مثار جدل
بقلم د. الخضر سالم بن حُليس (خاص بالمنتدى)
تتبعت كتابات حداثة اليوم والمرددين لأفكارها عبر منصاتها البارزة، (دار الساقي)، (مكتبة هنداوي)، (مؤمنون بلا حدود) وغيرها من لافتاتهم الكبيرة، فوجدت ضخا مدعوما لكنه بائد، وطرحا سطحيا غير متماسك، وابتعادا عن الفهم مسافات.
أرصدُ منذ فترة جهودا حثيثة مكثفة لبعث أفكار (السُّهْرَوَرْدي) و(إخوان الصفا)، و(الحلاج)، و(الراوندي) وزملائهم فكريًا وإعادة تأطيرهم بنموذجية وتقديمهم قامات فكرية حضارية مناسبة لجيل اليوم بينما صناع الحضارة الإسلامية الأصليون يتم تجاهلهم، بل واستهداف رصيدهم العلمي التراكمي المتين كالشافعي، والبخاري، والغزالي، والرازي، والبيضاوي، والشاطبي، وابن عاشور ونظرائهم .
ثم رأيتهم يستثمرون في الأطروحات الطرابيشية وآراء محمد شحرور على نوافذ الاتصال الاجتماعي باعتبارهم تنويريين يقدمون طرحا عصريا يرتقي بالمجتمع ويجدد له أمر دينه وما هو إلا تذويبا له وإبادة، ومحاولة قراءة التراث قراءة عصفية تحفر في الشكوك والشبهات وتعتبرها(مثار جدل).
اليوم يعيد بعض الشباب الزاهي تحت مرايا الفكر وحرية التفكير اجترار أفكار شحرور وطرابيشي واركون وأبي زيد وأمثالهم، ويزهون بها افتخارا من تلقاء أنفسهم، وهالني أني سمعت أحدهم يلوك مصطلحات طرابيشي ثم ينسبها لنفسه، وآخر يتحدث عن مثول الخرافة في عدد من المسائل العلمية التي شهدها تبادل الرأي الاجتهادي، وهو عاجز عن تحرير قاعدة أصولية أو شرح مفرداتها، وثالث لايجيد قراءة آية قرآنية بطريقة أدائية صحيحة ثم يقول (أنا أرى) و(الذي يبدو لي من الآية)، ويتردى في مجاهيل المعاني والبيان مستخرجا من النص أفهاما وغرائب.
أبرز عناوين طرح الساعة:
1) نقد التراث دون علمية أو أدوات تأصيلية ومحاكمة الاجتهادات العلمية التي ولدت في عصروها بغير منهجية ولا مهنية، وازدراء قائليها.
2) نقد متون السنة النبوية دون آليات نقد السند والمتن الحديثي بأدواته المتقنة عبر القرون، والتهكم على النص النبوي بأساليب مبتذلة غير معهودة إلا على ألسنة أخرى.
3)إعادة نشر الخلافيات الفقهية دون تحرير علمي تحت بند إزالة ترسبات القناعات التي اعتبرتها مسلمات، وهي ردة فعل متهورة لصنائع الجامية التي نقلت بعض الظنيات إلى مناطق القطعيات.
وتحت ظلال هذه الثلاثية تفيض أحاديثهم وتتمحور آراؤهم نطقا وكتابة، خالية من الأدوات العلمية في النقد والتأصيل، بل وتتصدر خالية من الذوق القيمي والأدب العلمي في تناول القامات المعرفية ومدوناتها العلمية.
ولع شديد في نبش الأقوال الشاذة والتحليلات العجيبة واستدعاء حكايات الزنادقة عبر التاريخ وأقوالهم وشبهات المستشرقين القدامى على الإسلام لإعادة نثرها على ضفاف الإعلام الرقمي الجديد، وتنصيب دعاة غير مختصين مهمتهم الأساسية إلقاء تلك الشبهات في قوارع الطرقات الإلكترونية وزرعها في الواقع الافتراضي على الشبكة العالمية دون فهم دقيق لمقاصيد العلوم ومصطلحاتها ومبادئها.
ليست المسألة -كما يزعمون- إيقافا لحركة النقد والتطوير؛ فقد قدم العلامة محمد الطاهر بن عاشور (ت:1393) في منتصف القرن الرابع عشر الهجري نقودا علمية باهرة لكثير من آراء نحارير درس التفسير وأعمدته العلمية كالطبري، والزمخشري، وابن عطية، والرازي، ونقض كثيرا من أفكار مكتبة التفسير، ونخل الدخيل في مضامينه، ووقف أمام آرائهم التفسيرية بكل مهنية واقتدار حاملا نفس أدواتهم الاجتهادية وموارد اجتهادهم العلمي فأدانهم بأدواتهم وبيّن خطل بعض استنتاجاتهم، فتلقت المحاضن العلمية ومجالس البحث العلمي آراءه بالترحيب وعكفت على نحت اجتهاداته وتقليبها في أكثر من 150 أطروحة علمية وقفتُ عليها شخصيا ولايزال العدد في مزيد. مايُعبر عن مسلكيته المنهجية التي تمارس نقد التراث العلمي بمهنية عالية وأدوات وموارد متينة، دون شموخ سرابي لايملك من العلم إلا الفراغ.
بحمد الله لاتزال الجهود العلمية التأصيلية مُشرعة والاجتهاد مفتوحا -فروعا وأصولا- إذا أُوتي من بابه الصحيح، وطاولة التطوير مستديرة مستعدة للبناء والتراكمية على جهود الأمة الولود ونقد وتطرير أفكارها الابتكارية وقراءاتها العلمية المتينة للنص الإسلامي بشقية كتابا وسنة. ومن لم يأتِ العلم من بابه فستبقى الأمة الإسلامية نفوسها مسدودة دون ذلك العبث العلمي الذي مارسته المعتزلة قديما وأضرابها من الفرق فاندثرت على طاولة البحث والتحقيق ومضت الأمة تكمل تراكمية معارفها بمهنية عالية وتجدد أفكارها وتطورها بنفس علمي فريد.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ﴾. [الرعد: ١٧].