ما وراء إطلاق مبادرات دينية كـ”وثيقة مكة” و”الديانة الإبراهيمية”؟
إعداد طه العاني – الخليج أونلاين
يتصاعد الجدل بين أوساط العالم الإسلامي مع تزايد دعوات التقريب بين الأديان وإطلاق العديد من المبادرات؛ وأبرزها “وثيقة مكة” و”الدين الإبراهيمي”، وغير ذلك من المسميات المستحدثة.
وفي هذا الإطار احتضنت العاصمة الأمريكية واشنطن، في 11 نوفمبر 2021، منتدى “وثيقة مكة المكرمة لتعزيز الوحدة والتعايش العالمي: تعاون الأديان من أجل الأمن والصحة والتنمية”، الذي جرى تنظيمه بشراكة بين كبرى المؤسسات الدينية الإسلامية وغير الإسلامية من مختلف الولايات الأمريكية.
جاء ذلك بمشاركة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين محمد العيسى، والمديرة التنفيذية لمكتب البيت الأبيض للشراكات القائمة على العقيدة والجوار ميليسا روجرز، ونخبة من قادة السياسة والفكر ورؤساء وأعضاء المراكز الفكرية والبحثية وعدد من مختلف القيادات الدينية والأكاديمية.
وثيقة مكة
أشار العيسى إلى أن مبادئ وثيقة مكة المكرمة تتلاقى مع أهداف التنمية المستدامة في القضايا الأساسية للعدالة والفقر والأضرار البيئية، وتخفيف حدة العنف وتعزيز السلام والتعايش، وغيرها من القضايا الأساسية حول العالم.
وتناول “العيسى” في الجلسة الافتتاحية مضامين وثيقة مكة المكرمة، موضحاً أنها امتداد لوثيقة المدينة المنورة أو دستور المدينة المنورة الذي أمضاه النبي محمد ﷺ مع مختلف مكونات المجتمع في المدينة المنورة.
وأكد أن وثيقة المدينة المنورة كانت أصدق تعبيرٍ بشهادة الوثائق على قيم السماحة الدينية الإسلامية متضمنة الدعوة للتعايش بكامل الحقوق والواجبات، مع تأكيد كرامة الإنسان وحقه في الوجود بكامل حريته المشروعة.
وأشار إلى أن وثيقة مكة المكرمة أكدت أهمية احترام وجود التنوع بكافة أطيافه، وأن هذا يمثل في معناه الصحيح احترام إرادة الخالق في وجود الاختلاف والتنوع والتعدد بين البشر، كما دعت إلى حوار وتحالف الحضارات.
و”وثيقة مكة ” جرى توقيعها في مايو 2019، وأقرتها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة يمثلون 27 مكوناً إسلامياً من مختلف المذاهب والطوائف، “دستوراً تاريخياً” لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة ثانية.
الدين الإبراهيمي
وفي سياق متصل يكثر الجدل حول ما يعرف بـ”الديانة الإبراهيمية الجديدة”، رغم عدم إعلانها رسمياً، إذ ليس لها أسس أو أتباع أو كتاب حتى الآن، وإنما هي مشروع بدأ الحديث عنه منذ فترة، أساسه العامل المشترك بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أدياناً إبراهيمية، نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام.
وبحسب تقرير هيئة الإذاعة البريطانية “BBC” فإن الهدف المعلن للمشروع هو “التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عما يمكن أن يسبب نزاعات وقتالاً بين الشعوب”.
وقد بدأ ترويج الفكرة فعلاً في إطار “إقامة السلام بين الشعوب والدول بغض النظر عن الفروقات”.
وتشير “بي بي سي” إلى أن تداول مصطلح “الإبراهيمية” والجدل حوله انطلق مع توقيع الإمارات والبحرين اتفاق تطبيع مع “إسرائيل”، في سبتمبر 2020، بعد الاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها حينها دونالد ترامب، ومستشاره جاريد كوشنير، والذي سُمي بـ”الاتفاق الإبراهيمي”.
وفي نص إعلان الاتفاق، المنشور على صفحة وزارة الخارجية الأمريكية، يرد ما يلي: “نحن نشجع جهود دعم الحوار بين الثقافات والأديان للدفع بثقافة سلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث والإنسانية جمعاء”.
هذه الفقرة هي منطلق ومركز مبادرات كثيرة صاحبت اتفاق التطبيع وتبعته، فتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” لم يكن صفقة سياسية أو اقتصادية بحتة وإنما انعكس على جوانب ثقافية في حياة كل الأطراف، يقول مراقبون.
وتشير “BBC” إلى أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي المتفاعلون مع الأمر اتهموا الإمارات بترويج الديانة الإبراهيمية الجديدة، وربط كثيرون بين الدعوة “للإبراهيمية”، وبين “بيت العائلة الإبراهيمية”.
وفي سبتمبر 2019، كشفت خطط لبناء بيت العائلة الإبراهيمية، وهو صرح يجمع بين الديانات السماوية الرئيسية الثلاث، ويجري تشييده في جزيرة السعديات بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، وبحسب القائمين عليه يجسد “بيت العائلة الإبراهيمية” ترجمة على أرض الواقع لوثيقة “الأخوة الإنسانية” التاريخية التي وقعها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان بأبوظبي، في 4 فبراير 2019.
رفض الأزهر
تواصل الدعوات إلى الإبراهيمية الجديدة، دفعت شيخ الأزهر أحمد الطيب إلى الخروج عن صمته، وحذّر في كلمته الاحتفالية ببيت العائلة المصرية من خطورة ما يدعى “الدين الإبراهيمي الجديد”، مؤكداً أن التآخي بين الإسلام والمسيحية غير امتزاج الدينين وذوبان الفروق بينهما، منبهاً إلى خطورة الدعوات التي تهدف إلى مزج اليهودية والمسيحية والإسلام في دين واحد يجتمع عليه الناس حتى لا يتنازعوا، مؤكداً أن الدعوة في ذاتها ضد حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار.
أعلن الطيب رفض الدعوة إلى “الديانة الإبراهيمية الجديدة”، وتساءل في خطابه عما إذا كان المقصود من الدعوة “تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة”، حسب تعبيره.
وقال: إن الدعوة للإبراهيمية “تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار”.
ويرى أن الدعوة إلى توحيد الدين دعوة “أقرب لأضغاث الأحلام منها لإدراك حقائق الأمور وطبائعها”، لأن “اجتماع الخلق على دين واحد أمر مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها”، مبيّناً أن “احترام عقيدة الآخر شيء والإيمان بها شيء آخر”.
بدوره أكد الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة جمال عبد الستار، أن الدعوة إلى الدين الإبراهيمي ليست دعوة دينية بل دعوة سياسية، الهدف منها سحب المسلمين من الانتساب إلى عقيدتهم واستغلال حالة الضعف التي لديهم، وتكررت في التاريخ مرات كثيرة، ولكن ما لبثوا أن أفاقوا وعادوا إلى صحيح الدين والعقيدة.
وأشار عبد الستار -الأستاذ السابق بكلية الدعوة في جامعة الأزهر- إلى أن هذا المشروع السياسي تقف خلفه وتدعمه بقوة دولة الإمارات بكافة الوسائل، سواء بالمال أو من خلال علماء ورجال الدين المشهورين وغيرهم، لصناعة حالة مختصة بديانة مختصة وفق مراد جهات دولية بعينها، بحسب حديثه لـ”الجزيرة نت”.
وفيما يتعلق بتصريحات شيخ الأزهر، أثنى عبد الستار على موقفه مما يسمى الدعوة للدين الإبراهيمي الجديد، وقال إنه يأتي في إطار انتصاره للعديد من القضايا، ولكن الأهم من تلك التصريحات هو أن يحارب مثل هذه الدعوات، وأن يجيش الأمة الإسلامية لرفض مثل هذه المعتقدات الباطلة من خلال الدعاة حول العالم الإسلامي.
وكانت الإمارات قد أعلنت، في سبتمبر 2019، خططاً لبناء بيت العائلة الإبراهيمية، وهو صرح يجمع بين الديانات السماوية الرئيسية الثلاث، ويجري تشييده في جزيرة السعديات بالعاصمة الإماراتية أبوظبي.
توظيف سياسي
يرى الباحث في شؤون الأديان د. عمار التميمي أن الفكرة قديمة، وهي متجددة وإن كانت تأتي اليوم محدثة بالشكل المعاصر الذي يلبي أهداف أصحابها، فحديث التقريب وتغليب الاعتدال والتسامح -مما يشكل ركيزة مشروع الديانة الإبراهيمية- هو ذاته ما تم استخدامه منذ عقود عدة وبأشكال متغيرة.
وفي حديثه مع “الخليج أونلاين” يؤكد “التميمي” أن تلك الدعوات هي توظيف سياسي لقضية فكرية ما تزال شائكة، ضمن مشروع واسع وشامل يمتد إلى تسعينيات القرن الماضي، وحاول التشكل عبر منظمات ومراكز بحثية مختلفة، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشير إلى أنه “ربما انخرط في تلك الدعوات الكثير ممن حملتهم النوايا المخلصة وهدف ترسيخ الاعتدال دون قصد، فكانوا أداة فيها، ومن ثم يمكن القول إنها مواجهة معاصرة لخصم قديم واستراتيجي هو الإسلام”.
واعتبر التميمي أن تحذير شيخ الأزهر كان لافتاً وجريئاً، ويمثل إدراكاً ذكياً لحقيقة ومضمون هذه الدعوة التي لاقت رفضاً من العلماء المسلمين وحتى المسيحيين على حد سواء، لافتاً إلى أن “الكيان الصهيوني الغاصب هو من يبادر لها بمختلف واجهاته”.
وينوه الباحث بأن ما يطلق عليه اليوم الديانة الإبراهيمية هو “عنوان براق” لمضمون أقل ما يقال عنه إنه مريب ويثير الشك، ولا سيما في ظل هذا الدعم اللامتناهي لدعاته، وتوفير الحاضنة السخية لكل المنابر التي تتبناه وتدعو إليه.
ويعتقد التميمي أن التوظيف السياسي للقضية هو الأصل، ويراد منه أن يكون “بوابة ومفتاحاً للمزيد من التطبيع بين المسلمين والكيان الصهيوني”، مع عدم إغفال البعد الفكري، مبيناً أن الأمر يهدف إلى “إنهاء ناعم للقضية الفلسطينية، وتقويض حركات الربيع العربي، وفق سياسة ماكرة تستثمر ظواهر الإرهاب والعنف”.
ويلفت إلى أن الإمارات تتبنى قيادة هذا المشروع، وهي تمضي فيه دون اعتبار للمعترضين، وتستقطب كل المؤيدين، وتسخر له الإمكانيات المالية والمكنات الإعلامية الضخمة للترويج له وتحت مختلف المسميات.
وخلص في حديثه إلى أن هذا الأمر يفهم بشكل واضح منذ بدء مسيرة الإمارات نحو التطبيع وإعلانها إقامة “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبوظبي، والذي يضم كما قيل كنيسة ومسجداً وكنيساً تحت سقف صرح واحد، وصولاً إلى خطاب التطبيع الصريح.
المصدر: الخليج أونلاين