدماً في جنوب شرق آسيا، وتم تضمين WeChat من Tencent في الحياة الرقمية للصينيين بالشتات الذين تُقدَّر أعدادهم بمئات الملايين. كما أن النموذج الصيني “للسيادة” على الإنترنت، أي أقلمة الإنترنت، والذي بموجبه تحدد الدولة وتتحكم في الإنترنت داخل حدودها، ألهم العديد من الحكومات حول العالم.
نموذج الانتهاك الشامل
تتضافر هذه القيم لنموذج المراقبة الشاملة الصينية المتضمنة للكفاءة والأسعار المنافسة مع قابلية التطبيق وفاعليته لتشكل أساساً لمنظومة الانتهاك الشامل للدكتاتوريات في العصر الرقمي. ويبرز المثال الأبرز في تطبيق هذا النموذج في الانتهاكات التي تمارس ضد أقلية الأويغور في إقليم شينجيانغ في غرب الصين (أو تركستان الشرقية).
يقوم نظام الانتهاك الشامل في إقليم شينجيانغ ضد الأويغور على تضافر عاملين هما: القدرات البشرية للصين، وقدراتها المالية والتقنية. وهو ما يجعل نظام المراقبة الشاملة هناك غير مسبوق في مدى شموليته وانتهاكه لأبسط حقوق الإنسان.
وتبدأ الطبيعة الاستثنائية لجهود المراقبة الصينية في شينجيانغ بالموارد الهائلة المخصَّصة لها، حيث يتم إرسال مليون موظف حكومي بانتظام للإقامة “ضيوفاً” في منازل المسلمين الأتراك في شينجيانغ، مع تعليمات صارمة للإبلاغ عن أي علامة على التدين أو التفكير غير المنضبط أو المثير للشكوك. كما جندت السلطات عشرات الآلاف من ضباط الشرطة الجدد في شينجيانغ، وأنشأت الآلاف من مراكز الشرطة الجديدة ونقاط التفتيش في جميع أنحاء المنطقة، وزادت ميزانية الأمن العام بشكل كبير.
كما تستخدم الصين، في سياق متصل، أحدث التقنيات لحصد وتحليل المعلومات التي يتم جمعها عن المسلمين هناك. فقد تم تجهيز بعض نقاط التفتيش في شينجيانغ بآلات خاصة تُسمَّى “أبواب البيانات” Data ،doors وهي حيلة تكنولوجية تسمح لعناصر الشرطة بجمع البيانات عن العابرين بهذه النقاط من خلال قرصنة هواتفهم الخلوية أو أجهزتهم الإلكترونية، وذلك من غير معرفة منهم على الإطلاق.
وربما الطريقة الصادمة بشكل أكبر هي سعي السلطات الصينية إلى تشييء الإنسان الأويغوري من خلال وضع “بار كود” على قطع معدنية وتعليقها على أبواب بيوتهم، بحيث تأتي الشرطة المزودة بأجهزة مسح ضوئي إلكترونية لقراءة البيانات عن أصحاب هذه البيوت، والتأكد إذا ما كان بداخلها أي شخص غير مرغوب في سلوكه.
كما يعتمد موظفو الحكومة على الذكاء الصناعي، من قبيل تقنية تعرّف الوجه، التي يتم ربطها بشبكة كاميرات مراقبة منتشرة في كل أرجاء البلاد، هذا فضلاً عن جمع السلطات للبيانات البيومترية من قبيل عينات الصوت ومسح قزحية العين والحمض النووي وتخزينها في قاعدة بيانات عملاقة، وهو ما يجعل الإفلات من قبضة المراقبة شيئاً يَصعُب تصوره على الإطلاق.
وتوجد قاعدة البيانات العملاقة هذه على منصة ابتدعتها السلطات الصينية تُسمَّىمنصة العمليات المشتركة المتكاملة IJOP، وهي منصة تهدف في الأساس إلى دمج وفرز وتصنيف وتحليل البيانات الهائلة التي يتم جمعها عن المواطنين الأويغور، ويستطيع أفراد الشرطة الوصول إليها من خلال تطبيق خاص على أجهزتهم اللوحية المحمولة.
ومن خلال البيانات على هذه المنصة، ووفق خوارزميات معينة، تقوم هذه المنصة بإخبار أفراد الشرطة إن كان الفرد الخاضع للتحقيق أو الاستجواب يشكل تهديداً محتملاً، أو يمثل سلوكاً غير مرغوب فيه، وإن كان يجب اعتقاله أو إخضاعه إلى دورات ضبط وتثقيف سياسي لضمان ولائه للحزب الحاكم.
ونظراً لحجم البيانات التي يتم جمعها، فإن نظام المراقبة لا يعتمد فقط على أسلوب تخزين البيانات بشكل مجرد بل يقوم بعمل تنميط الأشخاص وفق سلوكياتهم وتحركاتهم وأفعالهم. فعلى سبيل المثال، ربما تكون حيازة أي مسلم لنسخة غير مرخَّصة من القرآن الكريم دليلاً على ميول انفصالية لديه تحتم على السلطات اعتقاله. كما أن تردد أي فرد إلى المسجد قد يعتبر جريمة تستحق العقاب، في حين يعتبر استخدام أي شخص لتقنيات معينة مثل VPN، أو تويتر، أو فيسبوك، مؤشراً إلى ميول معارضة تستوجب التحرك المباشر من السلطات لمعاقبته.
إن هذا التوجه نحو تبني نظام المراقبة الشاملة وفق النموذج الصيني من شأنه أن يهدد الحريات العامة بشكل جوهري، وإذا لم يتم وضع التشريعات الضابطة لمثل هكذا أنظمة فنحن أمام سيادة الدكتاتورية الإلكترونية لأنظمة السلطة في القرن الحادي والعشرين.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)