ما وراء إلغاء الحكم الذاتي لكشمير!
إعداد حسن الرشيدي
في تطوُّرٍ فاجأ الكثيـرين أقدمت الحكومة الهندية فيه على إلغاء وضع الحكم الذاتي لكشمير في الدستور الهندي بمرسوم رئاسي، وأعلن وزير الداخلية الهندي في البرلمان أن إلغاء المادة (370) من دستور الهند هو أكبر تعديل للوضع الهش في كشمير منذ سبعين عاماً، على حدِّ قوله.
وكانت قد منحت تلك المادة من الدستور الهندي ولاية (جامو وكشمير) وضعاً خاصّاً مكَّنها من سنِّ تشريعاتها وأعطاها عَلَماً خاصّاً واستقلالية في كل شؤون الإدارة، عدا شؤون الخارجية والدفاع والاتصالات.
ولكنَّ الأخطر من ذلك هي النتائج المترتبة على تلك الخطوة، والتي تتمثل في إلغاء الحظر الذي يمنع أناساً من خارج الولاية من شراء ممتلكات هناك وعدم حصر الوظائف الحكومية وفرص الدراسة الجامعية بسكان الولاية؛ وهي الخطوة التي تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية في المناطق ذات الغالبية المسلمة من الولاية لتوطين العديد من الهندوس؛ وهو ما يعني أنه بالتدريج سوف يتم إدماج كشمير قسريّاً في الهند بعد أن ظلت طوال سبعين عاماً في وضع متأرجح ومتردِّد تخشى فيه الهند من الإقدام على تلك الخطوة الحاسمة في الضم النهائي لهذا الإقليم.
ولذلك كان السؤال الأهم الذي يراود البعض في هذا السياق: لماذا أقدمت الهند على تلك الخطوة في هذا التوقيت تحديداً؟
ولكي نعرف الإجابة عن هذا السؤال، يجب معرفة ما تمثله كشمير إستراتيجيّاً بالنسبة لباكستان والهند.
كشمير تاريخاً وجغرافيا:
تقع كشمير شمال غرب شبه القارة الهندية التي تحدُّها البنجاب الهندية من الجنوب، ومن الغرب باكستان، ومن الشمال الغربي أفغانستان، ومن الشرق الصين، تبلغ مساحتها 242.000 كم، وعدد سكانها 15 مليون نسمة حسب تقديرات عام 2000م، وتبلغ نسبة المسلمين فيها حوالي 90%، والهندوس 8%، والسيخ 1%.
تمثل كشمير بؤرة مهمة للصراع في جنوب آسيا، تلك المشكلة التي صنعتها الهند؛ فقد نص قانون استقلال الهند على أن الإمارات داخل الدولة الهندية حرة في أن تنضم إلى أي من الهند أو باكستان، أو أن تبقى مستقلة مع الأخذ في الاعتبار بعض العوامل مثل الوضع الجغرافي ورغبات الشعب. ولكن الهند تجاهلت هذا المبدأ عند الاستقلال وخصوصاً في ما يتعلق بكشمير، وكانت غالبية السكان مسلمة وكان حاكمها من طائفة السيخ. وحين تردد مهراجا كشمير في إعلان انضمام الإمارة إلى باكستان تمرد المسلمون الكشميريون الذين كانوا يمثلون الغالبية الساحقة من السكان وقام جنود الحاكم بارتكاب المذابح في سبتمبر 1947م، ويقال إنه قتل في هذه الاضطرابات ما لا يقل عن مائة ألف مسلم وجرت هذه المجازر لإجهاض انتفاضة مسلمي كشمير ضد الحاكم، وتطور الأمر فغزت القبائل البشتونية بمساعدة من الجيش الباكستاني كشمير ونجحت في تحرير ثلث الولاية، ولكن الهند نجحت في احتلال باقي كشمير مع احتفاظها بالحكم الذاتي ونجحت الصين في استقطاع مساحة صغيرة منها.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي اختلف نمط النزاع؛ إذ نشأت جبهة تحرير جامو وكشمير وهذه الجبهة تتكون من الكشميريين أنفسهم وهي تطالب بالاستقلال، ولقد ألقت بظلالها على مسرح الأحداث لتضيف اعتباراً وبُعداً جديداً للقضية؛ فقد بدأت العمليات المسلحة بالظهور داخل الإقليم وأسفرت عن مقتل ما يقرب من ثلاثين ألفاً في عام 1989م وحتى وقف إطلاق النار في نوفمبر 2000م.
كشمير بين الإستراتيجية الباكستانية والإستراتيجية الهندية:
تمثل كمشير أحد المرتكزات الثلاثة للأمن القومي الباكستاني وهي: كشمير وأفغانستان والنووي.
ظلت قضية كشمير هي القضية الجوهرية والمركزية لصانع القرار الباكستاني لا يمكن أن يتجاوزها بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف كان؛ فكشمير تتعلق بمظلومية تتخلل الوجدان والضمير الجمعي الباكستاني منذ نشأة الدولة وحتى هذه اللحظة. كما ترتبط هذه القضية بالإحساس الباكستاني – وهو حقيقي إلى حدٍّ كبير – بأن الهند تريد ابتلاعها وإعادتها إلى السيطرة الهندوسية.
أما الهند فقد ظلت على مدار عقود تبقي مشكلة كشمير بينها وبين باكستان لتكون ورقة ضغط عليها لتبقى باكستان في إطارٍ وحجمٍ معيَّنين تحت الهيمنة الهندية. وانتهجت الهند سياسة مزدوجة تجاه هذه القضية؛ فعلى الصعيد الرسمي ظلت تعدُّ ولاية (جامو وكشمير) جزءاً من الهند منذ عام 1947م بينما استمرت في الوقت نفسه في إجراء المحادثات مع باكستان حول هذه القضية كلما شعرت بضغوط تمارَس عليها.
ولكن إستراتيجيّاً كان الوضع معقداً وخطيراً بالنسبة للدولة الباكستانية؛ فهناك ثلاثة أنهار تنبع من كشمير تتحكم فيها الهند تمد باكستان بثلاثة أرباع احتياجها المائي، وفي شهر فبراير الماضي 2019م لوَّح وزير الموارد المائية الهندي باستخدام ورقة المياه التي تملكها الهند للضغط على باكستان، كما يحرص رئيس الوزراء الهندي (نارندرا مودي) منذ وصوله إلى السلطة عام 2014م على التلويح باستخدام هذه الورقة لأنه يرى فيها سلاح ردع من شأنه تذكير باكستان بأن الهند قادرة على الإخلال بالأمن القومي الباكستاني.
تنوعت إستراتيجية باكستان إزاء كشمير عبر المؤسسات الثلاث الكبرى التي تدير باكستان، وهي: الحكومة المركزية، والجيش، والمخابرات: فالحكومة المركزية عمدت إلى التحالف مع الغرب وبعض الدول الإقليمية لتستقوي بها على الهند، بينما خاض الجيش الباكستاني حربين من بين ثلاثة حروب ضد الهند من أجل كشمير، بينما اشتغل جهاز المخابرات الباكستاني ذو النفوذ الواسع على تجميع الشباب من أنحاء العالم الإسلامي أشبه بما حدث في أفغانستان مع الغزو السوفييتي سابقاً لأراضيه، ولكن بالطبع كانت النتيجة أقل بكثير مما كانت في الثمانينات من القرن الماضي؛ إذ سهلت حكومات شرق أوسطية ذلك الحشد بدعم أمريكي إبَّان الحقبة الأفغانية.
ونشرت النيويورك تايمز تقريراً ادَّعت فيه أن ضباطاً في جهاز المخابرات الباكستانية قاموا بممارسة دور في تدريب حركة (جيش محمد)، وذكرت الصحيفة للمرة الأولى اسم أحد هؤلاء الضباط وهو (العميد عبد الله) الذي وصفته الصحيفة بارتباطه النشيط بالجماعات الإرهابية؛ وذلك نقلاً عن تقرير من الجيش ومسؤولي المخابرات الباكستانيين.
وخلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي كانت ست منظمات إسلامية رئيسية على الأقل وعدد من المنظمات الأصغر تعمل في كشمير؛ مثل حزب المجاهدين، وحركة الأنصار التي تشير تقارير إلى أنها تضم عدداً كبيراً من غير الكشميريين، وذلك إضافة إلى جماعات العمر، والبرق، وجيش محمد، وعسكر طيبة التي تتشكل إلى حد كبير من مقاتلين من أفغانستان وباكستان، وقد تدرب كثير من هؤلاء الإسلاميين في أفغانستان.
ويشير تقرير نوقش في الكونجرس الأمريكي أعدَّته وكالة الإف بي آي الأمريكية إلى أن المخابرات الباكستانية في عام 1992م أنفقت ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار – وهو ما يعادل خمس الميزانية الدفاعية الباكستانية – لدعم الإرهاب في كشمير حسب وصف التقرير. ووَفْقاً لهذا التقرير فإن عدد من يتم تدريبهم من الشباب يصل إلى عشرين ألفاً. وكان نتيجة ذلك ما حدث عام 1999م حين قامت جماعة كشميرية مجاهدة بدعم من الجيش الباكستاني باحتلال مرتفعات كارجيل في كشمير الهندية، ولكنها عجزت عن الاحتفاظ بها أمام الضغط العسكري الهندي وكادت تتحول هذه الحرب القصيرة إلى حرب نووية بين البلدين لولا الوساطات الدولية.
لقد قامت إستراتيجية المخابرات الباكستانية في كشمير على أساس استنزاف الهند التي تفوق باكستان عدداً وعدة بسلسلة من الحروب السرية عن طريق جماعات المقاومة الكشميرية الإسلامية منها أو الوطنية. ولكن بعد ذلك بدأت جماعات المقاومة الكشميرية تخرج عن السيطرة لذلك بدأ الموقف منها ينقلب. يقول (شوجا نواز) مؤلف كتاب (السيوف المتقاطعة: باكستان وجيشها والحرب الداخلية): إن الاستخبارات العسكرية الباكستانية فقدت سيطرتها على المجموعات المسلحة في كشمير. وطبقاً لنواز فإن بعضاً من المجموعات التي دربتها الاستخبارات الباكستانية لإشعال المقاومة في كشمير تورطت في تفجيرات وهجمات داخل باكستان ولذلك تحولوا إلى أهداف للجيش الباكستاني.
وإزاء العجز الباكستاني عن تحريك الأمور في كشمير لاحت للجانب الباكستاني فرصة عندما قامت حركة طالبان في أفغانستان، هنا بدا للمخابرات الباكستانية محاولة جعل أفغانستان حديقة خلفية لباكستان في صراعها مع الهند على كشمير… واجتاحت طالبان أفغانستان بدعم باكستاني عسكري استخباراتي كبير وكان على رأس عملاء جهاز المخابرات الباكستانية في هذا الأمر من اشتهر بلقبه الحركي (العميد إمام)واسمه الحقيقي (أمير سلطان طرار) وعيِّن قنصلاً عامّاً لباكستان في قندهار ثم في هرات، وإمام هذا كان له دور تاريخي في مساعدة المجاهدين ضد الروس في السابق، وبعد ذلك قاد عملاء المخابرات الباكستانية لدعم طالبان وأمدَّهم بالسلاح اللازم لبسط سيطرتهم على جميع أنحاء أفغانستان، ووَفْقَ بعض المصادر الغربية فقد كان إمام ملتحياً ويتقلد العمامة الأفغانية.
واتخذت الجماعات الجهادية التي تعمل في كشمير من أفغانستان ملاذاً لها بديلاً من باكستان حتى لا تحرج الحكومة الباكستانية ولا تجعلها تحت نيران الضغوط الدولية… وهذا ما شجع الجيش الباكستاني على القيام بهجوم كارجيل عام 1999م.
ولكن سرعان ما تغير الوضع الإستراتيجي لباكستان إلى الأسوأ وخاصة بالنسبة للمسألة الكشميرية في أعقاب هجمات سبتمبر عام 2001م؛ إذ حاصرت الولايات المتحدة أفغانستان وطردت طالبان من الحكم بعد أن اتهمتها بدعم تنظيم القاعدة المتهم بتلك الهجمات، وفي الوقت نفسه ضغطت على باكستان لوقف دعمها لطالبان، ومرة أخرى وجدت باكستان نفسها في مأزق إستراتيجي أمام الهند؛ وخاصة في ما يتعلق بكشمير وهي تتخلى عن حديقتها الخلفية في أفغانستان.
راهنت باكستان على عودة طالبان مرة أخرى واتبعت سياسة النَّفَس الطويل مع الولايات المتحدة؛ ففي يوم 17 سبتمبر 2001م وقبل الضربة الأمريكية على أفغانستان أرسلت باكستان بضغط أمريكي رئيس مخابراتها الجنرال (محمود أحمد) للقاء الملا عمر في قندهار لإقناعه بتسليم ابن لادن، وأصر الجنرال على أن يدخل للمقابلة مع الملا عمر وحيداً وبعد الاجتماع قالت الصحافة الغربية إن محمود طلب من الملا عمر الثبات على موقفه وعدم الخضوع للضغط الأمريكي، الأمر الذي أدى إلى إقالته بعد ذلك بناء على نصيحة أمريكية.
ولكنَّ أخطر ما في هذه العلاقة هو ما جرى في عام 2010م عندما اعتقلت القوات الباكستانية ما يقرب من نصف قيادة حركة طالبان في أفغانستان وهم ما يسمى بـ (مجلس شورى كويتا) بمن في ذلك القائد العسكري لحركة طالبان أفغانستان (الملا عبد الغني برادار)، وقد فسرت صحيفة نيويورك تايمز هذا الاعتقال حينها بأنه من أجل إفشال محادثات سرية أجرتها الحركة مع كابول ونقلت عن مسؤول أمني باكستاني قوله: نحمي طالبان التابعين لنا ولن نتركهم يبرمون اتفاقاً مع الرئيس الأفغاني (حميد كارزاي) والهنود. وتمضي الصحيفة لتدلل على كلامها فتقول: إن أجهزة الأمن الباكستانية قد أطلقت معظم القادة الـ 22 الذين اعتقلتهم بعد أسابيع من توقيف الملا برادار الذي يعيش – بحسب نيويورك تايمز – في منزل مريح وفَّرته أجهزة الاستخبارات الباكستانية.
وبمجيء (دونالد ترامب) على رأس الإدارة الأمريكية فقد جعل همَّه الأول الخروج من المستنقع الأفغاني وكان الرئيس السابق (أوباما) قد بدأ فعليّاً خطةً للانسحاب التدريجي حتى وصل حجم القوات الأمريكية إلى أربعةَ عشرَ ألفاً بعد أن كانوا مئة ألف يكلف الجندي الأمريكي الواحد الخزانة الأمريكية مليون دولار في السنة الواحدة وَفْقاً لدورية (فورين أفير) ووَفْقَ جميع الأخبار المتداولة بشأن المحادثات التي تجريها الحكومة الأمريكية مع قيادات طالبان؛ فإن الاتفاق بينهما على وشك الحدوث وهو يقضي بتقليص عدد الجنود الأمريكان إلى تسعة آلاف؛ وذلك بموجب اتفاق سلام مبدئي مع طالبان. كما نقل موقع (CNN) مطلع الشهر الحالي عن مصادر أمريكية أن إدارة ترامب تسعى لخفض عدد دبلوماسييها في كابل ضمن الترتيبات المتعلقة باتفاق سلام محتمل مع حركة طالبان.
ويكاد يجمع المراقبون على أنَّ أي انسحاب أمريكي نهائي من أفغانستان – وهو المتوقع حدوثه – معناه وقوع أفغانستان مجدداً في قبضة حكومة طالبان، وهذا ما يؤخر – على ما يبدو – الوصول إلى اتفاق نهائي؛ إذ تحاول أمريكا أخذ ضمانات من طالبان بعدم رجوع القاعدة وغيرها من الجماعات الجهادية إلى أفغانستان.
هذا الاتفاق القريب والذي يوشك أن يحدث خلال الأسابيع القادمة بين طالبان وأمريكا هو الذي أثار المخاوف الهندية ودفعها إلى إجراءاتِ ضم كشمير فعلياً، لأن هذا الاتفاق ببساطة سيجعل باكستان الداعم الرئيس لطالبان تستردُّ حديقتها الإستراتيجية الخلفية في أفغانستان، وسيعجِّل بعودة الجماعات الجهادية الكشميرية للعمل مرة أخرى. وما يعزز هذه الفرضية – وَفْقَ الرؤية الهندية – هو الهجوم الذي قامت به جماعة جيش محمد الكشميرية في فبراير الماضي والذي أسفر عن مقتل 40 هندياً من أفراد الشرطة شبه العسكرية في هجوم بسيارة مفخخة في كشمير، وبعده عبرت الطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجوية الهندية خط السيطرة في كشمير وأسقطت متفجرات في الأراضي الخاضعة للإدارة الباكستانية وقالـت الهنـد: إن غـاراتهـا أسفرت عن مقتل عدد كبير من (الإرهابيين).
ثم واصلت الهند تصريحاتها بالتلويح بالورقة المائية وبالتحكم بالأنهار التي تمد باكستان بنحو ثلاثة أرباع حاجياتها المائية.
وبما أن الأسلحة النووية لدى كلٍّ من البلدين توجد نوعاً من توازن القوى العسكري بينهما؛ فإن الصراع بينهما لن يأخذ شكل الحروب العسكرية السابقة بين جيشين؛ لأن هذا معناه التدمير النهائي لكلٍّ من الدولتين، وسيأخذ الصراع أشكالاً أخرى كحرب المياه وورقة الجماعات المسلحة، وأخيراً ما أقدمت عليه الهند من إلغاء الوضع المميز لكشمير في الدستور والبدء في إجراءات الضم النهائي.
(المصدر: مجلة البيان)