مقالات

متى تكون السياسة “شرعية” ؟

بقلم د. أكرم كساب

لم يكن وصف السياسة بـ (الشرعية) معروفا لدى الفقهاء والعلماء، إذ السياسة لديهم كانت تعني تحقيق المصلحة للرعية دون مخالفة للشرع. وقد ذكرنا أن الوزير طاهر بن الحسين بن رزيق الخزاعي (ت 207هـ) هو صاحب السبق في ذلك، ولما كان الأصل أن تكون السياسة محققة لمصلحة الخلق دون مخالفة للخالق؛ اكتفى العلماء بمسمى السياسة دون وصفها بالشرعية، لكن لما طغى الملوك والحكام وأفسدوا، وأنزلوا بالناس ظلما وقهرا، وحاولوا إجبار الناس على السمع لهم والطاعة في كل شيء، معتبرين ما يقومون به حتى وإن كان مخالفا للشرع فإنه من باب السياسة التي تباح للحاكم؛ اقتضى الأمر أن يصف العلماء ما كان من السياسة والساسة غير مخالف للشرع سياسة شرعية، وما كان غير ذلك فهو سياسة ظالمة جائرة، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية فقال: فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة: احتاجوا حينئذٍ إلى وضع ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات؟ والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك. مجموع الفتاوى/ (20/ 392).

وهذا يعني أن أمرين وراء ظهور هذا الوصف (السياسة الشرعية):

1. وجود حكام ظلمة يحكمون بالهوى، فيصدرون من الحكام ما يخالف الشرع.
2. وجود علماء سلطة، يبررون للحاكم ما يفعل، حتى وإن خالف الشرع، وأوقع بالناس ظلما وقهرا.

لذا اضطر العلماء إلى وصف ما وافق الشريعة من السياسة بأنها شرعية، وما خالفها وصف بالسياسة الظالمة أو ما شبه ذلك. وقد ذكر العلماء لاعتبار السياسة الشرعية فيما لا نص فيه شروطا تضبط هذا الأمر، حتى لا يكون كلأ مباحا يعبث فيه ولاة الأمر (حكاما أو علماء)، وقد لخص القرضاوي ذلك في شرعية:

1. التوجهات.
2. المنطلقات.
3. الغايات.

وأما الشروط بالتفصيل فقد أشار إليها عبد الرحمن تاج في كتابه (السياسة الشرعية) وأفصلها فيما يلي:

1. أن تتفق هذه السياسة مع روح الشريعة ومقاصدها، تلك المقاصد التي تحقق للإنسان مصلحة حفظ الدين أو النفس أو العقل أو المال أو النسل، أو العرض، ومن ذلك:

أ‌- القواعد المرورية التي تحفظ للناس سلامتهم.
ب‌- تأديب المتسكعين عل النواصي والطرقات، ومثله المتحرشين بالنساء.
ت‌- إغلاق النوادي والجمعيات التي تجمع الشواذ أو تدعو إلى شذوذ.
ث‌- فرض التطعيمات التي تقي من الأمراض الخطيرة؛ كشلل الأطفال والحصبة وغيرها.
ج‌- تغليظ العقوبة للمستهزئ بالشرع كما صنع علي رضي الله عنه مع من أفطر في رمضان.

2. أن تتفق مع قواعد الشريعة الكلية ومبادئها الأساس، وهي تلك القواعد المحكمة التي لا تقبل التغيير ولا التبديل ولا تتغير بتغير الزمان ولا المكان.

3. ألا تناقض مناقضة حقيقية دليلا من الأدلة التفصيلية، تلك التي تثبت للناس شريعة عامة في جميع الحوال والأزمان، سواء كان:
أ‌. في المسألة دليل تفصيلي خاص؛ كما فعل الفاروق في سهم المؤلفة قلوبهم، فمع وجود النص إلا أن فعل عمر لم يخالفه مخالفة حقيقية، لأن شروط تحقيق هذه السهم غير متوفرة، ومن ثم لم يعمله عمر.
ب‌. ليس في المسألة دليل تفصيلي خاص؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه في جمع القرآن.

4. أن تتسم هذه السياسة بالوسطية والاعتدال مبتعدة عن الإفراط أو التفريط؛ وذلك أن الشريعة كلها مبنية على التوسط والاعتدال، فما لحق بأحكامها مستنبطا من أدلتها المعتبرة باجتهاد أو استسحسان لتحقيق مصلحة لا بد وأن يكون بعيدا عن الإفراط والتفريط، ومن السياسة المرفوضة لبعدها عن الوسطية:

أ‌. السياسة المرفوضة بسبب التفريط: ومن ذلك:

– ومن ذلك ما رفضه عمر وأجمع الصحابة عليه من منع سهم المؤلفة بعد أن أعز الله الإسلام، جاء عَن ابنِ سِيِرينَ، عَنْ عَبِيدَةَ قالَ: جَاءَ عُيَيْنَةُ بنُ حُصنٍ، والأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ إلى أَبي بَكْرٍ الصدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ فقالَا: يا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، إنَّ عِنْدَنا أَرْضٌ سَبِخَةٌ لَيْسَ فِيها كَلأٌ ولا مَنْفَعَةٌ، فإنْ رأيتَ أنْ تُقْطِعَنَا، فأَقْطَعَها إَيَّاهُمَا، وكَتَبَ لَهُمَا فِيهَا كِتَابًا قالَ: أَشْهِدَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ولَيْسَ في القَوْمِ، فَانْطَلَقا إلى عُمَرَ لِيُشْهِدَاهُ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ مَا في الكِتَابِ تَنَاوَلَهُ مِنْ أَيْدِيهِمَا، ثُمَّ تَفَلَ فيهِ فَمَحَاهُ، فَتَذَمَّرَا وقالَا مَقَالَةً سَيِّئَةً، فقالَ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَأَلَّفْكُمَا والإسْلَامُ يَوْمِئذٍ ذَلِيلٌ، وإنَّ الله عزَّ وجَلَّ قَدْ أَعَزَّ الإسْلَامَ، اذْهَبَا فَاجْهِدَا جَهْدَكُمَا لَا أَرْعَى اللهُ عَلَيْكُما إنْ أَرْعَيْتُمَا…. الإصابة في تمييز الصحابة/ ابن حجر (4/ 640).

فموقف صديق الأمة رضي الله عنه لم يكن موقفا وسطا، وإنما وقف رضي الله عنه مع النص ولم يعمل روحه، ولما ردّه عمر إلى فقه النص وروح النص استجاب له، ولذلك لما رجع عيينة ومن معه إلى الصديق وقالا له: ما ندري واللَّه، أنت الخليفة أو عمر؟ فقال: بل هو لو كان شاء، فجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبي بكر، فقال: أخبرني عن هذا الّذي أقطعتهما، أرض هي لك خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي، فأشاروا عليّ بذلك، وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني فغلبتني. الإصابة في تمييز الصحابة/ ابن حجر (4/ 641).
وإذا كانت سياسة الصديق رضي الله عنه لم يوافقه عليها عمر رضي الله عنه، لأنه رأى فيها تفريطا في مال الأمة، وقد رضي الصديق بصنيعه.

وفي عصرنا الحاضر أمثلة ترفضها السياسة الشرعية، لأنها وإن كان فيها مصلحة من وجه ما إلا أنها تقع في دائرة التفريط، ومن ذلك:

– ترك رجال الأعمال الفسدة من بني جلدتنا وغيرهم يفسدون بأموالهم في البلاد من خلال وسائل الإعلام التي يتملكوها، تحت ذريعة أنهم يفيدون الدولة باسثماراتهم.
– ترك الخمور في الفنادق تحت مسمى حصول الفنادق على ما يعرف بـ (الخمس نجوم). وهذا فيه تفريط.
– ترك الشواطئ العارية وشبه العارية تحت مسمى تنشيط السياحة أو جلب الاستثمارات. وهذا فيه تفريط.

ب‌. السياسة المرفوضة بسبب الإفراط:

– ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنَ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ” رواه البخاري في المغازي (4340) ومسلم في الإمارة (1840)، والذي كان من الصحابي الأمير إفراط في استخدام حقه، ولهذا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم على صنيعه.

– ومن ذلك أيضا: من كان من فتى الإسلام الأول، وأمير المؤمنين الرابع علي رضي الله عنه؛ حين حرّق من جعلوها إلها، روى البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رواه البخاري في استتابة المرتدين (6922)، وفي المسند زيادة: فَبَلَغَ عَلِيًّا مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ. رواه أحمد (2552) عن ابن عباس، وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط البخاري.
وما أنكره ابن عباس أنكره من قبله عمر بن الخطاب، وأنكره من بعده عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس. شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 172).

وابن حجر في الفتح يجوّز أن يكون مقصود علي رضي الله عنه من قوله: (وَيْحَ ابْنِ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ) أمورا:
‌أ- يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم.
‌ب- ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة. فتح الباري لابن حجر (12/ 271).

وعليه فيكون كلام علي رضي الله عنه (رضا بما قال – ابن عباس- وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية وكأنه أخذه من قول الخليل هي في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي ويحه ما أحسنه حكاه الأزهري وقوله من هو عام تخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه كما سيأتي في كتاب الإكراه. فتح الباري لابن حجر (12/ 271).

وفي عصرنا الحاضر نماذج وأمثلة خرجت عن السياسة الشرعية لأن الساسة وقعوا في منحدر الإفراط، ومن ذلك:

– ما يقوم به الكثير من الحكام الديكتاتوريين الذي يأخذون البريء بالمذنب، بل يحبسون الأب رغم كبر سنه، والأم على رقة حالها، وقد فاقوا الحجاج في جرمه. وهذا فيه إفراط.

– غلق الطرق بالساعات الطوال من أجل مرور مسؤول أرعن، ربما مرّ وربما لم يمر، مما يعطل مصالح الناس. وهذا فيه إفراط.
– تزيين الطرق والشوارع التي يسكنها كبار القوم وعلية الناس على حساب مصالح كثيرة معطلة للفقراء. وهذا فيه إفراط.
– تقريب غير المسلمين من دوائر صنع القرار في وجود الأكفأ والأجدر من المسلمين. وهذا فيه إفراط.
– تذليل الصعاب لنفر من المقربين من دائرة صنع القرار (من الفنانين والفنانات، واللاعبين واللاعبات) للعلاج في الخارج، وغيرهم من عموم الشعب يئن جوعا ومرضا.

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسملين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى