ما الذي تريده نخب العلمانية المتطرفة؟
لا يتوقف الجدل الأخلاقي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فمع كل حادثة هنا أو هناك، يتجدد الجدل، وبالطبع تبعا لوجود نخب علمانية، مع أخرى من اليسار، تتفنن في إثارة الجدل، وهي تملك الكثير من الحضور في وسائل الإعلام، وإن كان حضورها الجماهيري محدودا.
مع التذكير بأن زمن مواقع التواصل قد جعل موقفها أضعف من ذي قبل؛ بحضور صوت الناس الآخرين، على تفاوت في تأثيره.
ويتعلق الأمر في الغالب بقضايا الشذود والزنا، بجانب جدل حقوق المرأة، وما يتصل به من قضايا تتعلق بنظام الأسرة والتشريعات الخاصة بذلك، وعموم المنظومة الاجتماعية.
والأكثر إثارة في القضية أن أولئك القوم لا يعرفون من العلمانية أو الليبرالية سوى التحلل الأخلاقي، ويتجاهلون ما تبقى من قيم ديمقراطية، لأنها ببساطة تدين انحيازهم لسوط السلطة.
في المجتمعات الغربية لا يتوقف الجدل حول هذه القضايا أيضا، ولكن في سياق مختلف، إذ تعثر يوميا على أخبار تؤكد حقيقة واحدة هي أنه لا وجود لحرية فردية مطلقة، وإن أجيزت تشريعات كثيرة تصطدم مع وعي مجتمعاتنا، كما تلك المتعلقة بالشذوذ والإباحية.
الأمر الذي لا يجادل فيه العقلاء هو أنه لا وجود لحرية مطلقة في أي مكان في الدنيا، حتى في القضايا ذات البعد الشخصي التي لا تضر مباشرة بالآخرين (فرق بالطبع بين الفعل المخفي، وبين المجاهرة وتحدي قيم المجتمع).
وما يحدد السقف الأخلاقي للمجتمعات، أو منظومتها الأخلاقية هو ما تتوافق عليه، ولا يُفرض عليها بسوط السلطة، وحين يتم إقرار شيء جديد، يتم الأمر من خلال مؤسسات منتخبة على نحو حقيقي وليس صوريا، وأحيانا من خلال استفتاءات، كما في بعض الدول الإسكندنافية.
أيا يكن الأمر، فما بيننا وبين تلك الطوائف من العلمانيين والليبراليين هو المجتمع، ما داموا لا يلقون بالا للأحكام الشرعية والثقافة الاجتماعية، ولا يحق لهم تبعا لذلك أن يفرضوا على مجتمعاتنا ما يريدون من قيم أخلاقية بدعوى الحرية، لأن الثابت أن الحرية نسبية، ومن حق كل مجتمع أن يحددها بناءً على عقيدته وثقافته.
من يتابع تحولات مسألة “المثلية”، يجد أن الدول التي أقرّتها؛ فعلت ذلك من خلال المؤسسات الدستورية، ولم يهبط القرار من الأعلى بسيف القانون، أو بسبب قناعة أقلية وحسب، كما أن الغالبية الساحقة من البشر لا زالت ترفضها، وتعداد سكان الدول التي أقرّتها تمثل أقلية في العالم، كما أن الغرب ذاته لم يتوافق بشأنها، ومؤخرا قال رئيس الوزراء البولندي إن “المثلية” تمثل “أيديولوجيا خطيرة مثل الشيوعية”.
سيقول كثير من المسلمين إن ما يحكمنا ليس الرأي العام، بل الحكم الشرعي، وهذا قد يصحّ في أمر، وقد لا يصحّ في آخر، لأن الحكم الشرعي ليس محسوما تماما في كل الأمور. كما أن تحدي الغالبية للحكم الشرعي المحسوم مُستبعد.
أيا يكن الأمر، فما بيننا وبين تلك الطوائف من العلمانيين والليبراليين هو المجتمع، ما داموا لا يلقون بالا للأحكام الشرعية والثقافة الاجتماعية، ولا يحق لهم تبعا لذلك أن يفرضوا على مجتمعاتنا ما يريدون من قيم أخلاقية بدعوى الحرية، لأن الثابت أن الحرية نسبية، ومن حق كل مجتمع أن يحددها بناءً على عقيدته وثقافته.
هنا تتبدى إشكالية هؤلاء الكبرى ممثلة في قناعتهم بأن مجتمعاتنا متدينة، وكانت محافظة قبل أن تتصاعد موجة التدين في العقود الأخيرة، ولذلك هم يدعون إلى جرّها للمنظومة الأخلاقية التي يؤمنون بها؛ بسوط السلطة أو السياسة.
المصيبة أن هؤلاء يريدون حرق المراحل، ويريدون نقلنا إلى منظومة الغرب الأخلاقية، حتى دون المرور بمرحلة التدرج التي مرّت بها هناك، قبل أن تمرر ما يخالف ثقافتها المسيحية؛ والتي هي في أصلها محافظة؛ إن كان على صعيد اللباس أم القضايا الاجتماعية والأخلاقية الأخرى.
في عام 1886، ثارت ضجة كبرى بسبب قبلة في فيلم إيطالي حمل اسم “القبلة”، ثم تدرّج الأمر إلى ما نعرفه حتى الآن، من دون أن يتطور مثلا للمشاهد الجنسية الساخنة (دعك من أفلام البورنو)، ولا السماح بالعري الكامل، فضلا عن الممارسات الجنسية الكاملة في الأماكن العامة، ولا زنا المحارم، والأمثلة كثيرة.
ولك أن تتخيل كم استغرق الأمر من زمن حتى وصل الحال إلى ما هو عليه، مع بقاء قيود لا تحصى على الحرية الفردية، لكن القوم الذين نتحدث عنهم يريدون أن ينقلوا مجتمعاتنا إلى ما يريدون على جناح السرعة، وبقرار من الأعلى!!
نحن نثق بانحياز الغالبية الساحقة من شعوبنا إلى القيم الإسلامية التي تحافظ على الأسرة كلبنة للمجتمع، وعموم المنظومة الأخلاقية التي تحافظ على تماسك المجتمع، لكن أولئك لا يريدون ذلك، وهم يعتقدون؛ كما بعض السياسيين، أنه من دون تغريب المجتمع لن يتخلصوا مما يسمى “الإسلام السياسي”، وعليهم تبعا لذلك أن يركزوا على هذا البعد ما داموا عاجزين عن المنافسة الشريفة في ميدان الديمقراطية، وأي ميدان يقول الناس فيه رأيهم ويحددوا مواقفهم بحرية.
(المصدر: عربي21)