بقلم د. عمر بن عبد الله المقبل
حين يُقَدّر لك أن تشارك في دورة علمية، يجتمع فيها مئاتٌ من طلاب التخصصات الشرعية، بل من خريجي تلك الأقسام، ومن أكثر من ثلاثين جنسية؛ فهذه غنيمة باردة، وإذا كان الكتابُ الذي جرت فيه المدارسةُ يدور حول العلم، وآدابِه، وسبلِ تحصيله، ومناهجِ العلماء فيه: حفظاً وكتابةً وتعليماً ورحلةً، وعن شيء من صفة مجالس العلماء في التحديث والفتيا؛ فهذا مما يزيد في وقْعِ الغنيمة.
وهكذا كان الحال في الدورة العلمية التي يسّرها الله تعالى أمس الأحد – الثالث والعشرين من شهر شبعان من هذا العام([1]) – في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تمّ التعليق على كتاب “العلم” لأبي خيثمة سليمان بن حرب النسائي (234هـ) ـ رحمه الله ـ في ستة مجالس ولله الحمد.
لقد بدا لي وأنا أعلّق على هذا الكتاب، وأرى في وجوه الحاضرين التي تنوّعت من أقطار الدنيا؛ أن أشير إلى إن من أكبر المشكلات التي تواجه طلابَ العلم اليوم ليس نقصَ المعلومات، أو القدرةَ على الوصول إليها، وإنما هي مشكلة غياب أدبِ العلم، ومعرفةِ منهج السلف في التعامل مع المخالف، ومنزلةِ المسائل التي يسوغ فيها الإنكار والتي لا يسوغ، ثم كيفية الإنكار، ولستُ بحاجةٍ إلى ذكر الأدلة على أهمية ذلك؛ فالواقع العلمي أكبر شاهد على هذا، ومواقع التواصل الاجتماعي كشفت عن أن المشكلة أعظم وأكبر!
والذي أعتقده أن من أعظم أسباب الخلل القائمة أمران:
الأول: أن كثيراً من الطلاب يبدأ بتعلّم العلم قبل تعلم أدَبِه، وقبل أن يُبنى في جانب التعبّد، بل الواقع يقول: إن الطالب ـ في الغالب ـ يُبنى علمياً قبل أن يبنى إيمانيًا وتربويًا، فيقع الخلل، وينشأ الطالبُ ـ بسبب طبيعة المواد التي تلقاها، وما فيها من كثرة سياق الأقوال؛ سواء في المسائل العقدية أم الفقهية ـ يبقى مستعداً للنقاش العلمي، وربما يتطور إلى “عراك” عند أدنى بحث!
الثاني: قلّة هذا النوع من الدروس في الدورات العلمية، التي تُعنى بالتربية العلمية لطالب العلم، ومعرفة طرائق السلف في العلم، والعمل، وأدب الطلب…الخ.
وبعض المنظّمين لهذه الدورات يعتذرون بضيق الوقت عن طرح أمثال هذه الدروس، أو لأنها يمكن للطالب أن يقرأها وحدَه، أو لغير ذلك من الأعذار، والتي لا أراها سائغة، بل أعتقد أن أمثال هذه الموضوعات من صلب التأسيس العلمي لطلاب العلم، ومن أعظم العواصم لقواصم الخلاف والفُرقة التي تشاهد بين المنتسبين للعلم، وللأسف الشديد.
ومما أعجبني في مذهب أهل الكوفة في تحديدهم للسنّ الأفضل للطلب والرحلة في سماع الحديث أنهم: “لم يكن الواحد منهم يسمع الحديثَ إلا بعد استكماله عشرين سنة, ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبّد”([2])، فانظر كيف نصّوا على مسألةِ التعبد؛ لما لها من أثر على تهذيب أخلاق وسلوك الطالب.
لقد كان من أعظم الدروس التي أشار إليها الكتاب “كتاب العلم” لأبي خيثمة: أن السلفية ليست منهجاً لواحدٍ من العلماء بعينه، بل هي منهجٌ يتشكل من مجموعِ أقوالهم وأفعالهم، وهذا فيه من الرحمة واليُسر والتوسعة على الناس ما لا يخفى، لا في مسائل العلم، ولا في الآداب والأخلاق والسلوك.
وإن من الظلم والإجحاف: الانتسابُ إلى السلف في بابٍ وترك عدة أبواب! فهذا انتساب جزئي، يجني على السلفية أكثرَ مما ينفعها، وإذا كنا نعتبر ونعتقد أن طريق السلف بمجموع منهجه يمثّل الإسلام النقيّ الصافي؛ فعلينا أن نأخذها جميعاً، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين﴾ [البقرة: 208].
([1]) 1437هـ.
([2]) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 54)، وليس القصد هنا ترجيح وقتِ السن الذي يبدأ فيه الطالب، بل القصد هو: اللفتة إلى عنايتهم بالتعبّد.
*المصدر : موقع الشيخ د. عمر المقبل