ما قبل الحاكمية: الجذور الفكرية والأدبية والسياسية لسيد قطب
إعداد عبد الحميد ضحا
لو لم يسر سيد قطب في طريقه الذي عُرِف به، لكان اسمه يُذكر الآن بجوار العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، لكنه عند نقطة ما في مطلع الخمسينات اختار هذا التحول، وسار في هذا الطريق. وإذا بسيد قطب ينقل اسمه من خانة كبار الأدباء المصريين إلى ساحة كبار المفكرين الإسلاميين، وُصِف دائما بأنه المنظر الفكري للجماعات المتشددة، لكن هذا لم يحل دون أن تترجم كتبه إلى سائر اللغات وتنتشر في طول وعرض العالم الإسلامي، ويظل مثيرا للجدل الملتهب حتى بعد وفاته بأكثر من نصف قرن.
وقف سيد قطب أمام النظام الناصري الذي لم يتجرأ العقاد نفسه أن يقف أمامه، رغم ما هو مشهور عن العقاد من قوة شخصيته ومن كفاحه في العهد الملكي، وكان في ألق وعيه يوم أن كان توفيق الحكيم قد غاب وعيه حتى أنه لم يسترده إلا بعد وفاة عبد الناصر، وقد انتهى شهيدا بمعنى الشهادة المعروف، كما انتهى شهيدا بمعنى أنه أشهد الأدباء على أنفسهم أنهم كانوا أهل ثرثرة تفتقد حقيقة الكفاح وحرارة الفداء.
كانت شخصية سيد قطب، كما أثبتت تجربته، فريدة ذات خصائص نادرة، يندر أن يجود الزمان بمثله في مقام الفكر والكفاح معا، لقد كان له أثرٌ كبيرُ في حياته؛ ولكنه لا يُقارَن بالأثر الذي أحدثه باستشهاده إعدامًا.
لقد كان ذا مواهب متعدِّدة، وبزَّ في كل مجال دخله، وصار له أثر ضخم لا تخطئه عين، وقد فشِلوا في محو تاريخه لجعله مجرَّد إنسان دخل السجن فتأثَّر بالتعذيب، فكتب كتابًا نتيجة للتعذيب تأثَّر به المتطرفون والإرهابيون؛ بمعنى: محو تاريخه الأدبيِّ وعقودٍ كان له فيها دور مشهود في المشهد الثقافيِّ والأدبيِّ والاجتماعيِّ والسياسيِّ المصريِّ والعربيِّ.
إن تاريخ الأستاذ سيد قطب أتعب من يريدون محوَه، فلم يجدوا إلا التشويش عليه؛ فإنه موثَّق بدرجة كبيرة؛ فقد كتب جزءًا كبيرًا من حياته بنفسه؛ فنشأتُه أفاض فيها في كتابه “طفل من القرية”، وتحدَّث في بعض كتبه الأخرى عن أجزاء من حياته، وله مئات المقالات الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية في كبرى الصحف والمجلات – ومعظم أرشيفاتها موجودة ويتتبَّعها الباحثون – تُظهر شخصيته وأفكاره ومراحل تطوُّرها، وكتب عنه كثير من الكتَّاب والباحثين من محبِّيه ومُبغضيه وغيرهم، وله رسائلُ ومقابلات وتواصل مع شخصياتٍ عامَّة وأصدقاءَ وأدباءَ تحكي عن مواقف كثيرة مهمة في حياته وفي الأحداث الكبرى التي جرت بمصر؛ مثل فترة وجوده في أمريكا، ودوره في ثورة يوليو 1952؛ فسنتحدث عن بعض هذه الأمور من صفحات حياته.
إن هذه الدراسة وإن كانت تتناول حياة شخصية مهمة، فإنك ستدرك منها كثيرًا من الأوضاع الأدبية والسياسية والاجتماعية وغيرها التي كانت سائدة في مصر في هذه الفترة؛ لأن سيد قطب لم يكن مجرَّد أديب أو كاتب كبير؛ بل إنه كان شخصًا مؤثِّرًا في الحياة الثقافية والسياسية، ومتشابكًا مع كثير من الأحداث في مصر.
وحيث إن المشهور عن سيد قطب منذ التحاقه بالإخوان المسلمين ودخوله السجن وإعدامه، فسنركِّز على حياته الأدبية، وإنتاجه الفكريِّ والأدبيِّ، وتأثيره في الواقع الأدبيِّ والثقافيِّ والفكريِّ والسياسيِّ.
يقول الشاعر سيد قطب في بيته الشهير (من بحر الرَّمَل)، المطبوع على غِلاف أعماله الشعرية الكاملة:
إنَّ نَفْسِي لَيْسَ تَرْضَى أَيُّ نَفْسٍ = تَقْبَلُ الْعَيْشَ كَسُكَّانِ الْقُبُورْ
لقد عاش حياته دائبَ الحركة لا يستكين، يُلقي أحجارًا في الماء الراكد دائمًا، إلى أن كانت وفاته زلزالاً في الأمة الإسلامية بأَسْرِها، نُخبةً وشعوبًا؛ أليس عجيبًا أن يكون تأثير كتاباته بعد إعدامه فائقًا جدًّا عن تأثير كتاباته في حياته، وكأنه كان يرى ذلك ببصيرته حين كان يُدَندن دائمًا حول قوله: “إن كلماتِنا تظلُّ عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها، دبَّت فيها الروح، وكُتبت لها الحياة”[1].
ونشير إلى تعدُّد مواهبه وبعض الاختلافات في نظرة الناس والنخبة إليه بقول د. حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعروف في مفتتَح تقديمه لكتاب “سيد قطب.. الأعمال الشعرية الكاملة”[2]: “سيد قطب هو الإمام الشهيد عن الإسلاميين، وهو المفكِّر الشهيد عند مجموع المفكِّرين، وهو الناقد الأدبيُّ عند جماهير النقَّاد، وهو الشاعر الرومانسيُّ المنتسِب لمدرسة أبوللو”.
نشأته:
معظم الكتب[3] التي كُتبت عنه تناولت نشأته كالتالي: وُلد سيد قطب إبراهيم حسن شاذلي في قرية “موشا” أو “موشة” بمحافظة أسيوط في 9 أكتوبر 1906م، وعاش بها وأتَمَّ بها دراسته الابتدائية (1912-1918)، ثم انقطع عن الدراسة عامين بسبب ثورة 1919م، ثم سافر إلى القاهرة عام 1920م، وأقام عند خاله الأزهريِّ الوفديِّ أحمد حسين عثمان في حيِّ الزيتون، الذي كان يعمل بالصحافة والتدريس، وصديقًا لعباس محمود العقاد الأديب الشهير، الوفديِّ أيضًا حينَها، فعرَّفه عليه، فلازمه وصار تلميذًا له ومن مريديه، وتوطَّدت أواصر العلاقة بينهما مدَّةً طويلة تربو على ربع قرن، إلى أن حدثت فجوة فباعدت بينهما.
التحق بمدرسة المعلمين الأوَّليَّة (1922-1925)، ثم التحق بمدرسة ثانوية “تجهيزية دار العلوم” التي تُعِدُّ الطلبة للالتحاق بدار العلوم، ولا يدخلها إلا الطلبة المتفوِّقون (1925 – 1929)، ثم دخل كلية دار العلوم 1929م وتخرَّج فيها 1933م، ثم عيِّن مدرسًا بوزارة المعارف في نفس العام ليتنقَّل في وظائف بها حتى استقال عام 1952.
سيد قطب في دار العلوم:
لم يكن سيد قطب مجرَّد طالب بدار العلوم؛ بل كانت له صولات وجولات ومناقشات واعتراضات وإعجاب به من أساتذته، لدرجة أنه كان يحاضر في مدرَّج الكلية للطلبة والأساتذة؛ فهذا أستاذه الدكتور محمد مهدي علام قال في تقديمه لكتاب سيد قطب “مَهمَّة الشاعر في الحياة” الذي كان محاضرة ألقاها وهو في السنة الثالثة من الكلية: “ولئن كنتُ قد قدَّمت المحاضِر سيد قطب بأنه طالب، يسرُّني أن يكون أحدَ تلاميذي، فإنني أقول اليوم – وقد سمعتُ محاضرته -: إنه لو لم يكن لي تلميذٌ سواه لكفاني ذلك سرورًا وقناعةً، واطمئنانًا إلى أنني سأحمِّل أمانة العلم والأدب مَن لا أشكُّ في حُسن قيامه عليه… وقصارى القرَّاء أن أقول لهم: إنني أَعُدُّ سيد قطب مفخرةً من مفاخر دار العلوم، وإذا قلتُ: “دار العلوم”، فقد عَنيتُ دار الحكمة والأدب”[4].
وهاك موقفًا دالًّا على شخصية الطالب سيد قطب وأنه لم يكن طالبًا عاديًّا: فإنه لم يكن راضيًا عن مناهج دار العلوم بسبب تقصيرها في تدريس الأدب واللغات الأجنبية والتربية وعلم النفس[5]، فقدَّم وهو طالبٌ مذكِّرةً لإدارة الكلية يقترح فيها تغيير منهاج الدراسة فيها، واقترح المناهج كما في قوله مخاطبًا د. طه حسين في نقد كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”: “ولقد سبق لي أن صرَّحتُ بها وأنا طالب في المدرسة منذ ستِّ سنوات، وقد قدَّمتُ بها اقتراحاتٍ ضمَّنتُها برامجَ كاملةً للدراسة في المدرسة إلى صاحب العزَّة ناظرِها، واقترحتُ أن تكون المدرسة تجهيزيةً خاصَّة، تدرَّس بها اللغة الإنجليزية منذ أول سنة، وتتوسَّع في دراسة العربية وعلوم الدين، فتهيِّئ بذلك للقسم العالي، على أن تستمرَّ دراسة الإنجليزية في هذا القسم، ويُتوسَّع في دراسة اللغة العربية، وفي علوم التربية، ويُخلَق درسُ النقد الفني بجانب تاريخ أدب اللغة الذي يدرَّس الآن، وتُزاد سنوات الدراسة بالقسم العالي إلى ستِّ سنوات، تنتهي بتقديم رسالة، ويستقلُّ مجلس إداراتها بتسيير نظامها”[6].
وهذا مَلمَح يسير من نشاطه بدار العلوم إضافةً لنشاطه السياسيِّ والاجتماعيِّ فقد كان عضوًا بحزب الوفد، وكان يكتب مقالاتٍ بالصحف والمجلَّات، ومن مؤسِّسي جماعة دار العلوم عام تخرُّجه 1933م التي أصدرت مجلة “دار العلوم” الفصلية التي استمرَّت أربعةَ عَشَرَ عامًا (1934-1947)، ونَشَر بها مقالاتٍ كثيرةً، أشهرُها مقاله عن نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر للدكتور طه حسين، الذي أصدره كتابًا مستقلًّا بعد ذلك، وظل على تواصل معهم، ولم يَنسَهم مع أنه صار كاتبًا كبيرًا ملء السمع والبصر، حتى وهو في الولايات المتحدة الأمريكية أرسل إلى زميله محمد إبراهيم جبر يسأل عن الجماعة، قال له فيها: “ثم ما هي أحوال الجماعة اليوم؟ من هم أعضاء مجلس إدارتها؟ كيف تسير الأمور داخلها وخارجها؟ كل أولئك من حقي أن أعرف عنه شيئًا”[7].
مشاركته في ثوة 1919:
تاريخ سيد قطب السياسيُّ لم يبدأ بالتحاقه بحزب الوفد منذ قدومه للقاهرة متأثِّرًا بخاله الوفديِّ، وأستاذه عباس العقاد، وقد ظلَّ في حزب الوفد حتى استقال منه عام (1942)[8]، وكتب مقالات وقصائد وأبحاثًا كثيرة في صحف ومجلات الحزب، ثم ظل بلا انتماء حتى انتظم مع الإخوان عام (1953)[9].
إنما يبدأ منذ مَيْعَة الصِّبا حين شارك في ثورة 1919م؛ فقد كان والدُ سيد قطب من أهل الوجاهة في القرية، وكان سياسيًّا نشيطًا بها؛ إذ كان عضوًا في الحزب الوطنيِّ، وكان يُجرى الإعداد لثورة 1919 بالقرية في منزلهم؛ يقول سيد: “في هذه الاجتماعات كانت تدور أحاديثُ، يحضر بعضها الصبيُّ، وبعضها كان سريًّا لا يعلم عنه أحد شيئًا، وكان يسمع اسم “أفندينا عباس”، واسم الشيخ عبد العزيز جاويش، واسم محمد فريد…”[10]. ويستطرد: “شيئًا فشيئًا أخذ سيد يشارك الكبار، وكثيرًا ما يقرأ الجريدة بدلاً من والده للجمع الحاشد الذي يحضر لاستماعها في منزلهم”[11].
وقعت ثورة 1919م، فجمع ناظر المدرسة – صديق والده وممن يجتمعون في منزلهم – الطلابَ وألقى عليهم خطبة وطنية نارية، وقال لهم: “إن المدرسة ستُغلَق إلى أجل غير مسمًّى؛ لأنه هو وزملاءه ذاهبون للعمل في الثورة، فهذا واجب كل إنسان”[12].
ثم تحدَّث عن مشاركته بالثورة: “ووقعت المعجزة التي كان يتشكَّك فيها تارة، ويؤمن بها تارة، وقعت على يده هو، فانطلق في حماسة الثورة وفورتها يكتب هو الخُطبَ ويضمِّنها أبياتًا من الشعر – يحسبها موزونةً وهي متهالِكة- ويُلقيها في المجامع والمساجد، حيث نفخت الثورة المقدَّسة في الجميع، فصاروا يستمعون لكل هاتف بالثورة، ولو كان طفلاً صغيرًا مثله لم يكد يتجاوز العاشرة”[13].
كتابته في الصحف والمجلَّات:
كانت الأمور تتهيَّأ لسيد قطب ليأخذ مكانًا ومكانةً في الحياة الثقافية لمصر والعالم العربي في سنٍّ صغيرة، لدرجة أنه يكتب في الصحف والمجلات في هذه الفترة المشهودة وسط عمالقة الثقافة وهو ما زال في سنِّ الصِّبا.
يقول عادل حمودة: “إن سيد قطب كان دائمًا على موعد مع القدر؛ فالمدرسة تصل القرية في سنٍّ مناسبة، ووالدُه يملك أن يشتريَ له الكتب التي يحملها “عم صالح”، وأمُّه تعرف قيمة التعليم في القاهرة، وخالُه يمكِن أن يوفِّر له الإقامة والرعاية في القاهرة، كما أنه بحكم اشتغاله بالصحافة وحماسه للوفد كان يمكِنه بسهولة الوصول لمراكز الثقل في المجتمع، وجَدَّتُه التي يحبُّها تعيش معه.. ظروف مناسبة جدًّا ليستردَّ بالتعليم الأطيان التي فقدتها الأسرة، وليعيد في القاهرة ما ضاع من الأسرة في الريف. وها هي القاهرة تُعلن أنها في خدمة البرجوازية التي كان سيد قطب واحدًا من أبنائها، ها هي القاهرة تُعلن أنها في حاجة للموهوبين الذين يصعدون على سُلَّم التعليم إلى مناصبَ شاغرة، في حاجة لمن يشغلها في الأدب والصحافة وباقي فنون الإبداع”[14].
بمجرَّد وصول سيد قطب إلى خاله الصحفي بالقاهرة – وكأنه كان محدِّدًا هدفَه – اتَّصل بالصحف، فيقول عن أوَّل مقال كتبه: “وإذا كنت قد كتبت في الصحف من اثني عشر عامًا، فأنا أذكر أن أول مقالة لي في صحيفة يومية “البلاغ” كانت عن طُرق التدريس”[15]. أي: كان عمره ستة عشر عامًا، ويبدو أنه نشر الشعر قبل ذلك؛ فقد قال “علي أحمد عامر” في كلمة عن سيد قطب: “سيد قطب قد استهلَّ حياته بالعمل الصحفي على ضروبه وألوانه، فقد قرأته من ثلاثة عشر عامًا شاعرًا في صحيفة “الحياة الجديدة”، ثم قرأتُه بعدئذ شاعرًا وكاتبًا في “البلاغ”، ثم ها أنا الآن أقرؤه- صحبتك- شاعرًا وكاتبًا في الأهرام والأسبوع”[16].
ولم يتوقَّف سيد قطب عن الكتابة بالصحف والمجلات إلا بدخوله السجن عام 1954م، وقد كان غزير الإنتاج نثرًا وشعرًا ونقدًا في المجالات الأدبية والسياسية والاجتماعية والتربوية، فكان يكتب في الصحافة اليومية والأسبوعية وغيرها، ويدخل في معارك أدبية مع آخرين فيهاجمونه في مقالاتهم، ويكتسب معجبين يُثنون عليه ويُبدون إعجابهم بكتاباته.
يقول علي أحمد عامر عن نتاج سيد قطب حينها: “ولو أننا تناولنا نتاجه في ضوء عمره، لدعونا الزملاء جميعًا إلى اكتتاب عامٍّ، يطيب لكاتب هذا الفصل أن يساهم فيه برأسه؛ حتى نقيم له تمثالاً بحجم صورته، ونتوجَّه بهذه الشهادة: نشهد نحن الموقِّعين على هذا أن زميلنا سيد قطب من أولئك الذين أَرْبَت أقدارهم على أعمارهم؛ ولكننا في مصر، ومصر المحروسة بلد العقوق”[17].
لقد صار سيد قطب من أشهر الكتَّاب في أخصب فترة ثقافية في تاريخ مصر، يتولَّى الإشراف على بعض الصحف والمجلات، أو يحرِّر صفحة ببعضها، أو يتناول راتبًا شهريًّا مقابل مقالات يكتبها؛ فمثلاً اتَّفقت معه صحيفة الأهرام عام 1934م على كتابة مقالات نقدية في صفحتها الأدبية مقابل راتب شهريٍّ، تناول في أول مقالة ثلاثة دواوين حديثة آنذاك: “هدية الكروان” للعقاد، و”الينبوع” لأبي شادي، و”ديوان” لصالح جودت[18].
وتتبَّع الدكتور صلاح الخالدي عمله في الصحف والمجلات، فكانت كالتالي: “بعضها براتب شهري مثل: الأهرام والبلاغ، وبعضها مقالات أسبوعية بدون أجر، وهو غالبُها؛ مثل: الأسبوع وكوكب الشرق والمصوِّر والوادي والثقافة والرسالة والدعوة وغيرها، وبعضها كان يتولَّى رئاسة تحريرها والإشراف عليها وكتابة عدَّة مقالات في العدد الواحد منها؛ مثل مجلات: الفكر الجديد والعالم العربي والإخوان المسلمون.
ومن المجلات التي كتب فيها في العشرينيات: البلاغ والبلاغ الأسبوعي والجهاد والحياة الجديدة والأهرام والمقتطف والوادي وغيرها.
وفي الثلاثينيات ظلَّ يكتب ببعض المجلات السابقة، وأضاف إليها المجلات التي صدرت في هذه الفترة مثل: كوكب الشرق وروز اليوسف، وأبولُّلو والأمام، والأسبوع والرسالة، والثقافة ودار العلوم، وغيرها.
وفي الأربعينيَّات: استمر يكتب في مجلات مثل: الرسالة والثقافة ودار العلوم، وأضاف إليها المجلات التي صدرت في هذه الفترة مثل: الكاتب المصري والكتاب والسوادي والشؤون الاجتماعية والأديب اللبنانية وغيرها، كما أشرف في هذه الفترة على مجلتَيِ الفكر الجديد والعالم العربي.
وفي الخمسينيات ظلَّ يكتب في مجلات: الرسالة والثقافة والكتاب، وأضاف إليها المجلات التي صدرت في هذه الفترة مثل: “اللواء الجديد” التي أصدرها شباب الحزب الوطني بقيادة فتحي رضوان، و”الاشتراكية” التي أصدرها حزب مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين، و”الدعوة” التي أصدرها صالح عشماوي باسم “الإخوان المسلمون”، وأشرف في هذه الفترة على مجلة “الإخوان المسلون” التي لم تعمِّر طويلاً”[19].
وكان يكتب في كل المجالات، بما يناسب المجلة أو الصفحة التي يكتب بها، مقالات أدبية ونقدية وشعرًا، أو سياسية، أو اجتماعية، وغيرها، وكان مقاله بمجلة الرسالة الشهيرة هو الأول فيها وكأنه افتتاحيتها؛ فقد كان كاتبَ الرسالة الأول، وخاض معارك على صفحاتها ما زالت منشورة حتى الآن ومتوفرة على الإنترنت والمكتبة الشاملة، وقد جمع سيد قطب بعض مقالاته ونشرها في كتب؛ فقد جمع بعض مقالاته في النقد الأدبي في كتابه “كتب وشخصيات”، وبعض خواطره في كتاب “الأطياف الأربعة” بالاشتراك مع إخوته.
وأعدَّ بعض الباحثين قائمة (ببليوجرافيا) لمقالات سيد قطب في الصحف والمجلات؛ مثل الدكتور عبد الله الخباص الذي أعدَّ قائمة “ببليوجرافيا” فنية بمقالات سيد قطب، وألحقها بكتابه “سيد قطب الأديب الناقد”، وهو رسالته للماجستير في الأدب من كلية الآداب بالجامعة الأردنية عام 1982م، والقائمة أربت عن ثمانين صفحة، قسمها قسمين، الأول: يختصُّ بتراث سيد قطب ونتاجه الأدبي والفكري من مؤلَّفاته المطبوعة، والتي لم تُنشَر، والرسائل التي ظهرت بعد استشهاده، واقتطعت من كتبه ومقالاته، وما نشره سيد من قصائد ومقالات في الصحف والمجلات، والمقدِّمات التي كتبها لبعض المؤلَّفات.
القسم الثاني: يختصُّ بما كتبه الكاتبون عن سيد قطب من مؤلفات مطبوعة، ورسائل جامعية، ومقالات.
وذكر الخباص أنه نشر في قائمته ما وقف عليه، ولم يستوعب كل المقالات، ولم يطَّلع على كل الصحف والمجلات التي نشرت لسيد أو كتبت عنه، وبلغت المقالات في قائمته ثلاثمائة وأربع عشرة مقالة، والقصائد ثمانيًا وثمانين قصيدة[20].
ومثل عبد الباقي محمد حسين الذي ألحق بكتابه “سيد قطب حياته وأدبه” – وهو رسالته للحصول على الماجستير في الآداب من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1982م – قائمة “ببليوجرافيا” بالمقالات والقصائد المنشورة لسيد قطب التي استطاع الوصول إليها[21]، وما وقف عليه الباحث أيضًا أقلُّ مما لم يقف عليه، فثَمَّةَ صحفٌ ومجلات كتب فيها قطب ولم يثبتها الباحث؛ فكل ما أثبته (455) مقالةً وقصيدة موزَّعة على تسعَ عشْرةَ دوريةً؛ أي: أكثر من قائمة الخباص بثلاث وخمسين مقالة وقصيدة، وقد وعدت دار النشر “دار الوفاء” والباحث بإصدار هذه المقالات مرتَّبة مبوَّبة، وقد صدقا وعدهما، ونشرا ديوان “الشاطئ المجهول” بإضافة قصائد كثيرة مما نُشر في الصحف والمجلات ولم تكن موجودة في الديوان الأول “الشاطئ المجهول” جمعها عبد الباقي حسين كما سيأتي بيان ذلك مفصَّلاً.
وكذلك تحدَّث الدكتور صلاح الخالدي في آخر كتابه “سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد” عن كتب سيد قطب بالتفصيل، والكتب المنسوبة إليه، والأبحاث التي أعلن عنها أو أعدَّها ولم تنشر.
وإن كنا نثني على هذا الجهد المشكور، فإنه ما زال على الباحثين تتبُّع وجمع ما يستطيعونه من مقالات وكتابات الأستاذ سيد قطب؛ حتى تتضح للأمة هذه الشخصية المحورية في تاريخها.
مع العلم أن المجلات الأدبية والإسلامية ظلَّت تنشر بعض مقالاته بمناسبة ذكرى استشهاده، واهتمَّ الباحثون بعمل رسائل علمية عنه في الجامعات والدول المختلفة جمعوا فيها كثيرًا من تراثه؛ كالرسائل العلمية للخباص وعبد الباقي والخالدي، وجمع بعضهم مجموعة من مقالاته في كتب؛ مثلما جمع الدكتور صلاح الخالدي مقالات سيد قطب التي كتبها عن أمريكا، ونشرها كدراسة في كتاب بعنوان “أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب”، وقامت كثير من دور النشر بتتبُّع مقالات سيد قطب ونشرها في كتب مستقلَّة بعناوينَ يضعونها حتى يظنَّ القرَّاء أنها كتب لسيد قطب، وانتشرت كثير من هذه الكتب بهذه الطريقة الموهِمة، وسنذكر في آخر هذه الدراسة بعض هذه الكتب.
وهاك أهمَّ الكتب التي كُتبت عنه:
– سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، للدكتور صلاح الخالدي.
– سيد قطب حياته وأدبه، لعبد الباقي محمد حسين.
– سيد قطب الأديب الناقد، للدكتور عبد الله الخباص.
– سيد قطب أو ثورة الفكر الإسلامي، لمحمد علي قطب.
– العالم الرباني الشهيد سيد قطب، للعشماوي أحمد سليمان.
– رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب، للأستاذ يوسف العظم.
– سيد قطب من القرية إلى حبل المشنقة، لعادل حمودة.
والكتب الثلاثة الأولى هي أفضلها – في رأيي – فأصلها رسائل علمية، وأفضل الثلاثة أوَّلُها للدكتور صلاح الخالدي المتخصِّص في جمع آثار سيد قطب، الذي ناقش رسالته الأستاذ محمد قطب -الشقيق الأصغر لسيد قطب- وأثنى عليه وعلى رسالته.
دوره الأدبيُّ وتأثيره وعلاقته بالأدباء والمثقَّفين:
بعد أيام من وصول سيد قطب إلى القاهرة وإقامته عند خاله، عرَّفه على عباس محمود العقاد، فانبهر به وصار من مريديه، وداوم الحضور على ندوته الأسبوعية صباح كل جمعة لأكثر من ربع قرن، وانتظم مع خاله والعقاد الوفديَّيْنِ في حزب الوفد؛ ففتح له مجموعُ ذلك – خاله والعقاد والوفد – الأبواب إلى الصحافة، والدخول في الوسط الثقافي والأدبي وهو في الرابعةَ عشْرةَ من عمره، فيكتب في نقد أعمال الأدباء ويتابع إصداراتهم يكتب عنها ويعرِّف بها، حتى صاروا يهتمون بإرسال مؤلفاتهم إليه ليكتب عنها، مع إغرائه للتأثير على رأيه بما يُرضي الأديب مؤلِّف العمل! قال عن ذلك أثناء معركته مع جماعة أبوللو: “أريد أن أقصَّ على القرَّاء أحاديثَ دارت بيني وبين بعض الناس، ومحاولاتٍ بُذلت معي من بعض الأدباء؛ حتى أتأثَّر في نقدي للكتب والدواوين بهذه المؤثِّرات، ويأخذني الإغراء بهذه المغريات. ولقد سمعتُ بهذه الأحاديث، وأنصتُّ لتلك المغريات، وابتسمتُ لهذه وتلك على السواء، وسخرتُ بأصحاب هذه وتلك، ومضيتُ لنقدي لهذه الكتب والدواوين في صفحة الأهرام الأدبية على ما رسمتُ لنفسي من خطة، وعلى ما جمعتُ لنفسي من ملاحظات، في أثناء دراستي لتلك الكتب والدواوين”[22].
وقال عن خطته هذه: “وكان من أوَّل هذه المبادئ أن أنفيَ الأشخاص من دائرة تفكيري، وأن ألتفتَ إلى ما بين يديَّ من كتاب، كما كان منها ألَّا أكتب كلمةً واحدة قبل أن أدرس ما بين يديَّ، دراسة كاملة مستوفاة؛ إذ كنتُ أعلمُ ماذا يصنعُ نقَّاد الكتب، من قراءة العنوان والمقدمة والفهرست، ثم إصدار الأحكام”[23].
صورته في مخيِّلة الأدباء بسبب معاركه الأدبية:
المعارك التي خاضها سيد قطب، وكتاباته عامَّة، جعلت من يتابع مقالاتِه يحسبه على هيئة عظيمة الجسد؛ فهذا الأديب السوري الكبير على الطنطاوي، الذي دخل في معركة دفاعًا عن الرافعي ضد سيد قطب من دمشق، كتب عن مقابلته مع سيد قطب في القاهرة بمكتب أحمد حسن الزيات رئيس تحرير مجلة الرسالة في مقاله “العقيدة بين العقل والعاطفة”: “ذهبتُ مرَّةً أزور أستاذنا الزيات في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبَّ شيء إليَّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقربَ الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمُّها كلَّ يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها. أقول: إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شابًّا أسمر اللون لطيفًا هادئًا، تبدو عليه سيما المسالمة والموادعة والإيناس، فقال لي: إني أعرِّفك بالأستاذ سيد قطب، وأحلف أني شُدِهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشابُّ أيَّ إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أن أتخيَّل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقينًا بأن من الخطأ البيِّن أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضَّل فأهدى إليَّ كتابه “التصوير الفني في القرآن”؛ لأني لم أتخيَّل سيد قطب إلا مقارعًا محاربًا، ولم أعرفه إلا كاتبًا مجادلًا مناضلًا، يهاجم مهاجمًا ومدافعًا ومحايدًا، وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحًا –واللهِ- جديدًا، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادَّخره له، فلم يُعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه”[24].
وكتب أبو الحسن الندوي عن تصوُّره له قبل مشاهدته: “كنت أتخيَّله أديبًا في العقد الرابع من عمره، فارع القامة، عريض الْمَنْكِبين، قويَّ البنية”[25].
النقد الأدبيُّ والعلاقات الشخصية لدى سيد قطب:
كان سيد قطب مهتمًّا بعدم تأثُّر نقده الأدبي بعلاقاته الشخصية، ومن ذلك ما ذكره في مقاله بالرسالة “خواطر متساوقة في النقد والأدب والأخلاق”[26]، قال: “ولستُ كذلك ممن يخشون غلبة الملابسات الشخصية على الأمانة الأدبية في النقد -إذا أنا عرفت أشخاص المنقودين- ولا ممن يخشون اتِّهام بعض القرَّاء لي بأن لهذه الملابسات دخلاً في توجيه النقد، تحت تأثير الصداقات والخصومات، وقد وقفت قبل أحدَ عَشَرَ عامًا كذلك ألقي محاضرة عن “وحي الأربعين” ديوان الأستاذ العقاد في “رابطة الأدب الجديد”، فبدأتها بهذا التمهيد:
“أودُّ قبل أن أتحدَّث عن “وحي الأربعين” أن أعلن إليكم صداقتي لصاحب “وحي الأربعين”، وأن هذه الصداقة شرط أساسيٌّ للدراسة والنقد -ولاسيَّما نقد الشعر ودراسته- فأنت لن تستطيع فَهم الشاعر وتحليله حتى تتصل بقلبه وعقله، ولن يتاح لك الاتصال بهما حتى تكون صديقًا للشاعر، وحتى يكون بينكما توادٌّ وتعارف قديم، وربما جهد غيري في مثل هذا الموقف أن ينكر صلاته بالرجل الذي يتحدَّث عنه، أو ربما جهد أن يعلن إليكم أنه تخلَّص من صداقته، ليخلص إليكم برأيه البريء!
أما أنا فلا أنكر، وأما أنا فلم أحاول التخلص من هذه الصداقة، لا؛ بل إني لأعلن إليكم أنني اتصلت بالأستاذ العقاد لأستوضحه بعض النقط، ولأتأكَّد من بعض ما كنت في شكٍّ منه، ولست أخشى من هذه الصداقة -على أشدِّها- أن تؤثِّر في رأيي؛ لأن لي صداقةً أخرى أقوى من هذه الصداقة، وهي صداقتي لضميري، لا؛ بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى”.
اتهامه بمحاباة يحيى حقي:
وعندما مدح سيد قطب رواية الأديب الشاب يحيى حقي “قنديل أم هاشم”، اتهمه بعضهم بمحاباته؛ فقد قال الأستاذ “أحمد فؤاد الأهواني”: “ليس في “قنديل أم هاشم” ذلك التحليل العميق للنفس البشرية، حتى إذا نقلت القصة إلى لغة أجنبية نالت الإعجاب، ويبدو أن صداقة الأستاذ سيد قطب للمؤلِّف هي التي دفعته إلى تشجيعه، ومن آيات هذه الصداقة أنه يقول: أوه! يحيى حقي! أين كانت كل هذه الغيبة الطويلة؟ فيمَ هذا الاختفاء العجيب؟!”.
فردَّ عليه الأستاذ سيد قطب قائلاً: “وهناك حقيقة يجب أن أذكرها هنا؛ إنني لا أعرف يحيى حقي، لم ألقه مرة واحدة في حياتي، وأنا أودُّ أن أراه لأعنِّفه أقسى التعنيف على سكوته. إنني صديق لقنديل أم هاشم لا ليحيى حقي، ولست أقرِّر هذه الحقيقة لأهرب من تبعة ثَنائي عليه؛ فلو كان صديقي ما تغيَّر حكمي، وفي من كتبت عنهم أصدقاءُ ومعارف، وآخرون لا أعرفهم، ولم ألقهم في حياتي، وكلهم كتبت عنهم بروح واحدة؛ لأن النقد الفنيَّ يجب أن يكون موكلاً بالعمل الفنيِّ. وحتى العقَّاد نفسه وصِلَتي بشخصه معروفة، وصلتي بأدبه أوثق مرَّات من صلتي بشخصه -ولو فهم الكثيرون غير هذا- كتبتُ عنه في كل مرة بالعقيدة الفنية التي أعتقدها، وقد يبدو فيما كتبته أخيرًا عن “العقاد الشاعر” في “كتب وشخصيات” أنني أختلف معه في بعض الأحيان، على تعريف الشعر وتذوُّقه، وعلى النظر إلى العاطفة وأطوارها؛ ولكنه اختلاف الرأي والإحساس، الذي لابد أن يقع بين شخصية وشخصية، متى تبلورت الشخصيتان، وظهرت معالمها كاملة، ولو كانتا شخصيتَيِ التلميذ والأستاذ. أقرِّر هذه الحقيقة لأنها تنفعنا في عالم النقد، كما تنفعنا في عالم الأخلاق، وللأستاذ الأهواني شكري مرة أخرى، أن أتاح لي فرصة هذه الكلمات”[27].
وما ذكره سيد قطب من نقده للعقاد أظنه كان سبب الجفوة بينهما؛ فقد حدثت هذه الجفوة في هذه الفترة، واختلفت التحليلات في سببها، وظني ذلك لأن العقاد كان معتدًّا بنفسه لا يقبل النقد بسهولة؛ فكيف بمن كان ينظر إليه أنه من تلاميذه، حتى وإن صار كاتبًا وناقدًا شهيرًا ملء السمع والبصر؟! فبعد هذه الفترة حدث ما يشبه القطيعة بينهما.
ومن الأدباء والمثقفين والمفكرين الذين كان لسيد قطب علاقة بهم وكتب عنهم أو عاركهم أدبيًّا، أو نقدهم أو صادقهم: عباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعلي الطنطاوي، وأحمد حسن الزيات، وأحمد زكي أبو شادي، ومحمود تيمور، وعبد الحميد جودة السحار، وعبد القادر حمزة، وإبراهيم عبد القادر المازني، ويحيى حقي، ومحمد مندور، وأحمد أمين، وعبد المنعم خلاف، وعباس خضر، وطاهر أبو فاشا، وأنور المعداوي، ونجيب محفوظ، وغيرهم كثيرون.
وقد خاض معارك أدبية مع كثيرين، أشهرها معركته مع الرافعي –الذي يعتبره كثير من الإسلاميين أديب الإسلام- وكان فيها من الحدَّة ما فيها، ولم يتغيَّر رأيه السلبيُّ في أدبه بعد وفاة الرافعي، وبعد انتماء سيد قطب للفكر الإسلامي، وإن كان خفَّت حدَّته.
ومضمون رأي سيد قطب في أدب الرافعي ما قاله: “لي رأيٌ في المرحوم مصطفى صادق الرافعي؛ لعلَّ فيه شيئًا من القسوة، وكنت على ثقة أنَّ هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أيُّ عاملٍ خارجيٍّ؛ وإنَّما كان نتيجةً لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني… الرافعيُّ أديبٌ مُعْجِب، في أدبه طَلاوةٌ وقوَّة؛ ولكنه بعدُ أدبُ الذهن، لا أدبُ الطَّبع، فيه اللمحاتُ الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية التي تلوح للكثيرين أدبًا مُغْربًا عميقًا لذيذًا؛ ولكن الذي يَنقُصها أنه ليس وراءها ذخيرةٌ نفسية ولا طبيعةٌ حيَّة. لم يكن يعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة، بقدر ما يَعنيه أن يصوِّر الحقيقة الوقتية مُحكَمة النسج، رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها؛ ولكنها لا تلمس القلب أو يسيغها… وكثيرًا ما يختلط أدبُ الذهن وأدب الطبع، إذا كان مع ذكاءٍ وقوَّة، وما من شكٍّ أنَّ الرافعيَّ كان ذكيًّا قويَّ الذِّهن؛ لكنه كان مُغلَقًا من ناحية الطبع والأرْيحيَّة”[28].
وكما يتَّضِح من كلامه أنه ينتقد الرافعيَّ أدبًا وأسلوبًا لا اعتقادًا؛ فهناك من انتقد انتقاد سيد قطب للرافعي أديب الإسلام، ولم يتغيَّر رأيُ سيد قطب في أدب الرافعي بعد انتمائه للفكر الإسلامي كما ذكرنا؛ فعندما كتب الأستاذ أحمد الشرباصي مقالاً اعتبر فيه أن أسلوب الرافعي مستمدٌّ من أسلوب القرآن التصويريِّ، وأن الرافعي يعبِّر بالصورة الحسية عن المعاني الذهنية، ردَّ عليه سيد قطب بقوله: “لا أذكر أن هذا كان مأخذي على أسلوب الرافعي؛ بل أذكر أنه كان العكس؛ فقد كنت آخذ عليه الألاعيب الذهنية في التعبير، والجُمَلَ التي يَنبَعُ ذيلُها من رأسها، والعكس، والتي يحسبها القارئ ماشيةً “تَتَقَصَّعُ” وتضع يَدَيْها على خَصْرها على الطَّرس، وليس شيء من هذا كله بسبيل من ذلك الأسلوب القرآني”[29].
سيد قطب والعقاد:
امتدَّت علاقتهما أكثر من ربع قرن، وذكرنا قبلُ كيف بدأت العلاقة بينهما عن طريق خال سيد قطب “أحمد حسين عثمان” الأزهري الصحفي الوفدي، وكانت علاقة تلميذ بأستاذه الذي كان عَلَمًا من أعلام الأدب وسيِّد في صباه لم يدرك مرحلة الشباب بعدُ، فحدث انسجام بين الشخصيتين مع فارق العمر والخبرة بينهما، وتشابهت شخصيتهما في أمور؛ فكلاهما ذو مواهب متعددة في الشعر والنثر والنقد الأدبي، وكانا عضوين في حزب الوفد حتى أواسط الثلاثينيات ثم تركاه، ولم يتزوَّجا وإن كان سيد قطب قد خطب وذكر تجربته في روايته “أشواك”، وكلاهما كان معتدًّا بنفسه ذا شخصية قوية مؤثِّرة.
ولا شك أن ما ساعد على التقارب بينهما: الإعجاب المتبادل، ومكتبةُ العقاد الضخمة التي لزمها سيد قطب ينهل ويروي غليله منها، ويُعَدُّ سيد قطب التلميذ الأشهر للعقاد؛ فكل تلامذته ومريديه ذابوا في شخصيته يردِّدون آراءه، بينما سيد قطب كان له شخصية قوية مستقلة، يأبى أن يكون مجرد مردِّد لأفكار أستاذه أو نسخة منه أو ذائبًا في شخصيته، حتى إنه انتقد العقاد نفسه، وحدثت بينهما فجوة وقطيعة في الأربعينيات بعد علاقة قوية امتدَّت لربع قرن، بدأت بسيد مريدًا وتلميذًا للعقاد، وانتهت بالقطيعة.
لقد كان سيد قطب مغاليًا في العقاد متعصِّبًا له، يقول سيد: “فأنا لا أنكر أنني شديد الغَيرة على هذا الرجل، شديد التعصُّب له؛ وذلك نتيجةَ فَهم صحيح لأدبه، واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثِّر فيه أن تجفَّ العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان”[30].
وكان سيد قطب يعرِّف بأي إصدار يُصدره العقاد، ويكتب عنه في مقالاته؛ يقول الدكتور محمد رجب البيومي: “ثم والى العقاد إصدار كتبه المتتالية، فكان الأستاذ سيد قطب لا يترك منها مؤلَّفًا – شهد الله – دون أن يخصَّه بالتحليل والشرح، تحدَّث عن العبقريات، وعن “الصدِّيقة بنت الصدِّيق”، وعن “عرائس وشياطين”، وعن “شاعر الغزل”، وعن “هذه الشجرة”، في مقالات نقدية، كلُّها إطراءٌ وتقدير”[31].
وكما ذكرنا قبلُ في تقسيم سيد كبار الأدباء إلى مدارس، سمَّى مدرسةَ العقاد “مدرسة المنطق الحيوي”، يقول سيد: “كل ما قلته عن “حدود المدرسة الأدبية” في كلمة سابقة من هذه الكلمات، يمكِن تطبيقه بلا تحفُّظ على “مدرسة العقاد”؛ فهي مدرسة في الأدب كما أنها مدرسة في الحياة، يلتقي منها تلاميذها على سنن واضح ونهج صريح، ويجدون فيها تفسيرًا معيَّنًا للحياة والفنون، يشتمل نوع الإحساس ولون التفكير، وطريقة التعبير؛ بل يشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك، وتقويم الأشياء والأشخاص، وتقدير الحوادث والأعمال. وهي مدرسة متبلورة، واضحة السمات، لا يجد الناقد مشقَّة ولا عُسرًا في اختيار عنوان لها، يمثِّل ويلخِّص أكبر ما تستطيع العنوانات تمثيله وتلخيصه: هي مدرسة “المنطق الحيوي”، والنِّسبة هنا إلى “الحياة” وإلى “الحيوية” جميعًا… أستاذ هذه المدرسة الأعظم هو الحياة ذاتها، لا الفكر المجرَّد، ولا المنطق الذهنيُّ، ولا مواضعات المجتمع الاصطلاحية، ولا قواعد الخلق المتعارفة، ولا المذاهب الفنية المعنونة”[32].
ولا شك أن سيد قطب كان في بدايته معجبًا بالعقاد، منبهرًا به، منتصرًا له، مغاليًا فيه؛ فها هو يقول: “إنما انتصر العقاد لأنه يكتب في السياسة بإلهام من الوطنية، ثم يجنح بالوطنية إلى النزعة الإنسانية، وينفق في هذا كله من ذخيرة روحية لا تفنى. والحقيقة أن العقاد -مع هذا- مغبون أشدَّ الغَبن، في مدى شهرته، وفي نوع شهرته؛ مغبون لأنه في بيئة بينه وبينها عشرات الأميال من الفوارق والخطوات، وقلَّ فيها من يتابعه في سموقه، أو يترسم خطاه على بُعد المسافة، ومغبون لأنه ليس معروفًا بخير ما فيه؛ لأن خير إنتاجه، يتطلَّب قرَّاءً من نوع مفقود أو شبه مفقود، ولو فهم ذلك بعض من نفسوا عليه وحقدوا، لأراحوا بالهم بعض الشيء، أو لعلهم كانوا يزيدون عداء وحقدًا، ويخطئ الذين يحاولون أن يَدرُسوا العقاد -ولا أقول: ينتقدونه- وكلُّ محصولهم من الثقافة كتب لغوية درسوها، وكتب أدبية فهموها من آداب اللغة العربية؛ فليس العقاد أديبَ لغة وأديب أسلوب، حتى تكفيَ اللغة ويكفي الأدب الخالص في فَهمه؛ ولكن نتاج العقاد مجتمع ثقافات ودراسات قديمة وحديثة، عربية وغير عربية، مصهورة في بوتقة ونفس رحبة، وذهن مشرق، ومواهب تنتفع بالثقافة، وتعلو على حدود الثقافات. ولقد رَقِيتُ إلى محاولة استيعاب العقاد -وأفلحتُ إلى مدى- على درج من دراسات شخصية جمة، ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها، دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربية -على وجه التقريب- من الآداب الإفرنجية: قصة ورواية وشعرًا، ومن المباحث النفسية الحديثة: نظرياتُ العقل الباطن، والتحليل النفسي والمسلكية… إلخ، ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة، ومن مباحث علم الأحياء -بقدر ما استطعتُ- وما نُشر عن داروين ونظريته، ومن مباحث الضوء في الطبيعة، والتجارب الكيماوية، ومما استطعت أن أفهمه عن أينشتاين والنسبية، وعن بناء الكون وتحليل الذرة، وعلاقته بالإشعاع…”[33].
وقال الدكتور محمد رجب البيومي على كلام سيد قطب السابق: “هذا بعض ما أهَّل به سيد نفسه ليدرس العقاد، وإذا كان العقاد جبَّارَ الثقافة دون نزاع، فإنه قد أورث تلميذه شَرَهًا إلى المعرفة لا يُحَدُّ، وهو صادق حين يذكر هذه الفروع الدقيقة في اطِّلاعاته؛ لأنه يزور أستاذه في مكتبته الخاصة، ويرى سعة معارفه، فلا بد أن يجاريَه ما استطاع، ويا لها من همة!”[34].
لقد كان سيد قطب مغاليًا في العقاد متعصِّبًا له؛ فالعقاد هو الشاعر ودونه كل شعراء العالم، وهو أديب وفيلسوف العالم، ولا يدانيه كل أدباء العرب؛ ولكن لم يستمرَّ هذا الغلوُّ والتعصب في العقاد عند سيد قطب؛ بل كان في فترة بدايته ومرحلة بعدها، إلى أن عاد إلى شخصيته المستقلة واتِّزانها، ونَقَد العقاد بما له وما عليه.
وقد فتح تعصب قطب للعقاد عليه أبواب الخصومة والمعارك مع الأدباء الآخرين والمثقفين، وجعله يخوض معارك كان في غنى عنها لإثبات صورة العقاد في ذهنه والدفاع عنها، وهذا لم يكن يراه الآخرون؛ وإنما قدحوا وهاجموا تعصب ومغالاة قطب في العقاد، واتهموه بأنه تحوَّل إلى مردِّد لآراء العقاد وذابت شخصيته في شخصية العقاد، وأن العقاد هو الذي يدفعه لخوض المعارك الأدبية ويلقِّنه ما يقول، وسيد قطب يردِّد فقط، وظهر ذلك كله في المعركة الكبرى التي دارت حول أدب العقاد والرافعي، فكانت ردود تلاميذ الرافعي تدور حول تلك الاتهامات، ومنهم: محمود شاكر، وعلي الطنطاوي، ومحمد سعيد العريان وغيرهم.
وفي محنة العقاد عندما هاجم حزب الوفد بعنف وخرج عليه، فحاربه الحزبُ وكلُّ من له علاقة به، وانفضَّ عنه الكتاب والمثقفون خشية غضب الوفد، ظل سيد قطب وفيًّا لأستاذه مدافعًا عنه ومناصرًا ومهاجمًا خصومه، ولم يأبه بما سيناله من غضب، يقول سيد: “أما الدفاع عن العقاد، فيكلِّفني التعرُّض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ في هذه الوزارة، وفي كل وزارة، ومن بينهم كثيرٌ من رؤسائي في وزارة المعارف نفسها؛ لأن العقاد رجل لم تُبقِ له قولة الحق صديقًا من السياسيين، وكثيرٌ ممن يُظهرون صداقته يُكنُّون له غير ذلك؛ لأنهم يَنْفُسون عليه شموخَه واعتداده بنفسه، وتعاليَه على الضرورات.
ويكلِّفني خصومةَ الأدباء من المدرسة القديمة والحديثة على السواء، فأما أولئك، فسبب سخطهم معروف، وأما هؤلاء، فلأنهم يَنْفُسون على العقاد أن يعطيَه ناقدٌ بعض ما يستحقُّ من تقدير، ومَن لا يعرف هذه الحقيقة، فأنا -وقد أتاحت لي الظروف الاطِّلاع على داخلية كثير من الصحف والأدباء- أعرف ذلك، وأعرف أن الكلماتِ التي يقدَّر فيها العقاد لا تجد طريقها سهلاً للظهور في الصحف على اختلاف أهوائها ونزعاتها السياسية، واختلاف المشرفين عليها من الأدباء وغير الأدباء.
ويكلِّفني خصومةَ كثير من ناقصي الرجولة -وهم أعداء العقاد الطبيعيون- وكثيرٍ من ناقصي الثقافة الذين لا يفهمون العقاد، فيحمِّلونه تبعة عدم فَهمه، ولا يكلِّفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة، وكثيرٍ من مغلَقي الطباع الذين يَستغلِقون أمام كل أدب حيٍّ، وكثيرٍ وكثير ممن يؤلِّفون أكثرية القرَّاء في هذا البلد المنكوب.
وقد يفهم هؤلاء النفعيون أن للعقاد الآن نفوذًا ننتفع به؛ فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذًا نعم؛ ولكنه لا يستخدمه في قضاء المصالح وتنفيذ الأغراض؛ إنما يحتفظ به لنفسه في إبداء آرائه، واستقلال شخصيته، وتحطيم من يستحقُّ التحطيم، وبناء من يستحقُّ البناء، وذلك بغضِّ النظر عن طبيعتي الخاصة في الانتفاع بنفوذ الأصدقاء، ذلك الانتفاعُ الذي يبدو غير مفهوم، حينما كنت أناصر العقاد وهو خَصم الوزارات القائمة، وأوقِّع على ما أكتبه بإمضائي الصريح، في أحرج الأوقات”[35].
ويردُّ سيد قطب على اتِّهامه بذوبان شخصيته في العقاد وأنه حريص على استقلاليته، يقول: “ولست أخشى من هذه الصداقة -على أشدِّها- أن تؤثِّر في رأيي؛ لأن لي صداقة أخرى أقوى من هذه الصداقة، وهي صداقتي لضميري، لا؛ بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى، وأنا اليوم بعد أحدَ عَشَرَ عامًا كما كنتُ يومذاك بفارق واحد، وهو أنني لم أعد أعني اليوم -كما كنت أعنى يومذاك- بإعلان “صداقتي لشخصيتي وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى”.
إنني لم أَعُدْ أحرص اليوم على مقاومة الفناء في الشخصيات الأخرى؛ لأنني عدتُ أكثر اطمئنانًا لعدم الفناء، وإني لأعرف اليوم أن صيحتي يومَذاكَ إنما كانت صيحةَ الخائف الذي يحدِّث نفسه في الظلام، وينفي عنها الأوهام ليشعر بالاطمئنان!
لقد كنت أتحدَّث يومها عن العقاد، وكانت شخصية العقاد هي الشخصيةَ الوحيدة التي أخشى الفناء فيها، كنتُ أُحِسُّ هذا بيني وبين نفسي، ولقد ظلَّت هذه الخشية إلى وقت قريب، حينما بدأتُ أشعر أنني قد تخلَّصت، وأنني أنتفع بالعقاد؛ ولكنني لا أقلِّده، وأن لي طريقًا ألمح معالمه وأستشرف آفاقه، وأنني أتذوَّق بحسي، وأنظر بعيني، وأسمع بأذني، وإن كان للعقاد فضل التوجيه في الطريق العامِّ، عندئذ بدأت أسكت عن كل اتهام، وبدأت أتحدث عن أستاذية العقاد لي، وتلمذتي له، وبدأتُ أَسخَر من بعض شبَّان الجيل الذين يحسبون هذا مطعنًا، يوجِّهون إليَّ منه الغمزات، فأؤكِّد لهم التهمة التي يلمِّحون بها أو يصرِّحون”[36].
وأرى أن سيد قطب كان في بدايته وحداثة سنه منبهرًا بشخصية العقاد وأدبه وثقافته، ولا شك أنه بمرور الأيام وتقدمه في السن وزيادة ثقافته ووعيه، اختلفت نظرته للعقاد، وأخذ يوجه له النقد مثل الآخرين؛ ففي أول مقالات سيد قطب النقدية على صفحة الأهرام نقد ديوان العقاد الجديد حينها “هدية الكروان” مع “الينبوع” لأبي شادي، و”ديوان” لصالح جودت، وهذا ما لم يستسغه العقاد؛ أن يكتب عنه مع آخرين، يقول سيد قطب عن أثر مقالته هذه على العقاد: “فأما “هدية الكروان” فقلت عنها: إنها منتهى النضوج الفني للعقاد، وإنها سلمت من بعض أشياء كانت تغضُّ من الجمال الفني الكامل لبعض شعر العقاد، وهي ما أسميتُه “قسوة القالب”، وعَنِيتُ به أن يحتجن الشعور الطليق في ثوب أضيقَ وأقسى مما يلائم هذا الشعور الطليق… فأما العقاد، فهو ساخط حانق، ساخط لأني جمعت بينه وبين أبي شادي في مقال، وحانق لأن أقول شيئًا عن “قسوة القالب” في بعض شعر العقاد، وأقابلُه، فيعلن هذا السخط، وهذا التبرُّم، إنه لا يسلِّم بقسوة القالب في بعض شعره، ولا يبيح لي أن أوجِّه هذا النقد له؛ لأن منشأه هو قصوري عن فَهم شعره، وإن على الناقد أن يرتفع لمستوى الشاعر، وليس على الشاعر أن يهبط لمستواه! وكان العقاد مهتاجًا؛ ولكنني كنت هادئ الأعصاب، وذكرت له أن الناقد الذي يكتب محاضرته عن ديوان “وحي الأربعين” للعقاد، فيفهم دقائقه فَهمًا يرضى عنه العقاد، لا يَقْصُر عن فَهم “هدية الكروان”، وهي أسهل من “وحي الأربعين”، وافترقنا، وفي نفس العقاد شيءٌ أُحِسُّه؛ ولكني آسَفُ له، وإن كنتُ لا أنوي التأثُّر به”[37].
ويبدو أن هذه كانت مقدِّمةً للفجوة التي أدَّت إلى القطيعة بينهما بعد أكثر من عشر سنوات من هذا المقال، فصار سيد بعده لا يهتمُّ أرَضِيَ العقاد بما يكتبه أم لا؟ يكتب ما يعتقده وما في ضميره فقط، وهذا ما لا يقبله العقاد، الذي كان يعتقد أنه العبقريُّ الأوحد، ولا عبقريَّ سواه، والذي كان يخشاه كثير من النقاد خشية قلمه الْمُصلَت الحادِّ ولسانه القاسي؛ فكيف يفعلها تلميذه سيد قطب ولا يخشى سخطه؟!
انتقد سيد قطب فَهم العقاد للشعر والأدب في ثلاث مقالات موجزة، جعلها بعد ذلك في كتابه “كتب وشخصيات”، وخصص مقالة أخرى مطوَّلة خاصة لنقد شعر العقاد، جعلها فصلًا من الكتاب، هي: “العقاد الشاعر وأعاصير مغرب”[38]، قال فيها: “في وضح النهار يعيش العقاد قمته حين تبلغ الحيوية تدفُّقها، فتجرف المنطق الواعيَ، وتغطِّي عليه، فأما حين يضعف هذا التدفُّق، فيتجرَّد الشعر من اللحم والدم، ويخيَّل إليك أن مكانه ليس هنا في الديوان؛ ولكنه هناك في كتبه بين التأمُّلات الفكرية والقضايا المنطقية”[39].
وإن كان سيد قطب ينفصل تدريجيًّا ويستقلُّ عن مدرسة العقاد، فقد أعلن تخلِّيَه عنها عام 1948، حيث نشر مقالًا في مجلة الكتاب، في نقد ديوان “لزوميات مخيمر” للشاعر أحمد مخيمر أحد تلاميذ العقاد، قال فيه: “لقد آن لنا أن نفهم الشعر، لا على طريقة مدرسة شوقي وحافظ والمنفلوطي، ولا على طريقة مدرسة العقاد وشكري والمازني؛ فكلتاهما مرحلتان من مراحل التطور، قامتا بدوريهما في النهضة، وآن أن يخلفهما فَهم للشعر جديد. لقد قامت أولاهما على أساس أن الشعر جزالة تعبير، وجلجلة إيقاع، وابتداع أخيلة، وبراعة تناول، ومقدرة وأداء، وعلى الإجمال مهارة صناعة تعبيرية وتخييلية، ولا شيء وراء ذلك مما له علاقة بصميم النفوس، وحقائق الشعور، وقامت أخراهما على أساس أن الشعر صور حياة، وخلجات نفوس، وسمات شخصيات، وحقائق شعور، وهذا كله صحيح؛ ولكن هذه المدرسة عند التطبيق العملي لفَهمها للشعر، كانت طاقتها الشعرية أقلَّ من تصوُّرها للشعر، فجاء نتاجها الشعريُّ في عمومه ناقصَ الحرارة، غير مكتمل الشاعرية، وظلت -إلا قليلاً- تمتح من تصوُّرها الواعي للشعر، قبل أن تفيض من شعورها الكامن في الضمير، لم تفرق هذه المدرسة في نتاجها بين الفكرة الشعرية والإحساس الشعري… ولست أنكر فتنتي فترة طويلة من العمر بهذه المدرسة كفكرة، وفتنتي بنتاجها الأدبي كشعر، وتأثُّري بها، إلى الحد الذي أنفقت فيه شطرًا من عمري، وأنا أقول الشعر، لا أفرق فيه بين الفكرة الجميلة الشعرية، أعتنقها مذهبًا، والإحساس الجميل الشعري، ينبض به شعوري، ويعيش انفعالًا غامضًا في ضميري، ولم أجد نفسي إلا منذ عامين اثنين، أنتبه إلى الفارق الأصيل بين الفكرة الجميلة، والشعور الجميل، وأجد للشعر مذاقًا آخر غير ما سبق لي أن أحسسته، في نحو خمسةَ عَشَرَ عامًا أو تزيد”[40].
ونستطيع أن نحصر سبب الفجوة ثم القطيعة بين العقاد وقطب في جرأة سيد قطب في نقد العقاد وهو ما لا يقبله العقاد من أحد؛ فكيف بتلميذه، والثاني أن سيد قطب كان دائمًا يبحث عن الروح كما رأينا في كثير من نقده للأدباء والعقاد رجل فكريٌّ محض، وثالثها أنه كان معجبًا بجسارة العقاد السياسية، فعندما استجاب للضغوط السياسية، لم يتقبَّل سيد ذلك، وقد حكى أبو الحسن الندوي شيئًا من ذلك في حديثه عن لقائه بسيد قطب في القاهرة عام 1951م، فيحكي أبو الحسن الندوي عنه، قال سيد للندوي: “إن نفسي لم تزل متطلِّعة إلى الروح وما يتصل بها، وكنت في صغري مشغوفًا بقراءة أخبار الصالحين وكراماتهم، ولم تزل هذه العاطفة تنمو في نفسي مع الأيام، والأستاذ العقاد رجل فكريٌّ محض، لا ينظر إلى مسألة، ولا يبحث فيها إلا عن طريق الفكر والعقل، فذهبت أروي نفسي من مناهل أخرى، هي أقرب إلى الروح، ومن ثم عُنِيتُ بدراسة أشعار الشرقيين؛ كطاغور وغيره… إني كنت أعتقد أن مثل العقاد في عقله الكبير، وشخصيته العظيمة، لا يخضع للضرورات والملابسات؛ كالحكومة والسلطة؛ ولكنه سالَمَها”[41].
ونختم الحديث عن علاقة سيد قطب بالعقاد بما كتبه سيد عن تجربته تلك، قال لأحمد أمين: “ودعوني الآن أصارحْكم بتجربتي الخاصة، التي تركتْ في نفسي ذاتَ يوم مرارة، ومن أجل هذه المرارة لم أكتب عنها من قبلُ، حتى صفت روحي منها، وذهبت عني مرارتها، وأصبحت مجرَّد ذكرى، قد تنفع وتعظ… لقد كنتُ مريدًا بكل معنى كلمة المريد، لرجل من جيلكم، تعرفونه عن يقين، ولقد كنت صديقًا أو ودودًا مع الآخرين من جيلكم كذلك، لقد كتبت عنكم جميعًا بلا استثناء، شرحت آراءكم، وعرضت كتبكم، وحللتُ أعمالكم، بقدر ما كنت أستطيع، ثم جاء دوري، جاء دوري في أن أنشر كتبًا، بعد أن كنت أنشر بحوثًا ومقالاتٍ وقصائدَ، لقد جاء دوري في نشر الكتب متأخرًا كثيرًا؛ لأنني آثرت ألَّا أطلع المئذنة من غير سُلَّم، وأن أتريَّث في نشر كتب مسجَّلة، حتى أُحِسَّ شيئًا من النضج الحقيقي، يسمح لي أن أظهر في أسواق الناشرين… وأنا اليوم أحمد الله، على أنني خططت طريقي بنفسي مستقلًّا، وبجهدي خالصًا، لم يأخذ بيدي عظيم، ولم يقدِّمني إلى الناس أستاذ”[42].
حدثت القطيعة بينهما واتجه سيد قطب إلى الإسلام الفكري والحركي وهو ما يأباه ويُبغضه العقاد؛ ولكن ما حدث في فترة عبد الناصر من تدجين المثقَّفين وقهرهم ومواجهة سيد قطب وحده لعبد الناصر بجسارة كانوا يتابعون فصولها، يبدو أنها جعلت العقاد ينظر لسيد نظرة أخرى؛ فيقول الدكتور صلاح الخالدي: “العقاد يشيد بسيد قطب: افترقت طريق الرجلين العقاد وسيد قطب، واتجه سيد إلى الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي، وانتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين، وجرى له ما جرى من المحن، ووقف أمام الطواغيت والظلمة مواقف عظيمة، وبَذَل من التضحيات في سبيل الله ما بذل، وكان العقاد يتابع أخبار سيد بإعجاب وإكبار، وقد أخبرني الأستاذ محمد قطب أن العقاد في أواخر حياته كان يُشيد بسيد ويُثني عليه، ويُبدي إعجابه به وإكباره له؛ لمواقفه الجهادية من الطواغيت، وتحدِّيه لهم، وصبره على ما يواجهه بسبب ذلك. كان العقاد يُظهر ذلك في مجالسه الخاصة، ويخبر به خاصَّةَ زوَّارِه، ومعلوم أن العقاد توفِّي قبل استشهاد سيد قطب بفترة قصيرة”[43].
علاقته بطه حسين:
أما علاقته بطه حسين فكانت وثيقة، فهناك العلاقة الأدبية، إضافة للعلاقة الوظيفية؛ ففي الأربعينيات التقيا بوزارة المعارف وظيفيًّا لمدة عامين، كان سيد موظَّفًا في مراقبة الثقافة العامة في الوزارة، وطه حسين مستشارًا للوزارة[44].
وآزَرَه ودعمه طه حسين حينما أراد سيد أن يستقيل بسبب خلاف مع وزير المعارف “أحمد نجيب الهلالي”، وأقنعه بالعدول عن الاستقالة وأنه مستعدٌّ لإحداث أزمة من أجله، وحكى ذلك سيد قطب في مقال له بمجلة الرسالة نقتبس منه قوله: “وقررتُ أن أستقيل! وأباها الرجل الأرْيحيُّ الدكتور طه حسين، وقال: لن تصنعها وأنا هنا في الوزارة! قلت: ولكنني لن أخضع لأهواء الوزراء، واجهوني بما يقال عني، ثم اصنعوا ما تشاؤون، وسأصنع كذلك ما أشاء!
قال: وإذا استقلت فماذا تصنع وأنا أعرف أعباءك الثقال؟ قلت: أصنع ما يتهيَّأ لي؛ فلست من عجزة الديوان. قال: لن تستطيع أن تصنع شيئًا في هذه الأيام؛ فالأحكام العُرفية تملك أن تنقلك إلى أيِّ مكان، وأن تلزمك الإقامة في هذا المكان، حتى لو استقلت من الحكومة، فخير لك أن تقيم فيه موظَّفًا، ولا تقيم فيه منفيًّا!
قلت: معذرة يا سيدي الدكتور؛ فإني أفضِّل أن أقيم هناك منفيًّا! ثم.. ثم.. إنني سأكون بطلاً في عهد الوزارة القادمة! ولم لا؟ ألم تتدهور البطولة عندنا حتى صارت تكتسب بالنقل إلى جهة نائية في عهد من العهود، أو بالتخلُّف عن درجة استثنائية كالزملاء!
… قلت: لقد اعتدتُ أن أنشر آرائي، وأن أوقِّعها بإمضائي؛ فليس من عادتي أن أثرثر في المجالس بشيء، أو أن أعمل في الخفاء!
قال: وأنت عندي مصدَّق؛ فدع لي الأمر، وسأحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال”[45].
يدلُّ ذلك على الصلة الوثيقة بينهما، أما العلاقة الأدبية، فكانت صلةَ أديب شابٍّ بأديب من الأدباء الشيوخ، لا علاقة تلميذ بأستاذه كما هي علاقته بالعقاد، فكان يعتبره صاحبَ مدرسة أدبية سمَّاها سيد “مدرسة الأسلوب التصويري”، يقول سيد: “ونستطيع أن نطلق على مدرسة الدكتور طه حسين اسم “مدرسة الأسلوب التصويري”؛ فالدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة، أدواته فيها الكلمات والجمل، لوحات للمناظر، وللحوادث، وللمعاني، وللخطرات النفسية، والالتفاتات الذهنية، على السواء، وتلك مَزيَّته الكبرى كصاحب شخصية أدبية. والدكتور طه صاحب موهبة في هذا وصاحب طريقة، فأما تلاميذ مدرسته فقد أخطأتهم الموهبة واتَّبعوا الطريقة، أخطأتهم موهبة التصوير واتبعوا طريقة التعبير؛ ولهذا يجوز أن نعود فنستدرك شيئًا، وهو أن مدرسة الدكتور طه حسين، هي الدكتور طه حسين نفسه، ثم محاولاتٌ لم تبلغ بعدُ حدَّ النضوج، ولم يوجد فيها صاحب الطبيعة الموهوبة هذه الهبة الخاصة؛ بل لم يوجد فيها من يدرك سرَّها الأول وهو طبيعة التصوير؛ لأنهم جميعًا يفهمون أن هذا السرَّ كامن في طريقة التعبير…”[46].
وكان يتابع نتاج طه حسين بوصفه ناقدًا أدبيًّا، يعرِّف به وينقده في مقالاته، وأهدى كتابه “طفل من القرية” لطه حسين إعجابًا بكتابه “الأيام”، كتب في صفحة الإهداء: “إهداء.. إلى صاحب كتاب الأيام الدكتور طه حسين بك. إنها يا سيدي أيام كأيامك، عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك مشابه، وفي سائرها عنها اختلاف. اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة؛ بل بمقدار ما يكون بين طبيعة وطبيعة واتجاه واتجاه؛ ولكنها – بعد ذلك كله – أيام من الأيام.. سيد قطب 1/7/1945”.
أما عن الخلافات والمعارك بينهما، فحين أصدر طه حسين كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” فأثار ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية، نقده سيد قطب في بحث مطوَّل في مجلة دار العلوم، ثم طبعه في كتاب “نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر”، قال في مقدمته ص 8: “وفي هذا الكتاب ما نوافق فيه الدكتور أشدَّ الموافقة، وفيه ما نخالفه فيه أشدَّ المخالفة، وفيه ما يحتمل الأخذ والردَّ والزيادة والنقصان”.
وعندما أُسندت وزارة المعارف لطه حسين كان سيد قطب في أمريكا، فراسل أصدقاءه وزملاءه بالوزارة يطمئنُّ عليهم في عهده، ومدحه رغم معركة الشبَّان والشيوخ حامية الوطيس التي وقعت بينهما عام 1947م، فكتب لأنور المعداوي: “وأشرت إلى ما بيني وبين الدكتور طه، إنني أعتقد على أية حال أنه من الخير للبلد أن يكون هذا الرجل في وزارة المعارف”[47].
والمعركة الحادة التي أشرنا إليها انطلقت شرارتها الأولى بهجوم شديد من طه حسين على الأدباء الشبان في مجلة الهلال[48]، ولم يكن في هذا الجيل من يستطيع مطاولة طه حسين بما له من شهرة ونفوذ وردَّ هجومِه إلا سيد قطب، الذي ردَّ عليه بهجوم أدبيٍّ قاسٍ في مجلة العالم العربي[49] فهاجم الأدباء الشيوخ بمقال “بدء المعركة: الضمير الأدبي في مصر، شبان وشيوخ”، وقد أحدث هجوم سيد قطب وإدانته للشيوخ بالغ الأثر في مصر والعالم العربي وتُرجم المقال للإنجليزية، ولم تستمرَّ المعركة، فلم يردَّ طه حسين على الهجوم العنيف من سيد قطب، وترك سيد قطب مجلة “العالم العربي” بعد ذلك المقال.
وكان ثَمَّةَ معركةٌ أدبية حادَّة أخرى دارت رحاها على صفحات “الأسبوع” عام 1934م بين سيد قطب ومجموعة من الأدباء، منهم أدباء جماعة أبوللو وطه حسين، من كلامه فيها لطه حسين: “على أيٍّ يا دكتور: أنت خبيث – ورزقي على الله – وليس هذا الخُبث عيبًا فيك تبرأ منه؛ بل ربما كان أحد العناصر الممتازة التي دفعت بك إلى مركزك الذي تتبوَّأه الآن بين المصريين”[50].
علاقته بتوفيق الحكيم:
كانت علاقته بتوفيق الحكيم وثيقة، وقرأ سائر نتاجه الأدبي، وجعله صاحب مدرسة أدبية سماها “مدرسة التنسيق الفني”؛ فقد تحدَّث عن عناء النقد والمدارس من وجهة نظره في مجلة الرسالة، قال: “وبعدُ؛ فالنقد ضريبة وتضحية، فما أحسب الناقد في الشرق العربي إلا خاسرًا لو المسألة بالقياس إلى نفسه. إنه لا يُرضي أحدًا إلا القليلين، وإنه ليُنفق من الجهد ليقول شيئًا ذا قيمة أكثر مما يُنفقه في أيِّ فنٍّ آخر من الفنون الأدبية، فكتابة مقال تستأديه على الأقلِّ قراءة كتاب، أو عشرة كتب، أو عشرين في بعض الأحيان. لقد صنعتُها حينما كتبتُ في “الرسالة” منذ عامٍ أربعةَ فصول عن الدكتور طه حسين و”مدرسة الأسلوب التصويري”، والأستاذ توفيق الحكيم و”مدرسة التنسيق الفني”، والأستاذ المازني و”طريقة الحركة الحيوية”، والأستاذ العقاد و”مدرسة المنطق الحيوي”، ولقد كلفتني كل مقالة قراءة كل كتاب لهؤلاء الأربعة، ومعظم ما كتبوه من مقالات، ولم أكن لأزيد على هذا الجهد شيئًا لو اعتزمت أن أؤلِّف عنهم كتابًا، وكل ما يعزِّيني عن هذا الجهد أن هؤلاء الأربعة، هم مع آخرين، هم عندي اليوم موضوع كتاب”[51].
وتحدَّث سيد قطب عن رأيه في توفيق الحكيم نفسِه قائلاً: “يجنح توفيق الحكيم إلى أن يعيش في داخل نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، فلا تُهِمُّه الحياة المنطلِقة في الخارج كما تهمه الحياة التي يصوِّرها خياله كما يريد، وهنا تولد وتعيش تلك المخلوقات الفنية التي يَرسُمها على هواه من أمثال شهرزاد وشهريار وبيجماليون وعنان ومختار… إلخ. فما منشأ هذا؟ منشؤه هو إشفاق توفيق من الحياة، وضعفُ الحيوية في كِيانه الجسديِّ، وقد يكون هذا الضعف علَّةَ ذلك الإشفاق؛ ولكن مما لا شكَّ فيه أن هناك أسبابًا أخرى في نشأته”[52].
ويتَّضِح ما وصل إليه الأستاذ سيد قطب من قيمة نقدية لدى الكتَّاب أن توفيق الحكيم أرسل إلى سيد عندما كان في أمريكا – على ما في ذلك من مشقَّة حينها – كتابه الجديد “الملك أوديب” هدية ليذكر رأيه فيه ويكتب عنه، فردَّ عليه برسالة نُشرت في عددين متتاليين في مجلة الرسالة بعنوان “إلى الأستاذ توفيق الحكيم”، ومما قال فيها: “صديقي الأستاذ توفيق الحكيم، شكرًا لك على هديتك الكريمة؛ كتابك الجدير “الملك أوديب”، إنها شيء عزيز ثمين بالقياس إلى هنا في تلك “الورشة” الضخمة السخيفة، التي يسمونها “العالم الجديد”! لقد استروحتُ في كلمة الإهداء: “ممن يذكركَ دائمًا” نسمة رخيَّة من روح الشرق الأليف -فالذكرى هي خلاصة هذه الروح- وما كان أحوجني هنا إلى تلك النسمة الرخيَّة. إن شيئًا واحدًا ينقص هؤلاء الأمريكيين -على حين تذخر أمريكا بكل شيء- شيء واحد لا قيمة له عندهم؛ الروح… أردت فقط أن أقول لك: كيف كانت هديتك لي في “العالم الجديد”؟!
أشعر بأنني أردُّ لك بعض جميلك حين أحدِّثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثِرًا هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليست بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات، وليس لديَّ الوقت أيضًا؛ إنما يشجِّعني إلى الكتابة اللحظة أنني أستحضر شخصك في خيالي، وأبادلك حديثًا بحديث، ليس فيه كلفة التحضير، ولا تعمُّل الفكرة، ولا اصطناع الأسلوب… ما لي أُحِسُّ -أيها الصديق الكريم- كأنك خائف قَلِقٌ من ذاكرة التاريخ؟ ذلك الخوف وهذا القلق اللذان يدفعانِكَ دفعًا إلى تسجيل دورك بقلمك في خط التمثيلية العربية؟ أحب أن أطمئنك منذ اليوم على أن التاريخ الأدبيَّ لن ينسى لك دورك الأساسي الذي قمتَ به في وضع “القالب الفني” للمرة الأولى في تاريخ الأدب العربي للرواية التمثيلية، وصنعه على أساس فني صحيح، وإلا فإن محاولاتٍ كثيرةً قد سبقتْك لوضع هذا القالب… إلى أن جئت أنت فوفِّقتَ نهائيًّا لتكوين قالبٍ فنيٍّ للحوار يحمل فكرة تُدخِله في باب الأدب، وينهج نهجًا لم يلحقك فيه إلى اليوم أحد، ولست أدري متى يظهر التالي لك، أو المتفوِّق عليك، فيه؟
هذا دورك الذي لن يُنسى، دور في “تاريخ التطور الفني”، أما نصيبك الذي سيبقى في باب “القيم الفنية المطلقة”، فأخشى أن أقول: إنك لم تقم به؛ لأنك -في باب التمثيليات- لم تهتدِ بعدُ إلى النبع الأصيل الذي تستسقي منه روحك العميقة لا فكرك الواعي، فتنشئ عملاً خالدًا فيه حياة وروح. لقد اهتديتَ أحيانًا إلى النبع -ولكن في باب غير باب التمثيلية- في: “نائب في الأرياف”، وفي “عودة الروح”، وفي لمحات متفرقة في “زهرة العمر”، وبعض كتبك الأخرى. أما في باب التمثيلية، فلم يكن لك -غير القالب الفني- شيء يبقى، اللهم إلا خفقات ضائعة مخنوقة في ركام أجنبي غريب.
معذرة يا صديقي، فذلك وجه الحق فيما أرى، وستعلم بعد قليل لماذا أرى…
وقد تكون أنت نفسك ذلك الفنانَ الأصيل الموهوب في عمل فني جدير، حينما تهتدي إلى النبع الأصيل المخنوق في نفسك تحت ركام من الثقافة الغربية الطاغية. إنني لا أعيب الثقافة؛ فهي أمر لابدَّ منه اليوم لتكوين الأديب؛ ولكن الذي أعنيه أنك -أيها الصديق- شأنك في هذا شأن ذلك الجيل كله من الشيوخ، تستلهم ثقافتك الفنية الغربية، قبل أن تجد ذاتك الأصلية. من هنا يفقد فنُّك -كما تفقد أعمالكم جميعًا- ذلك الطعم الخاصَّ الذي يتذوَّقه القارئ في آداب كل أمَّة، والذي يميِّزه عن آداب الأمم الأخرى. إنكم لا تجدون أنفسكم في خضمِّ ثقافتكم، إنكم تمتحون من رؤوسكم أكثر مما تستوحون قلوبكم، وهذا هو العنصر الخطر عليكم جميعًا. إنك تهتدي إلي النبع في مقدمتك، ولكن بذهنك الواعي، لا بشعورك الغامض؛ لهذا يخطئك التوفيق عند التطبيق…
لقد اتَّجهتَ وأنت تحاول وضع القالب الفني للتمثيلية المصرية إلى الأساطير الإغريقية تستلهمها موضوعاتك، لماذا؟ لأن نشأة المسرح كانت إغريقية، ولأن الأوربيين -وهم ورثة الإغريق- قد جعلوا المسرح الإغريقي والتمثيلية الإغريقية والأساطير أساسًا لأعمالهم؛ ولكنك أنت يا سيدي لستَ من ورثة الإغريق، لا أنت ولا شعبك الذي تعيش فيه، قد تكون من ورثتهم بثقافتك وقراءتك، ولأن هذه قشرة رقيقة لا تنشئ فنًّا خالدًا أصيلاً. (ما من شيء أقوى من الميراث، إذا كان للخلود يدٌ، فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، كما تقول). إنك في حاجة لأن تستلهم وراثتك الأصلية المتغلغلة في ضميرك آلاف السنين ومئات الأحقاب، لا أن تستلهم ثقافتك الطارئة في عمرك الفردي المحدود، هنالك النبع يا صديقي لو شئت لأعمالك الخلود… إن الأسطورة لا تعيش في دمائكم، وفي دمك أنت بالذات المصريِّ بوجه خاصٍّ، إنها لم تَنبَع من ضمير شعبك، إنها لم تصاحب تاريخك، فكيف تنشئ منها أدبًا له حياة؟… فأنت -يا صديقي- بضميرك المصري القديم لا تعيش في نفسك هذه الأسطورة الإغريقية، وأما الإسلام فينبذ نهائيًّا فكرة الشهوة والظلم عن ذات الله، وقد بيَّنتَ أنت نفسك أن فكرة القدر في الإسلام لا تتَّفِق مع الفكرة الإغريقية. فأنت -يا صديقي- بضميرك الإسلامي الحديث، لا تعيش هذه الأسطورة الإغريقية”.
ثم يشير إلى رأي طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر”: “ولا تؤمِنْ بما يقوله الدكتور طه -مسَّاه الله بالخير– ويردِّده، من أن مصر إغريقية التفكير؛ لأن مدرسة الإسكندرية القائمة على أساس الفلسفة الإغريقية تركت آثارًا عميقة لا تُمحى! لا تؤمنْ بهذا؛ فإنما هذه هي فتنة الدكتور الكبرى بالإغريق!”[53].
وفي العدد التالي من مجلة الرسالة نشرت تكملة رسالته: “لكأنما أسمعك تقول في عتب يشوبه الألم والغضب: لماذا تنسى أنني من قبلُ قد عالجت: “أهل الكهف” و”شهرزاد” و”سليمان الحكيم”، وكلها موضوعات إسلامية أو شرقية، ولم تكن محاولاتي قاصرةً على “أوديب” و”بيجماليون” و”يراكسا”؟! شيئًا من التمهل يا صديقي الكبير؛ أتَذكُر على أيِّ أساس عالجتَ هذه الأساطير الشرقية؟ لقد عالجتَها على الأساس الذهني، فكرة تناضل فكرة؛ أفكار مجرَّدة تتحرَّك على “مسرح الذهن”، كما أُلهمت أنت أن تسمِّيَه!
إن عبقرية الشرق الأصلية لم تكن مجرد عبقرية ذهن تجريدية؛ لقد كان الذهن قوَّةً من قوَّاتها؛ ولكن لم يكن قوامها الأصيل؛ إنها أبدًا كانت عبقرية حس حيٍّ أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعًا حيًّا متوفِّزًا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانًا. إن عبقرية الذهن التجريدية عبقرية غربية، وعلى وجه خاصٍّ عبقرية فَرنسية. آه يا صديقي! ليتك لم تذهب إلى فرنسا”.
وختمها بنصيحته للحكيم: “والآن يا صديقي هل أدلُّك على النبع؟ لقد قال لك أستاذك الفرنسيُّ كما قلتَ في “زهرة العمر” وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية: “اكتب بلغتك لتبدع”. هذا هو نفسه ما أقوله لك: استوح “ميراثك” لتبدع! إن هذا الميراث هناك كامن في ضميرك، تَخنُقه ثقافتك الفنية الفرنسية، إنك تبعد عنه كلما ذهبت إلى الإغريق وغير الإغريق تستلهم أساطيرهم القديمة، إنك مصري، مصر القديمة الغائرة في أعماق التاريخ، السارية في ضمير الزمن، مصر هذه ما تزال كامنة في مصر الحديثة التي تعيش في ثوب مستعار، مصر القديمة بأساطيرها هي نبعك الشخصي العميق، ولن تحتاج إلى رحلة وراء آلاف السنين، ما عليك إلا أن تعيش مفتوح القلب والحس والعين في ريف مصر وفي أحيائها العامة، دعك من “سليمان باشا” و”الزمالك”، و”المعادي” و”الدقي”، هذه رقع مستعارة في الثوب الأصيل، هذه لطخ شوهاء في اللوحة المتناسقة. افتح قلبك وحسَّك وعينك، ثم اقرأ شيئًا عن مصر القديمة ولاحظها ما تزال حيَّةً في ضمير الشعب وعاداته وسلوكه، ثم اكتب. خذ القالب الأوربي، القالب وحده؛ ولكن صوِّر في هذا القالب الضمير المصري، بروح مصرية، وحاول أن تهتديَ إلى عبقرية الشرق الأصلية، وهي ليست مجرد عبقرية الذهن التجريدية”[54].
علاقته بنجيب محفوظ:
كان سيد قطب يعرِّف بإنتاج الأدباء الشبان حينها، الذين كانوا يعامَلون بقسوة من الأدباء الشيوخ، فيتجاهلون نتاجهم الأدبي ولا يكتبون عنه، أو يتهكمون عليهم ويسخرون منهم، ولا أدلَّ على ذلك مما حدث للشاعر إبراهيم ناجي الذي ذاعت شهرته وغنَّت له أم كلثوم، عند صدور ديوانه الأول “وراء الغمام” عام 1934م، سخر منه طه حسين قائلاً عبارته الشهيرة في شعر ناجي: “إنه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه”، وعاب العقاد على شعر ناجي أنه “يميل إلى الرقة العاطفية”، حتى اتهمه بالسطو على شعره والاقتباس منه، والقصة مشهورة لن نطيل بتفاصيلها، المهم كان لهذا النقد العنيف من طه حسين والعقاد أثره السلبي على ناجي، فغادر البلاد وهاجر إلى لندن مدة طويلة.
ودخل سيد قطب في معركة الشيوخ والشبان حامية الوطيس وانتصر للشبان، وكان له الفضل في تسليط الضوء على جيلهم وإمكاناته، وعلى كثير من أدبائه؛ كيحيى حقي الذي اتُّهِم سيد قطب بمحاباته، فردَّ بأنه لا يعرفه أصلاً – كما ذكرنا قبلُ – وكتب عن نجيب محفوظ الذي كان أديبًا مغمورًا، فعرَّف به الناس، وقدَّمه للقرَّاء، وأشاد بموهبته، ودافع عنه حتى أَشهَره وعرفه الناس، فكتب سيد عن رواية “خان الخليلي” في مجلة الرسالة قال: “هذه هي القصة الثالثة للمؤلِّف الشابِّ، سبقتها قصة “رادوبيس” وقصة “كفاح طيبة”، وكلتاهما قصتان معجِبتان مستلهمتان من التاريخ المصري القديم؛ ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحقُّ أن تفرد لها صفحة خاصة في سجلِّ الأدب المصري الحديث، فهي منتزَعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر، وهي ترسم في صدق ودقَّة، وفي بساطة وعمق، صورةً حيَّة لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الأخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبأفكارها وملابساتها، ولا ينقص من دقَّة هذه الصورة وعمقها أنها جاءت في القصة إطارًا لحوادثها الرئيسية، وبيئة عاشت القصة فيها؛ ولكن هذا كله ليس هو الذي يقتضي الناقد أن يفرد لهذه القصة صفحة متميِّزة في كتاب الأدب المصري الحديث. إنما تستحقُّ هذه الصفحة لأنها تسجِّل خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قوميٍّ واضح السمات، متميِّز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية -مع انتفاعه بها- نستطيع أن نقدِّمه مع قوميته الخاصة على المائدة العالمية، فلا يندغم فيها، ولا يفقد طابعه الإنساني العامَّ، ويساير نظائر في الأدب الأخرى. وهذه الظاهرة حديثة العهد في الأدب المصري المعاصر لم تَبرُز وتتَّضح إلا في أعمال قليلة من بين الكثرة الغالبة لأعمال الأدباء المصريين، وهي في هذه القصة أشدُّ بروزًا وأكثر وضوحًا، فمن واجب النقد إذن أن يسجِّل هذه الخطوة ويزكِّيها…”[55].
ومع ما كتبه سيد قطب عن نجيب محفوظ، تجاهَلَه الأدباء الشيوخ، ولم يهتموا به، فكتب سيد قطب مهاجمًا تجاهُل الأدباء الشيوخ للشبَّان أمثال نجيب محفوظ، ومدافعًا عن هذا الجيل من الأدباء الشباب، فكتب عن رواية “القاهرة الجديدة” لنجيب محفوظ قائلاً: “من دلائل غفلة النقد في مصر التي تحدَّثتُ عنها في كلمة سابقة، أن تمرَّ هذه الرواية القصصية “القاهرة الجديدة” دون أن تثير ضجَّة أدبية أو ضجة اجتماعية؛ ألأن كاتبها مؤلف شاب؟ لقد كان توفيق الحكيم قبل خمسةَ عَشَرَ عامًا مؤلِّفًا شابًّا عندما أصدر أولى رواياته التمثيلية “أهل الكهف” فتلقَّاها الدكتور طه حسين، وأثار حولها فرقعة هائلة، كانت هي مولدَ توفيق الحكيم الأدبيَّ، ولم يمنع كونُه في ذلك الحين شابًّا من إثارة ضجة حوله، أبرزت أدبه للناس فانتفعوا به، كما انتفع هو نفسه لأنه وجد الطريق بعدها مفتوحًا أمامه للنشر والشهرة. و”القاهرة الجديدة” شأنها شأن “خان الخليلي” للمؤلِّف نفسِه لا تقلُّ أهمية في عالم الرواية القصصية في الأدب العربي عن شأن “أهل الكهف” و”شهرزاد” لتوفيق الحكيم في عالم الرواية التمثيلية. فماذا حدث؟ هل صحيح أن الملابساتِ الشخصيةَ كانت أهمَّ العوامل التي جعلت الدكتور يكشف عما في توفيق الحكيم حينذاك من ذخيرة فنية؛ ذلك أن ألقى توفيق بنفسه وبأدبه المغمور إذ ذاك في أحضان الدكتور قائلاً: إنه يضع نفسه وفنَّه ومستقبله بين يدي “عميد الأدب”، وأن نجيب محفوظ وأمثاله من شبان هذه الأيام لا يضعون أنفسهم ولا فنَّهم بين يدي أحد إلا جمهور القرَّاء…”[56].
لابدَّ أنك تلحظ – أيها القارئ الكريم – فضل سيد قطب على نجيب محفوظ ويحيى حقي وهذا الجيل من الأدباء الشباب حينها، في فترة كان يسيطر الأدباء الشيوخ على الساحة الأدبية، ولولا جرأةُ سيد قطب عَلَمِ النقد في هذه الفترة، الذي كان ينقد الجميع، ويخاطبهم بجرأة، وكلُّهم يُجلُّون قدرَه ويرحِّبون بنقده أعمالهم، لَمَا علا هؤلاء الشبان في هذه الفترة؛ فمن كان يستطيع مهاجمة الأدباء الشيوخ حينَها مع شهرتهم ونفوذهم؛ لتجاهلهم الأدباء الشبان، ويدافع عن هؤلاء الأدباء الشباب؟! هل كان سيجد نجيب محفوظ وجيله موطئ قدم في هذه الساحة الملغَّمة، لا شكَّ أن نجيب محفوظ كان يدرك فضل سيد قطب عليه، وقد حكى لي أحد حرافيشه أنه كان لا يسمح بتوجيه نقد لسيد قطب أمامه، ويشير إلى فضله عليه.
وقد كتب نجيب محفوظ عن كتاب “التصوير الفني في القرآن” لسيد قطب مقالاً في مجلة الرسالة أخذ يكيل فيه المدح، حتى قال له: “قد بارك القرآن مجهودك، فرفعك إلى مرتقى يتعذَّر أن يبلغه ناقدٌ بغير بركة القرآن”، يقول نجيب محفوظ مخاطبًا سيد: “قرأت كتابك “التصوير الفني في القرآن” بعناية وشغف، فوجدت فيه فائدتين كبيرتين:
أولاهما للقارئ: خصوصًا القارئَ الذي لم يُسعده الحظُّ بالتفقُّه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته؛ بل حتى هذا القارئ الممتاز لاشكَّ واجدٌ في كتابك نورًا جديدًا، ولذَّةً طريفة؛ ذلك أن كتابًا خالدًا كالقرآن لا يُعطي كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظُّه من الذَّوق، وقدرة في البيان؛ فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمة عملها، والمهمُّ أنك وفِّقتَ لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معًا، مستعينًا بهذه المقاييس الفنية التي يَأْلَفها المعاصرون ويحبُّونها ويسيرون في وادي الفن على هداها ونورها. إن عصرنا -من الناحية الجمالية- عصر الموسيقا والتصوير والقصة، وها أنت ذا تبيِّن لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقا والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع؛ ألم نقرأ القرآن؟ بلى، وحَفِظنا في زمن سعيد مضى ما تيسَّر من سُوَره وآياته، وكان -وما يزال- له في قلوبنا عقيدة، وفي وِجداننا سِحْرٌ، بَيْدَ أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تُحسُّه الحواسُّ، ويهتزُّ له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوُّق، كان كالنغمة الْمُطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته، فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدلُّه على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويُجلي له أسرار السحر ومفاتن الإبداع، كان القرآن في القلب، فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعًا… فكان هذا الفصل الذي بلغت به أنت أيضًا الذِّروة في النقد والذوق والفَهم، كنت أودُّ لو أستشهد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجزة، ويأباه ذوقي الذي يأبى المفاضلة بين آي الذكر على أي وجه من الوجوه، ومهما يكن من أمر فينبغي أن أقرر هنا أنه في فصلَيِ “التناسق الفني” و”القصة في القرآن” قد بارك القرآن مجهودك، فرفعك إلى مرتقًى يتعذَّر أن يبلغه ناقدٌ بغير بركة القرآن.
أما أخرى الفائدتين، فهي لك أنت؛ لأن الكتاب في جملته إعلانٌ عن مواهبك كناقد، إنك تستطيع أن تعبِّر أجمل التعبير عن أثر النص في نفسك، ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسه، وما يحفل به من موسيقا وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقا أنغامها وضروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها، وتستأدي الحياة حرارتها وحركتها، ولا تقنع بهذا كله، فيقرن ذهنك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصًا حيًّا ذا غاية واضحة، وسياسة بارعة، وخطة موضوعة، تَهدُف جميعًا إلى الإعجاز الفني، فتناله عن جدارة؛ فهذا ذوق جميل، وتذوُّق عسير، وفكر ذو نفحة فلسفية…”[57].
في الجزء الثاني من هذه الدراسة نتناول: معاركه الأدبية وحياته في أمريكا ضمن البعثة الغامضة التي قصدت إبعاده عن مصر وجرت فيها محاولات إغوائه وتجنيده، ونتناول الثابت والمتغير في شخصيته، وعلاقته بثورة يوليو ورجالها.
الهامش
[1] سيد قطب، دراسات إسلامية، ، ط11 (القاهرة -بيروت: دار الشروق، 2006م)، ص 228.
[2] سيد قطب، الأعمال الشعرية الكاملة، ط1 (دمشق: مركز الناقد الثقافي، 2008م)، ص5.
[3] من أفضل الكتب في ذلك: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، ط2 (دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، 1994م)، ص 15 وما بعدها.
[4] سيد قطب، مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر، ط1 (كولونيا، ألمانيا: منشورات الجمل، 1996م)، ص7-8.
[5] سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، ط2 (جدة: الدار السعودية، 1969م)، ص 63، 65.
[6] سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، ص64.
[7] مقال للطاهر أحمد مكي “ثلاث رسائل لم تنشر للشهيد سيد قطب”، مجلة الهلال المصرية، أكتوبر 1986، ص125.
[8] د. صلاح الخالدي، سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، ص 16.
[9] المرجع السابق ص323.
[10] سيد قطب، طفل من القرية، (جدة: الدار السعودية للنشر، بدون تاريخ)، ص146.
[11] المصدر السابق، ص146-147.
[12] المصدر السابق، ص151.
[13] المصدر السابق، ص151.
[14] عادل حمودة، سيد قطب من القرية إلى المشنقة، ط3 (القاهرة: دار الخيال، 1996)، ص 47.
[15] جريدة الأسبوع، عدد 26، بتاريخ 23 مايو 1934م.
[16] الأسبوع، عدد 35، بتاريخ 25 يوليو 1934م.
[17] الأسبوع، عدد 35، بتاريخ 25 يوليو 1934م.
[18] الأسبوع، عدد35، بتاريخ 25 يوليو 1934م.
[19] د. صلاح الخالدي، سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، ص97، 98.
[20] انظر: د. عبدالله عوض الخباص، سيد قطب الأديب والناقد، ط1 (الزرقاء: مكتبة المنار، 1983م)، ص351-437.
[21] انظر: عبدالباقي محمد حسين، سيد قطب حياته وأدبه، ط1 (المنصورة: دار الوفاء، 1986م)، وانظر: د. صلاح الخالدي، سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، ص 519.
[22] الأسبوع، عدد 35، بتاريخ 25/7/1934.
[23] الأسبوع، عدد 35، بتاريخ 25/7/1934.
[24] مجلة الرسالة، العدد 648، بتاريخ 3/12/1945م.
[25] أبو الحسن الندوي، مذكرات سائح في الشرق العربي، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1975م)، ص 97.
[26] الرسالة، عدد 597، بتاريخ 11/12/1944.
[27] الرسالة، عدد 683، بتاريخ 6/8/1946.
[28] الرسالة، عدد 251, بتاريخ 25/4/1938م.
[29] الرسالة، عدد 927، بتاريخ 19/5/1951م.
[30] الرسالة، عدد 251، بتاريخ 25/4/1938م.
[31] مجلة الثقافة، عدد 53، بتاريخ فبراير 1978م.
[32] الرسالة، عدد 551، بتاريخ 24/1/1944.
[33] الرسالة، عدد 257، بتاريخ 6/6/1938م.
[34] مجلة الثقافة، عدد 53، بتاريخ فبراير 1978م.
[35] الرسالة، عدد 280، بتاريخ 14/11/1938م.
[36] الرسالة، عدد 597، بتاريخ 11/12/1944م.
[37] مجلة الأسبوع، عدد 35، بتاريخ 25/7/1934م.
[38] سيد قطب، كتب وشخصيات، ط3 (القاهرة -بيروت: دار الشروق، 1983م)، ص84 – 102.
[39] المرجع السابق، ص84.
[40] مجلة الكتاب، مج5، ج2، 1948، ص248، 249.
[41] أبو الحسن الندوي، مذكرات سائح في الشرق العربي، ص96.
[42] مجلة الثقافة، عدد 663، بتاريخ 10/9/1951م.
[43] د. صلاح الخالدي، سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، ص 158.
[44] عبد الباقي حسين، سيد قطب حياته وأدبه، ص30.
[45] الرسالة، عدد 681، بتاريخ: 22/7/1946م.
[46] الرسالة، عدد 547، بتاريخ: 27/12/ 1943م.
[47] مجلة الكاتب، السنة الخامسة عشرة، عدد 173، ص29، بتاريخ أغسطس 1975م.
[48] مجلة الهلال، عدد يونيو، 1947م.
[49] مجلة العالم العربي، العدد 4، بتاريخ،21 شعبان 1366هـ.
[50] الأسبوع، عدد 33، بتاريخ 11/7/1934م.
[51] الرسالة، عدد 595، بتاريخ 27/11/1944م.
[52] الرسالة، عدد 549، بتاريخ 10/1/1944.
[53] الرسالة، عدد 827، بتاريخ 9/5/1949م.
[54] الرسالة، عدد 828، بتاريخ 16/5/1949م.
[55] الرسالة، عدد 650، بتاريخ 17/12/1945م.
[56] الرسالة، عدد 704، بتاريخ 30/ 12/ 1946م.
[57] الرسالة، عدد 616، بتاريخ 23/4/1945م.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
(المصدر: المعهد المصري للدراسات)