بقلم محمد قيراط
في الذكرى الـ 42 لوفاة العلامة مالك بن نبي هل نملك الشجاعة والجرأة لنقر ونعترف أننا لم نقرأ أفكار الرجل ولم نفهما ونطبقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟ وهب الرجل حياته لمعالجة مشكلات الحضارة وأزمة الهوية في المجتمعات العربية التي عرفت انتكاسات ومشاكل الحكم والتنمية والتطور، ألهمته المدرسة القرآنية والباديسية، فأنار درب شعوب عانت بشاعة الاستعمار، أصلح نظريات الغرب القائمة على العنصرية والمادية، داعيا الجزائريين والمسلمين لتأسيس حضارة عالمية إنسانية تؤثر وتتأثر، فلُقب بفيلسوف الحضارة..
إنه المفكر الجزائري والعلامة مالك بن نبي، الذي بقي تنظيره دون تطبيق في الجزائر وفي عديد الدول العربية.. ففي وقت أهملت الجزائر أفكاره المؤسّسة لدولة صلبة، ارتقت بنظرياته دول كثيرة أهمها ماليزيا وتركيا وإيران وحتى إسرائيل. مالك بن نبي، عاش طيلة حياته من أجل شيء واحد، وهو معالجة مشكلة الحضارة، فتفرغ للدراسات والتأمل والنظر في المجتمع الإسلامي، مبرزا دور”الفكرة الدينية” في تطوير الحضارة، وتغييرها وعدم اضمحلالها، تاركا وراءه زخما من الأفكار البناءة لدولة حضارية ونهضة عالمية.
السر وراء أفكار مالك بن نبي يكمن في ولادته في القرن العشرين في بلد مستعمر من قبل فرنسا، وسقوط الخلافة العثمانية، ليكون بذلك شاهدا على تخلف وجهل الأمة الإسلامية، الأمر الذي دفعه للبحث في الأسباب الحقيقية لتطور الحضارة وسقوطها، وساعده في ذلك تكوينه في المدرسة القرآنية والباديسية والفلسفة الوجودية التي جعلته رجلا عقلانيا، بالإضافة لتشبعه بدراسات وأفكار ابن خلدون، وهو ما جعل أفكاره امتدادا للأخير، ليتساءل عن دور الدين في تأسيس الحضارة، وقبلها عن ماهية الحضارة ونشأتها وأسباب النهضة للاستعمار وأسباب التخلف والركوض والجهل.
تهميش فكر الرجل العظيم، وعدم الاعتراف بعظمته، رغم وزن أفكاره التي جاءت في شكل نظريات متسلسلة تؤسس لحضارة متطورة نظريا، كانت تنتظر التطبيق على أرض الواقع من أتباعه وتلامذته، ومن الطبقة الحاكمة في الجزائر، وهو ما لم يحصل. فأصبح الفيلسوف مالك بن نبي مجرد رقم يُذكر في قائمة المفكرين النوابغ لا غير، لكن دولا أخرى رأت في أفكار ابن نبي ما لم يره الجزائريون والعرب، وأقرت له بلقب فيلسوف الحضارة، فانطلقت من أفكاره النظرية لبناء دولة إسلامية وعصرية وقوية، على غرار تركيا، ماليزيا، إيران، وحتى إسرائيل تدرس فكر ابن نبي في جامعاتها، هل للمسلمين إمكانات لتجديد دورة حضارية جديدة؟ فانطلق المفكر في نظرياته من دراسة الظاهرة القرآنية التي اعتبرها هي عقيدة صحيحة، لكنها أضاعت فعاليتها رغم بقاء أصالتها، وهو ما جعله ينصح بإعطاء الإسلام فعاليته، وللأسف الحضارة في عصرنا الآن أصبحت تشترى بالمادة، رغم أن ابن نبي كان ضد فكرة استيراد الحضارة. مالك بن نبي، على أنه “رجل التسامح والشخص المنفتح على الشعوب والحضارات الأخرى”، الذي لم يجد عيبا في تعايش المسلمين مع المسيحيين، وهي ميزة مهمة ظهرت في كتابات ومقالاته، رغم الاضطهاد الذي تعرض له سواء في بلده المستعمَر أو أثناء رحلاته نحو الخارج في مرحلة ميزها تطرف الأنظمة الغربية كالفاشية والنازية.
من أهم إنجازات المفكر الجزائري مالك بن نبي، التي حفرت في سجله التاريخي كمعارضته لفكرة انقسام باكستان عن الهند وظهر ذلك في كتابه “في مهب المعركة” ليلفت إلى أن الفكرة من صنع الإنجليز، داعيا الهندوس لتجاوز الصراع، كما يحسب له مساهمته في فك أعمال شغب اندلعت في قسنطينة مع يهود، أين دعا سكان تلك المنطقة إلى حمايتهم، حتى أنه قضى ليلة كاملة تحت منزل أحد اليهوديين بعد أن كان محل تهديد وسرقة.
تميز مالك بن نبي ببعده الإنساني كونه يختلف عن بقية المصلحين كجمال الدين الأفغاني، محمد عبده وغيرهم، فكان من بين الأوائل الذين طرحوا فكرة العالمية التي ظهرت في القرن 20 ووصفها بالقدر المحتوم وسنن التاريخ، التي وجب على العالم الإسلامي الانخراط فيها حتى لا يكون كيانا معزولا، يكون قادرا على التطور بالمشاركة في بلورة الثقافة العالمية، والخروج من القابلية للاستعمار، المقولة التي جعلته محل انتقاد من طرف عدة جهات على رأسها جمعية علماء المسلمين، ومن بين الأفكار التنظيرية عند مالك بن نبي أن الانقسام عن الغرب لا يقدم شيئا للحضارة، بل كان يرى ضرورة إيجاد محور واشنطن – موسكو وطنجة- جاكرتا، حتى إنه كان من بين دعاة “لكومنولث إسلامي”، وهي بمثابة هيئة أخلاقية وثقافية، وكذلك لحضارة إفريقية آسيوية تهدف لإرساء نموذج عالمي جديد لكن تطلعاته وآماله تلاشت بسبب الفكر الاستعماري. من أهم ما كان يقوله المفكر مالك بن نبي أن الغرب لا يمكنه التأسيس لحضارة إنسانية عالمية بل إمبراطورية عسكرية تبسط هيمنتها على العالم، وأن الإسلام الوحيد القادر على تركيب الحضارة البشرية بعد إفلاس جميع الأيديولوجيات والديانات الوضعية والسماوية.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسملين.