مقالاتمقالات مختارة

ما بعد العلمانية: ما لم يقله يورغن هابرماس أو التأثـــر الخفـــي بالفكر الإســــلامي

ما بعد العلمانية: ما لم يقله يورغن هابرماس أو التأثـــر الخفـــي بالفكر الإســــلامي

بقلم د. خميس بن عاشور

الحديث عن بداية أفول العلمانية والعلمنة يؤيده عودة النزعات الدينية في البلدان الغربية التي ظهرت فيها العلمانية أول ما ظهرت، وصار إقصاء الدين على مستوى الدساتير والقوانين والسلوك الاجتماعي لا يحظى بالقبول العام من فئات كثيرة في تلك المجتمعات، مع ملاحظة أن هذا الحديث لا يعني فقط عودة الدين والتدين بل إعادة الاعتبار لهما أيضا، فالدين والتدين أمر متأصل في الطبيعة الإنسانية ولا يخلو زمان أو مكان منهما ولا تستطيع القوانين اللادينية أن تلغي هذه الحقيقة الواقعية مهما كانت متعسفة.

مصطلح ما بعد العلمانية حديث الولادة في المجتمع الثقافي الغربي، فهو لم يتشكل بعد في صورة نهائية ولم تكتمل عناصره النظرية بسبب ما يصاحب العملية من احتمالات التصادم مع الواقع وزعزعته، وذلك ما من شانه تقويض المسلمات التي اختلقتها الأزمنة الحديثة وفكرها التنويري، وترجع البدايات التأسيسية لهذا المصطلح إلى ندوة بحثية عقدت عام 2010م وشارك فيها عدد من الفلاسفة والمفكرين أبرزهم: يورغن هابرماس، الذي أبدى انفتاحا على الدين وقضاياه، بعدما رأى عدم وفاء العلمانية بوعودها في حل جميع مشاكل الحياة اكتفاءً بالعقل وحده ومن غير حاجة إلى الدين ،كما لاحظ هابرماس وجود عقلانية داخل الدين نفسه جعلته يتطور في إطار ما بعد الميتافيزيقية، وفي كل الأحوال لا يرى هابرماس ضرورة للاستغناء عن العلمانية فهو يؤكد على بقائها على مستوى دستور الدولة الديمقراطية التي تبقى محايدة أمام جميع مكونات المجتمع الدينية واللادينية على حد سواء، ولا شك أنه كان يستحضر تلك الأزمنة السيئة التي كانت المؤسسة الدينية البابوبة تسيطر على كل شيء وتوجه الفكر والسياسة على الرغم من دوغمائيتها التي كانت سببا في الثورة عليها مع بدايات عصر الإحياء الكلاسيكي والنهضة الغربية، تلك الفترة التاريخية الفاصلة ما بين القرون الوسطى والعصور الحديثة.
ولأجل تفكيك عناصر الموضوع عبر مساره (الأركيولوجي) نكون مضطرين للحديث عما قبل العلمانية وبالذات عن تلك الفترة التي يسميها المؤرخون بعصر النهضة وما تخفيه بين طياتها من تجاذبات دينية وثقافية وحضارية وحتى (جينيالوجية).
انتهى القرن الثالث عشر بصدمة أولى للأمم الغربية المسيحية بهزيمتها في الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي، نكسة الهزيمة العسكرية ضد العدو الحضاري الإسلامي ألجأت الأمم الغربية إلى ما يمكن تسميته بالتمترس الهوياتي خلف الكنيسة والملوك التابعين لها، هذا في الظاهر ولكن على مستوى النخب الفكرية والفلسفية كانت الهزيمة منبها قويا لإعادة صياغة قوانين التفكير العقلاني الذي عطلته القوى الدوغمائية ممثلة في رجال الكنيسة والملوك والطبقة الأرستقراطية الانتهازية، ثم ما لبث الأوروبيون أن تلقوا الصدمة الثانية سنة 1453م بسقوط وفتح القسطنطينية عاصمة الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية التي تنافس الكنيسة الكاثوليكية في روما في التعصب واللاعقلانية.
لم تكن الحروب الصليبية دينية في حقيقة الأمر ولكن كانت سياسية توسعية تلبي نزوات الملوك ذوي البشرة البيضاء وحقهم في الهيمنة والسيطرة على شعوب الشرق، كانت تلك النزوات قديمة منذ فتوحات الإسكندر المقدوني في شرق البحر الأبيض المتوسط وآسيا وبلاد فارس، إلى انتصارات هرقل على الجيوش الفارسية وتحرير بيت المقدس، ولكن سرعان ما انتهت نشوة الانتصار بهزيمة تاريخية لجيوش الرومان المسيحيين على أيدي المسلمين.
لا يمكن تجاهل الأحداث التاريخية التي تقوم بعملية حفر الخنادق في الذاكرة الجمعية للشعوب والدول لتستعين بها في الصراعات القادمة لا محالة حيث لا نهاية للتاريخ وللصراع الحضاري والثقافي.
ظهرت المسيحية في الشرق (السامي) وبقيت نقية صافية، ثم حرفت بسبب الضغوط الوثنية للدولة الرومانية واعتنقتها الشعوب الأوروبية ذات الأصول اللاسامية في الغالب بعد ذلك وهي محرفة وكان بولس (شاؤول) حريصا جدا على تجنيد الشعوب الأوروبية في مقابل التنازل عن أساسيات إنجيل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فأسقط الختان لأن علوج الرومان لا تحتمله ثم ألغى الشريعة الموسوية برمتها وصارت المسيحية عبارة عن دعاية سياسوية تخدم الأطماع التوسعية للإمبراطورية الرومانية وتجند المؤمنين تحت مكيدة الكثلكة (مذهب المسيحيِّين الَّذين يعترفون بسلطة البابا). والخضوع للبابا في روما، من هنا يمكن فهم العلاقة التي كانت دائما وطيدة بين الملوك ورجال الدين ثم الأرستقراطيين ثم البورجوازيين فيما بعد، علاقة منافع ومصالح لا أكثر ولا أقل.
في سنة: 1492م استرجع الأوروبيون شيئا من هيبتهم الدينية والعرقية بسقوط إمارة غرناطة آخر حواضر الأندلس، هناك من لم يكن مسرورا بهذا الانتصار سيما الذين كانوا ضحايا محاكم التفتيش والشرطة الدينية، ومن هؤلاء أسرة باروخ سبينوزا اليهودية التي أرغمها الإرهاب الكاثوليكي على اعتناق المسيحية حتى لا تضيع ثروتها بعدما كانت تعيش في كنف الحرية الاعتقادية والأمن والتسامح وحق المواطنة داخل المجتمع الإسلامي الأندلسي.
هاجرت عائلة سبينوزا إلى هولندا البلاد التي بدأت تستنشق النسمات الأولى للتحرر والانعتاق الفكري والديني حيث تميز أمراؤها بالتسامح والانفتاح مما سمح للأسرة بالعودة إلى معتقدها اليهودي الأول، في هذا الجو ولد سبينوزا سنة 1632م بأمستردام.
هناك ثلاث خلفيات مهدت لتأسيس العقلانية الأوروبية الحديثة التي تمثلت في ثلة من المفكرين من أمثال سبينوزا وجون لوك ودينيس وديدرو وفولتير وجيمس ماديسون وتوماس جفرسون وتوماس بين الذين فتحوا المجال لما عرف فيما بعد بفلسفة الأنوار، وأيضا خلفية أخرى دعمت التفكير العقلاني وهو المذهب الطبيعي المادي الذي يزعم الاستغناء عن كل ما لا يشاهد عن طريق الحواس وبالتالي استبعاد أي فكر غيبي ميتافيزيقي ديني، وأما الخلفية الثالثة فهي مستقاة من الفكر والفلسفة اليونانية ممثلة في بعض النزعات المادية والدهرية مثل [الأبيقورية]، لكننا نعود إلى سبينوزا باعتباره نموذجا صالحا لتلك البدايات العقلانية اللادينية العلمانية.
تكمن أهمية سبينوزا في أنه من أوائل المتجرئين على نقد الكتاب المقدس بسبب الخوف من العقاب الشديد الذي تسلطه الكنيسة والمؤسسة الدينية اليهودية على من يقدم على ذلك، انتقد سبينوزا التوراة في كتابه: رسالة في السياسة واللاهوت، وتبين له عدم صحة نسبتها إلى موسى عليه السلام مثلما يدعيه أحبار اليهود وكان ذلك سببا كافيا لاتهامه بالهرطقة والخروج من الملة اليهودية، وبالنسبة للمسيحيين فهم يقدسون العهد القديم والأسفار الخمسة التي هي التوراة فكان ذلك بداية قوية للثورة العقلانية ضد الدوغمائية الدينية اليهودية والمسيحية المتهودة، ويؤكد الباحثون على أن سبينوزا تأثر ببعض علماء اليهود الأندلسيين مثل (ابن عزرا الغرناطي) الذي أخذ بدوره عن ابن حزم الأندلسي[ 994م/1064م] نقد وبيان تحريف الكتاب المقدس في كتابه (الفصل..)، ولكننا لم نسمع أحدا من العلمانيين الغربيين ذكر مثل هذه الحقائق عن بُنية الفكر النقدي العقلاني التي سبق إليها المسلمون من غير أن يؤثر ذلك في موقفهم من الدين فضلا عن التفكير في إقصائه وعلمنة المجتمع كما فعل الغربيون، وهذا مما لا يستطيع أمثال يورغن هابرماس أن يصرحوا به ربما شعورا منه بمسؤوليته كمثقف نحو مجتمعه الغربي الذي يعتبر نفسه محور العالم المهيمن والأقوى الذي يجب على الآخرين الاقتداء به.
ما قام به سبينوزا كان إعلانا لبداية الحملة على كل ماهو ديني كهنوتي من طرف فلاسفة الأنوار بحسب ما تسمح به الظروف الجيدة التي كان يوفرها بعض الملوك والأمراء وحتى بعض رجال الدين المتفتحين على العلم والعقلانية ،وذلك بالموازاة مع ظهور فكر علمي عقلاني مؤمن حاول التوفيق بين الإيمان الديني والعقل مثل فلسفة رنيه ديكارت أستاذ سبينوزا تلميذه الذي اختلف معه بعد نضوجه الفلسفي.
قبل سبينوزا كان طوما الأكويني [1225م/1274م] أحد كبار فلاسفة المسيحية عبر التاريخ وقد عاش في تلك الفترة التي صُدمت فيه الأمم الغربية وكنيستها في روما بالهزيمة العسكرية الصليبية على أيدي المسلمين مما كان سببا رئيسيا في ظهور الاستشراق ومحاولة فهم الشرق ومعرفة أسباب تفوقه، وفي السياق ذاته تأثر طوما الأكويني بالفكر والدين الإسلامي بواسطة ابن رشد وأبي حامد الغزالي وابن إسحاق الكندي وغيرهم ممن كان لهم الأثر القوي في تلقيح الفكر الديني الغربي بحقنة العقلانية التي صنعت في مخابر التواصل الحضاري بالشام والقسطنطينية وجنوب إيطاليا، ولكن بالأخص في الأندلس.
واليوم وفي عصر يورغن هابرماس بعد أن استهلك الغربيون كل التناقضات الفكرية والفلسفية استفاق بعضهم على هول الصدمة التي تسببت فيها موجة فلسفة الأنوار وفلسفة الطبيعة والمذهب العلماني الذي اكتسح ألوان الحياة برمتها، وبدأت العقلانية الغربية تراجع نتائجها المخيبة للآمال فيما يتعلق بفصل الدين عن الحياة بعدما تبين لهم أن الدين تم فصله فقط على مستوى القوانين والدساتير ومناهج التعليم والسياسة والاقتصاد وغير ذلك، ولكن لم يكن بالإمكان فصله عن الواقع وصارت العلمانية في ورطة جعلتها تستكتب مفكريها لإيجاد صيغ وحلول توفيقية لتلك المصطلحات التي فرضت نفسها إعلاميا واجتماعيا وسياسيا وحتى اقتصاديا وعلميا..، كالإسلاموفوبيا ،الإنجيليين والمحافظين الجدد، الإرهاب الإسلاموي، الأكل الحلال، والأرض المسطحة، فالسياسة كانت في حاجة ماسة لأصوات المتدينين كل المتدينين بما فيهم المسلمين، وصار الاقتصاد ملزما بتطوير مناهجه الكلاسيكية الرديئة والبحث عن طرق جديدة للتخطيط التنموي واستثمار الأموال حتى وإن كان مصدرها الفقه الإسلامي، وبسبب تطور الأمراض الناتجة عن التغذية والسلوك الاستهلاكي بحث خبراء الصحة عن مصادر بديلة للتعافي الصحي ولو كانت مستمدة من السنة والطب النبوي وبدون أي عقد كانت تفرضها العلمانية على البحث العلمي والاكتشاف، وصار الإعلام ملزما بحكم الاحترافية وبحكم أن الحقيقة لا تخاف البحث بطرح قضايا علمية بحتة فرضها التطور التكنولوجي والبحث العلمي سيما في مجال الرصد وتقنية التكبير والتقريب من مثل التشكيك في كروية الأرض وبعض الحقائق الكونية التي لها علاقة مباشرة بالعلم وفي نفس الوقت بالمعتقدات الدينية وبالنصوص المقدسة..
الواقع كما سبق هو الذي يؤكد حقيقة تراجع الهيمنة العلمانية في العالم بأسره ،فقد تصاعد الشعور بالانتماء الديني وفق الإحصائيات في أوروبا حيث أن الأغلبية من السكان تعرف نفسها كمسيحيين على الرغم من عدم الالتزام الديني لدى الكثيرين منهم، وتتزايد هذه النسبة في إيطاليا، وفي وسط وشرق أوروبا حيث يعرف السكان أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس، وبعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991م وسقوط المنظومة الشيوعية ظهرت روسيا كأكبر دولة أسست هويتها على المسيحية الأرثوذكسية محاولة بذلك فرض نفوذها السياسي على الدول المستقلة التي تشاركها في الانتماء الديني مثل: أوكرانيا وجورجيا. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر المجتمع الأمريكي على العموم متدينا حيث تصاعدت موجة التدين أكثر في ثمانينيات القرن العشرين، مع صعود التيارات الدينية وتيارات اليمين المحافظ والمحافظون الجدد.
وفي الصين التي هي أكبر تجمع سكاني في العالم والتي لا يزال الحزب الشيوعي يحكمها يوجد اعتراف رسمي بالبوذية والكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام. على الرغم من العداء الذي تكنه المنظومة الحاكمة للصين للدين وللتدين والمضايقات التي لا تزال تمارسها على المتدينين وخاصة المسلمين منهم.
وأما في العالم الإسلامي فلم يكن هناك أساس منهجي وفكري أو ثقافي يسمح بظهور فكرة فصل الدين عن الحياة مثلما هو الحال في المجتمعات الغربية، وأول ظهور للعلمانية كان مرافقا لبداية المخططات الاستعمارية منذ حملة نابليون على مصر[1798م/1801م] إلى احتلال أغلب الدول الإسلامية حيث فرضها المستعمر بالقوة أولا، ثم بعمليات ممنهجة لتغيير القوانين والمناهج التعليمية وغيرها، ومع ذلك فلا تزال المجتمعات العربية والإسلامية متمسكة بدينها وبعقيدتها سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول ،ولا تزال الدساتير وأنظمة الحكم فيها تعتبر الإسلام دين الدولة والمجتمع وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع بل إن المملكة العربية السعودية التي هي مركز العالم الإسلامي وقبلته تعتبر الكتاب والسنة وأحكام الشريعة هي المصدر الوحيد لنظام القضاء في البلاد.
وخلاصة القول أن العلمانية بدأت في التراجع والتنازل في مواطنها الأصلية التي نشأت فيها فضلا عن غيرها، وذلك بسبب فقدان الشروط الموضوعية لاستمرارها والمتمثلة في مصادمة الفطرة البشرية التي لا يمكن فصلها عن الرابطة الدينية سواء باختلاق أساس منهجي فلسفي أو بفرض قوانين وقيود ملزمة ،وأن ما لم يقله أحد المنظرين لما بعد العلمانية وهو يورغن هابرماس هو التأكيد على أن الواقع الديني المعاصر في العالم بأسره ولا سيما الإسلامي الذي يمتلك تلك الحلقة المفقودة في الفكر الغربي الحديث التي رمت به إلى المهالك والمتاهات الحضارية وهي: أن العقل أساس التكليف دينا ودنيا وأن الإسلام يمتلك الشروط النظرية والعملية والواقعية التي تؤهله لقيادة دفة التوجيه نحو المنهج القويم والصراط المستقيم لإسعاد البشرية جمعاء.

المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى