مقالاتمقالات مختارة

ما هي العلاقة بين”الديني” و”المدني”؟

بقلم د. جاسر عودة

بعض المجتمعات العربية –كالمجتمع المصري– متعددة الديانات. في مصر يوجد نسبة تزيد أو تنقص عن 6% من المجتمع من الأقباط. وإذا حدثهم البعض عن “تطبيق شرع الله” أو “دولة إسلامية” حدث عندهم تخوّف من ضياع حقوق المواطنة أو مبدأ المساواة بين المواطنين، وهذا قد يكون مشروعاً فيبعض الأحيان نظراً كما يظهر بين الحين والآخر في بعض التصريحات الإعلامية أو على لسان بعض المنتسبين إلى التيارات الإسلامية، ولو كانوا قلة.

على الجانب الآخر، توجد نسبة كبيرة من المصريين المسلمين الذين لا يقبلون أبدًا بنفس التصريحات ويحملون نفس الهواجس والتخوف على حقوق المواطنة ومبدأ ما أطلقوا عليه “الدولة المدنية”. والسؤال هنا: هل هناك تعارض بين “الديني” (الإسلامي) و”المدني”؟ وما علاقة ذلك بغير المسلمين؟

إجابة هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل بعد الإجابة السريعة، أنه –بداية- لا تعارض بين مفهوم “المدني” ومفهوم “الديني” إذا تخيلنا مساحات الديني والمدني في دوائر متقاطعة وليست دوائر منفصلة كما في الشكل التالي: علاقة الديني والمدني بين الاشتراك والتمايز.

كثيرا ما ننظر إلى المعاني في متقابلات وثنائيات حتمية كأنها أبيض أو أسود، وهي ليست هكذا، وإنما الواقع هناك مساحة رمادية طبيعية كبيرة بين الأبيض والأسود، نريد هنا أن نحقق “المدني” بالديني وبغير الديني، كي يكون الدين مكوناً من مكونات المدني، ونريد أن يكون المدني أيضاً رافداً للديني وشكلاً من أشكاله، وبذلك يتسع مفهوم الديني ومفهوم المدني على سواء.

ولكن يوجد في النظرية السياسية خاصة عند بعض المنظرين الغربيين، يوجد تعريف للمدني يخرج منه كل ما هو ديني! ويتبنى ذلك الرأي، بل ويخص بذلك الدين الإسلامي، خصوصاً أمثال سامويل هانتنغتون، وألبرت حوراني، وبرنارد لويس، وإيلي كدوري، ومهران كامرافا، وغيرهم من المحافظين الجدد وأتباعهم.[1] لكن هذا ليس صحيحاً عمومًا، وفي النطاق العربي والإسلامي خصوصاً لأن عندنا كشعوب شرقية، لابد للديني أن يسهم في الحياة المدنية وأن ينميها، ولا يمكن أن نعزل الحياة المدنية عن الدين بشكل أو بآخر! هنا يمكننا أن نميز ثلاثة أنواع من المفاهيم تحتاج إلى تفصيل:

(1) الديني البحت:

وهو بمعنى المكونات الدينية التي تخص أهل الدين وحدهم وليس لها علاقة ببناء الدولة ولا قوانينها، وهذا مثل مسائل العقيدة وقضايا الحلال والحرام (مما لا يتعلق بالدولة أو القانون). وهذه المساحة ليست إسلامية فقط وإنما مسيحية كذلك، وأهل كل دين يختصون بدينهم فيها.

(2) المدني البحت:

وهو هنا بمعنى ما يخص الدولة ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية، مما ليس للدين تداخل (مباشر) معه، وذلك مثل شكل الدولة وتقسيم السلطات المختلفة والقوانين المنظمة للعلاقات بين الأفراد والهيئات والتجمعات مما ليس له ذكر مباشر وتفصيلي في الدين، وهو كما ذكرنا مما يدخل في الأفعال البشرية أو شؤون الدنيا.

ولكن هذا القسم له علاقة بالدين (الإسلامي هنا) عن طريق المبادئ والمقاصد الكلية العامة والأخلاق والقيم التي تحكم تعامل المواطن وتصرفاته وتصوراته، وذلك دون أن يلزم أن يُعبّر عن هذه المبادئ والقيم في أحكام تفصيلية أو قوانين بعينها، وهذه المبادئ كالعدل والمساواة والحريات المختلفة وغيرها، مما يدخل في الإسلام تحت المقاصد العامة الكلية والمبادئ الأخلاقية والحقوق المشروعة، فيأتي من أراد أن يأتي إلى هذه المساحة من خلفية فلسفية إنسانية وعقلانية مجردة، ويأتي من أراد إلى نفسه المساحة من خلفية إسلامية تشترك في هذه المساحة في قيمها ومبادئها، ولكنها مساحة مدنية خالصة إن صح التعبير.

(3) ديني- مدني:

وهناك دائرة (أو مساحة رمادية إن شئت) يختلط فيها الديني بالمدني، أي أن للدين فيها أحكاما تفصيلية خاصة تتعلق بالدولة أو مؤسسة من مؤسساتها أو علاقات المواطنين بشكل مفصّل، وهذه الأحكام الدينية الأصل فيها أن تتحول إلى قوانين عامة تلزم الجميع. هنا تأتي إشكالية الديني والمدني، لأن تحويل الأحكام الشرعية (الإسلامية في هذه الحالة) إلى قوانين تلزم المسلم فقط أو أن تلزم المسلم وغير المسلم على حد سواء لهي مسألة تحتاج إلى تفصيل.

وأقترح هنا أن نقسّم هذه المساحة نفسها (الديني-المدني) إلى ثلاثة أقسام متمايزة، يمكن أن تشكل إطارا مشتركا واسع القبول، وحتى نستطيع أن نتجنب صراعاً وانقساما مجتمعياً وخيم العواقب:

أولاً، الديني-المدني الذي يمكن لكل أهل دين التحاكم فيه إلى دينهم:

في الأحوال الشخصية، الغالبية الساحقة من الشعب المصري –مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وليبراليين- لا يقبل بفكرة “الزواج المدني” أي الزواج بين أي شخصين يتوافقا عليه دون الرجوع إلى أحكام الدين (الإسلامي كان أو المسيحي) في جواز ذلك الزواج شرعا عندهم وشروطه وموانعه المختلفة كما هو في اجتهادات الهيئات الدينية المعنية.

لذلك، لابد لدائرة الأحوال الشخصية وما يتعلق بالأسرة من هيئات وقوانين ومؤسسات –ويلحق بها مسائل الميراث والنفقات والنسب، إلى آخره– لابد أن تكون الكلمة العليا فيها للفقهاء القانونيين أصحاب العلم بالشريعة في كل دين، والذين يمثلون (طبعًا في إطار اجتهادات مناسبة ومعاصرة) الرأي الديني المقبول سواء في الإسلام ممثلاً في الأزهر الشريف وعلمائه بشكل عام، أو المسيحية ممثلة في الكنائس المختلفة بمرجعياتها المعروفة.

ثانياً، الديني-المدني الذي يسري على الجميع بناء على توافق مجتمعي:

وهذه مساحة من الأحكام الدينية (الإسلامية هنا)، والتي يتفق عليها الجميع أنها أفضل ما يمكن للصالح العام ولو كان مصدرها الشريعة الإسلامية تحديدا. من ذلك مثلاً القصاص من القاتل العامد مع سبق الإصرار والترصد، الذي هو “حد القتل العمد” في الشريعة.

ورغم أنه “حكم شرعي”، إلا أنه قد حدث توافق مجتمعي عليه، فأصبح هو القانون المعمول به على المسلم وغير المسلم، ومن ذلك العقوبات التي يفرضها القانون على الأفعال الفاضحة أو السّكر في الطريق العام، أو الجهر بالإفطار في رمضان مثلاً، أو غير ذلك من أحكام الشريعة ولكنها مما اتفق عليه الجميع.

وهناك أيضاً القوانين التي تنظم دور العبادة ولو كان فيها اختلاف بين المسلمين وغيرهم نظراً لاختلاف نسب السكان وتوزيعهم الديمغرافي، والإجازات الرسمية في الأعياد الإسلامية أو المسيحية، وكذلك هيئات المساجد والأوقاف الإسلامية وبعثات الحج المصرية الرسمية التي تدعمها الدولة، ونحو ذلك. وهذه المساحة كلها لابد للرجوع فيها إلى”المشرّع” الذي يمثل الشعب وأن تراعي الحساسيات المختلفة سواء حساسية المسلمين –وهم أغلبية ساحقة– أو مشاعر الأقلية ولها حق أن تُراعَى وعليها واجب أن تُراعِي.

هذا فضلا عن المادة الدستورية العامة والمهمة والتي تجعل من الشريعة المصدر الرئيس للتشريع،وهي مادة هامة توافق عليها المجتمع (أو الأغلبية الساحقة فيه) منذ عقود دون إخلال بخصوصيات غير المسلمين، وهي مسألة كما قدمت تتعلق بالهوية عند الغالبية الساحقة من المصريين لا يصح المساس بها.

ثالثاً، الديني-المدني الذي لا يتوافق عليه المجتمع:

وهذه هي المساحة الشائكة في الطرح الإسلامي، والتي ينبغي بصراحة أن تكون لها حساسية خاصة عند الإسلاميين، نظراً لأن مصدر القوانين أو المؤسسات هنا هو الشريعة في هذه الحالة، ولكن التوافق المجتمعي المصري عليها لم يحدث ولم يتم بدرجة مقبولة تسمح بأن يتحول الديني الإسلامي إلى قانون مطبق أو مؤسسة من مؤسسات الدولة، وذلك مثل من ينادي بأن تقوم الدولة (المصرية هنا) على جمع جزية أو ضريبة من غير المسلمين، أو عدم السماح لغير المسلم بالاشتراك في الخدمة العسكرية أو الترشح لرئاسة الجمهورية أو تولي القضاء، أو أن تفرض الدولة شعائر الإسلام ومظاهره الدينية الخاصة على الجميع، أو تطبق الحدود الشرعية على الجرائم المحددة لها، إلى آخره.

وهذه المساحة لابد للطرح الإسلامي أن يكون واعياً بخطورة فقدان التوافق المجتمعي على ما يطالبه، كما يجب على الطرح الإسلامي أن يوسّع أفق العمل في هذه المساحة ويخرج من مساحات التقنين وتشريع العقوبات إلى مساحات التربية والثقافة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى