ما المغزى من إحياء الزرادشتية في كردستان العراق؟
نقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في الآونة الأخيرة أخباراً كثيرة عن الزرادشتية والزرادشتيين الجدد في كردستان العراق، وسلطت أضواءً كثيرة على تاريخ هذه الديانة الشرقية القديمة، وكيف أنها كانت الديانة الرسمية لعدة إمبراطوريات حكمت المنطقة عدة قرون. وفي الحقيقة تؤكد الأبحاث الحديثة أن الزرادشتية كانت الديانة الرسمية للإمبراطورية الفارسية الساسانية (224 – 651م) فقط، ولم تكن الديانة الرسمية للإمبراطوريات الأخرى، مثل: الأخمينية (الهخامنشية)، والبرثية (الأشكانية – ملوك الطوائف). نعم، كانت إحدى الديانات المنتشرة في أراضي هذه الإمبراطوريات أسوةً بديانات أخرى مثل: اليهودية والنصرانية والميثرائية وغيرها.
ويبدو جليّاً أن هناك أيادي خفية حول إحياء الديانة الزرادشتية في كردستان العراق التي لم يبقَ لها وجود هناك سوى في كتب التاريخ؛ وذلك اعتقاداً منهم بأنها الديانة الأنسب لهم انطلاقاً من جذورها الكردية؟ وحول دعم عملية الانتشار الإعلامي غير المسبوق لهذه الديانة، فضلاً عن تضخيم أعدادهم على أقل تقدير في كردستان العراق، بالإضافة إلى التركيز على أن هذه الديانة كانت خاصةً بالعنصر الكردي فقط، وأنها ظهرت في منطقة هاورامان شرق مدينة السليمانية على الحدود العراقية – الإيرانية، وهو ما يتنافى مع ما هو معلوم من حقائق لدى الباحثين والمستشرقين على حدٍّ سواء… نقول:
بخصوص عددهم يستطيع أي متابع أن يحصل على عددهم التقريبي من خلال ويكيبيديا باللغة الإنكليزية أو بأي لغة أخرى، وسيظهر له جلياً أن عددهم الكلي في العالم لا يتجاوز (190.000) شخص يتمركزون في جنوب غرب الهند (مدينة مومباي وأطرافها) تحت اسم البارسيين، وفي إيران المركز الرئيسي في مدينة طهران ومدينة يزد في وسط إيران (مركزهم التاريخي)، ولديهم بعض الجاليات الصغيرة في أوروبا.
أما بشأن عددهم في كردستان فلم يكن لهم وجود البتة في كردستان العراق، ولكن هجمات 11 سبتمبر عام 2001م، وهجمات تنظيم داعش على كردستان العراق في شهر آب/ أغسطس عام 2014م، أسهمت إلى حدٍّ كبير في الترويج للزرادشتية في كردستان العراق؛ فبعد أقل من ستة أشهر أقرَّ برلمان كردستان العراق بالزرادشتية ديانة رسمية في الإقليم، في كانون الثاني عام 2015م حسب القانون رقم (5)؛ رغم أن الدستور العراقي لا يعترف بهم. وبعدها توالى تأسيس معابد ومنظمات زرادشتية: معبد في مدينة السليمانية في شهر آب عام 2015م مقابل مقر المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردسـتاني، ومنظمة يسـنا في دهوك في 2/9/ 2019م، وبعدها في 7/9/2020م تم لأول مرة افتتاح معبد للديانة الزرادشتية في أربيل عاصمة الإقليم.
وتحاول المنظمات الزرادشتية المبالغة في أعداد المعتنقين للزرادشتية، بالقول: إن أعدادهم وصلت إلى (300.000) شخص في زيادة غير مسبوقة وغير معقولة استناداً إلى تصريحات بعض شخصياتهم الدينية، أو الناطقة باسمهم في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لإقليم كردستان العراق.
في حقيقة الأمر فإن لإحياء الزرادشتية في كردستان جذوراً تاريخية تعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين عندما أصدر جلادت أمين عالي بدرخان باشا (1893 – 1951م) سليل العائلة البدرخانية (إمارة بوتان الكردية) والهارب من بطش كمال أتاتورك في تركيا إلى سوريا، مجلة هاوار (النجدة) في دمشق في شهر مايو/ أيار عام 1932م بالأحرف اللاتينية بدعم من فرنسا المنتدبة على سوريا. وكانت مجلة هاوار تبدي اهتماماً كبيراً بالزرادشتية على أنها واحدة من مصادر الهوية الثقافية الكردية، ولذلك كانت اليزيدية ذات الجذور الزرادشتية (التي تم اضطهادها لوقت طويل… تُمجَّد من قبل بعض القوميين وتُعدُّ دين الكرد دون منازع)، ولم يتراجع آل بدرخان عن إضعاف موقف الإسلام في القومية الكردية باكتشافهم (الدين الحقيقي للكرد) في اليزيدية، لقد أقام آل بدرخان خطّاً وصلةً مباشرة بين اليزيدية والزرادشتية[1].
وبخصوص اعتبار كاميران بدرخان (1895 – 1978م) شقيق جلادت بدرخان، اليزيدية هي تشويه للزرادشتية، فإنه يقول: «إن الدين اليزيدي هو تشويه للديانة الزرادشتية، التي كانت ديانة جميع الكرد». ولذلك دبَّج هو وشقيقه كاميران بدرخان عدة أبحاث ومقالات لدعم فكرتهم السابقة عن الزرادشتية، «وكتب آل بدرخان مقالات عديدة بالكردية والفرنسية للتعريف ببعض العناصر في الزرادشتية واليزيدية بزعم أنها كانت الديانة الأصلية للكرد. وكان المثقفون الكرد بعملهم هذا يرمون إلى أهداف عديدة».
ومهما يكن من أمر فإن الأهداف التي ترمي إليها النخبة الكردية هي دعم أسطورة التواصل بين الميديين والكرد، التي تستند في الأساس إلى النظريات العديدة التي طرحها المستشرقون الأوروبيون وتحديداً الروسي (فلاديمير مينورسكي المتوفى سنة 1966م) حول اعتبار الكرد أحفاد الميديين القدامى الذين ينتسبون إلى الجنس الآري، «ففي حين كانت المقالات المدونة في المجلة المارة الذكر بالكردية تصرُّ على هذا التواصل لتأكيد انتساب الكرد إلى عائلة الشعوب (الهندو أوروبية)، جاءت المقالات المدونة بالفرنسية لتشرح الانفراد الديني للكرد، وخاصةً غياب التعصب الذي يعود سببه إلى بقايا الزرادشتية في حياتهم الدينية وفي عاداتهم»[2].
ويخلُص كاميران بدرخان إلى نتيجة مفادها أن الكرد أصبحوا من خلال الديانة اليزيدية الورثة المدافعين عن مبادئ الخير والشر، مع وجود الإله الواحد أيضاً، في إشارة إلى الديانة الزرادشتية، ويعترف في الأخير قائلاً: «ورغم أن الكرد هم اليوم من المسلمين فعليهم التصرف حسب التعاليم الزرادشتية»[3].
وحاول الأشقاء من آل بدرخان الادعاء بأن الزرادشتية ونسختها المتبدلة شكلياً (اليزيدية) (كانت هي ديانة جميع الكرد) قبل وصول الإسلام إلى كردستان؛ وذلك لإيجاد علاج لتشرذم المجتمع الكردي. وكانت أسطورة الإيمان المشترك ضرورة لتأكيد وحدة الكرد في وقت كان الكرد مقسَّمين على معتقدات دينية ومذهبية مختلفة (سنية، وشيعية، وعلوية، ويزيدية، وأهل الحق، والشبك… إلخ)، وهو ما يضعف إمكانية بناء حركة قومية متحررة من الميول الطاردة. كان المطلوب من الانتساب إلى الزرادشتية، السماح لجميع الكرد أن يتمظهروا في ماضٍ أسطوريٍّ كان الكرد فيه يشكلون جسماً واحداً، وأن يتجاوزوا خلافاتهم الحالية.
وعندما رأى هؤلاء المثقفون العلمانيون أن توجيهاتهم وأفكارهم لا تستطيع النفاذ والتسرب إلى المجتمع الكردي في تلك الحقبة؛ لكون الغالبية الساحقة منهم مسلمون من أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، ولأن هذه الأفكار لا تتناسب وتلك المرحلة، إذ لم تكن الأحزاب الكردية العلمانية بشقيها الليبرالي واليساري قد تشكلت بعد. ويشير المستشرق الهولندي (مارتن فان بروينسن) إلى هذه النقطة بالتحديد بقوله: «ولكن هؤلاء القوميون يشكلون أقلية صغيرة، وأتباع الطوائف المهرطقة (المبتدعة) تتكون فقط من نسبة صغيرة من الكرد، لكنَّ الغالبية الساحقة من الكرد مسلمون والكثيرين منهم يأخذون الدين على محمل الجد، لقد اكتشف محررو مجلة هاوار أنه ينبغي عليهم أن يغيروا من نبرتها إذا ما أرادوا أن يجدوا حلقة أكبر من القراء؛ لذلك وبدءاً من سنة 1941م فصاعداً كان كل عدد يُفتتح بترجمة كردية للقرآن والأحاديث النبوية، والكثير من الكرد العلمانيين الآخرين، قبل ذلك وبعده، اكتشفوا الشيء ذاته لكي يُحْدثوا التأثير بين الكرد، وكان ينبغي عليهم أن يكيِّفوا أنفسهم مع الإسلام. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل إذ كان معظم هؤلاء القوميين يعتبرون الإسلام أحد القوى الرئيسية التي تضطهد شعبهم»[4].
ومن جانب آخر فإن غالبية أعلام الدول الإسلامية تحمل الهلال رمزاً للإسلام، ويعلق أحد الباحثين الغربيين على هذا الجانب بأن إضافة الشمس إلى العلم الكردي ما هو إلا تعبير عن الهروب من الرموز الممثلة للإسلام كالهلال: «إن إضافة الشمس في الحالة الكردية، يمكن أن يكون تعبيراً عن الرغبة في إدخال رمز ديني؛ فبدلاً من اعتماد الهلال المرتبط بالإسلام، فضَّل القوميون الكرد – على ما يبدو – رمزاً لديانات سابقة على الإسلام مثل الزرادشتية، فالشمس على غرار ألوان العلم، تُقَرِّب كذلك الكُرد من الشعوب الإيرانية مع إبعادهم أيضاً، عن الترك والعرب»[5].
فضلاً عن ذلك تم إدراج صورة العلم الفارسي الساساني (درفيش كاويان – راية كاوه) في مقدمة أحد أقسام الأفستا المترجمة إلى الكردية حديثاً؛ دليلاً على تضامن هؤلاء مع الفرس الساسانيين ضد العرب المسلمين، في إشارة إلى معركة (القادسية) التي استطاع فيها الصحابي ضرار بن الخطاب الفهري رضي الله عنه قتل حامل راية درفش كاويان، ولذلك منحه الصحابي القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جائزة كبيرة تقديراً لشجاعته.
وبشأن الاهتمام الكبير الذي يبديه القوميون الكرد الذين يجنحون إلى الجدل بأن ديانتهم الحقيقية كانت الديانة (الهندو إيرانية) الثنوية الزرادشتية، والزعم بأن هذه الديانة ما زالت باقية لدى طوائف، مثل: اليزيديين والكاكائيين (أهل الحق)، وأنها أكثر تعبيراً عن الهوية الكردية من الإسلام السني الذي تعتنقه غالبية الكرد، يقول الباحث الغربي: «كثيراً ما يبدي الباحثون الأجانب اهتماماً خاصاً بالطوائف الأشد تمييزاً وتشويقاً في كردستان، الأمر الذي أسفر عن إيلاء قدر غير متناسب من الاهتمام بجماعات، مثل الإيزيدية و (أهل الحق) والعلويين… ولا يعني ذلك انتقاد مثل هذه الأبحاث القيمة التي كثيراً ما تكون مثيرة للاهتمام، بل مجرد الإشارة إلى أن الكثير من معتقدات الكرد وممارساتهم – وهم في غالبيتهم مسلمون سنة تقليديون – ما زالت مضماراً غير مطروق نسبياً». ويحاول الباحث الغربي إيضاح أن الكثير من هذه الجماعات الباطنية لها أصول إسلامية، ولكنَّ القوميين الكرد يحاولون الزعم بأن لهم أصولاً ما قبل إسلامية (زرادشتية وغيرها)، فيقول: «أُريد أن أتناولَ بإيجاز ما يُزعَم بأنه طوائف باطنية غير إسلامية أو (ما قبل إسلامية) في كردستان. فحتى هذه الجماعات لها في الحقيقة أُصول لا تُنكَر في التقاليد الإسلامية (الشعبية)، ولا يُمكن أن تُفهم فهماً وافياً بمعزل عن هذه الأصول. وقد تكون للمزاعم القائلة بأصولها ما قبل الإسلامية أو طابعها الكردي المحض، استعمالات تخدم أغراضاً قومية، ولكنها مزاعم على قدر كبير من الشطح إن لم تكن مضلِّلة بشكل صارخ»[6].
وعلى أية حال فإن مقالات مجلة هاوار وروناهي (النور) وغيرها من المجلات التي صدرت في دمشق وبيروت لاحقاً، ربما أوحت لبعض منظري ومفكري الحزب الديمقراطي الكردستاني بالقول بأن (الديانة اليزيدية) هي الديانة الأصلية للكرد قبل الإسلام، ولا سيما أن غالبية مناطقهم تقع تحت نفوذ الحزب المذكور. ومن جانب آخر ربما من باب رد الفعل، أو من باب الصراع الحزبي والمناطقي، ادعى العديد من مفكري وسياسيي الاتحاد الوطني الكردستاني أن (الكاكائية) هي الديانة الأصلية للكرد قبل الإسلام، لأنهم أصحاب النفوذ في مناطقهم؛ رغم أنها قبل عدة سنوات كانت تعدُّ مذهباً شيعياً غالياً. في حين يعد حزب العمال الكردستاني (الزرادشتية) هي الديانة الأصلية للكرد؛ وربما كان كلام الرئيس التركي أردوغان في 2 مايو 2015م يصب في هذا الاتجاه في كلمة ألقاها خلال مراسم افتتاح مجموعة من المشاريع التنموية، بولاية بطمان في إشارة إلى معسكرات حزب العمال الكردستاني: «نملك وثائق تؤكِّد قيام القائمين على تلك المعسكرات بتعليم مبادئ الديانة الزرادشتية لعناصرهم، علينا إدراك ذلك بشكل جيد وشرحه لإخوتنا الأكراد».
وملخص القول أن محاولة بعض المثقفين الكرد العلمانيين من ماركسيين وليبراليين ولا دينيين تخليص زرادشت من إيرانيته وإعادة إنتاجه على أنه نبي كردي، لا يقع خارج الصراع الحزبي والمناطقي في كردستان العراق، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية، وتمَّت الدعاية لهذا الغرض من خلال طبع أحد أقسام الأفستا باللغة الكردية (اللهجة السورانية)، مع كتب أخرى تخص الزرادشتية على حساب مركز الفردوسي في لندن، المدعوم من منظمات تنصيرية! والفردوسي هو صاحب كتاب (الشاهنامة) الذي يعدُّه المثقفون الفرس (قرآن الفرس)، فما علاقة الكرد بالشاعر الفارسي الفردوسي المدفون في مدينة طوس القديمة (مشهد حالياً) الواقعة على الحدود الإيرانية الأفغانية؟
ختاماً: أذكِّر الزرادشتيين الجُدُد في كردستان بقول المستشرق البريطاني المشهور إدوارد براون (ت1930م) المتخصص بالأدب والتاريخ الفارسي في وصف الأفستا (الكتاب المقدس للزرادشتيين) بقوله: «… إنني متى ما رحت أطالع القرآن الكريم أكثر، وسعيت في سبيل إدراك روح القرآن أكثر، التفتُّ إلى قدْره ومنزلته أكثر… بينما التحقيق والمطالعة في أفستا مُمِلة ومُتعِبة، اللهم إلا أن يكون الشخص بصدد التعرف على تاريخ الإنسان وأساطيره».
[1] ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص247.
[2] المرجع السابق، ص247 – 248.
[3] ينظر مقالة كاميران بدرخان في مجلة هاوار، العدد 14، 1932م.
[4] ينظر: مارتن فان بروينسن، الكرد والإسلام.
[5] جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص241.
[6] ميخائيل ليزنبرغ، الإسلام السياسي بين الكرد، ص331 – 334.
المصدر: مجلة البيان