ماكرون يبدأ معركة إخضاع الأئمة لميثاق العلمانية
عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للضغط وتهديد مسلمي بلاده، مُركزا هجومه هذه المرة على الأئمة، وطالبهم بقبول “ميثاق قيم الجمهورية”، كجزء من حربه الجديدة على ما يسميه “الانعزالية الإسلامية”.
استقبل ماكرون، بقصر الإيليزيه بباريس، رفقة وزير داخليته جيرالد دارمانين، 18 نوفمبر الجاري، شخصيات بارزة من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (رسمي)، عرضوا عليه، بناء على طلبه، الخطوط العريضة لتشكيل “مجلس وطني للأئمة”.
لكن ماكرون استغل هذا اللقاء لإمهال مجلس الديانة الإسلامية 15 يوماً فقط، لوضع “ميثاق لقيم الجمهورية” يتعين على الأئمة والاتحادات التسعة التي يتألف منها المجلس الالتزام به.
واشترط ماكرون أن يتضمن الميثاق تأكيداً على الاعتراف بقيم الجمهورية، وأن يحدد أن الإسلام في فرنسا دين وليس حركة سياسية، وأن ينص على إنهاء التدخل أو الانتماء لدول أجنبية.
وجاء هذا الاجتماع بعد يوم واحد فقط من إحالة الحكومة مشروع قانون “ترسيخ مبادئ الجمهورية”، إلى رئيسي غرفتي البرلمان، في إطار معركة واسعة النطاق يخوضها الرئيس الفرنسي للدفاع عن العلمانية في مواجهة ما يسميه “الإسلام الانعزالي”، قبيل نحو 14 شهراً من الانتخابات الفرنسية.
الأئمة مستهدفون
“كان من الممكن أن يؤدي وجود أئمة، نصبوا أنفسهم (خطباء على المنابر) إلى زعزعة النظام العام”، بحسب ما نقلته “لوموند”، عن صديق مقرب لماكرون لم تسمه.
وتحاول السلطات الفرنسية تحميل “الأئمة”، بشكل أو بآخر، مسؤولية الوقوف وراء العمليات الإرهابية التي يعتقد أن وراءها متشددون، على غرار تلك التي ذبح خلالها معلم فرنسي عقب إظهاره صوراً كاريكاتيرية مسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لتلاميذه.
وعلى الرغم من أن صحيفة “لا كروا” الفرنسية تؤكد أن العمليتين الإرهابيتين التي وقعتا مؤخراً ارتكبهما أجانب لم يكن لهم ارتباط خاص بمسجد، فإن الحكومة ترمي إلى محاولة إشعار أئمة فرنسا بالذنب، وأنهم لا يستطيعون التكفير عنه إلا بأداء قسم الولاء للميثاق الجمهوري قيد التشكيل.
وتوضح الصحيفة أن الحكومة تراهن على مجلس الديانة الإسلامية؛ “لإجباره” على تبني “ميثاق قيم الجمهورية”.
لكن مبادئ الجمهورية (العلمانية) تفرض على ماكرون فصل الدين عن الدولة، وعدم التدخل في شؤون الديانة الإسلامية، لذلك لجأ إلى مجلس الديانة والضغط عليه لتبني خطة ماكرون لمحاربة “الانعزالية الإسلامية” دون أن تكون الحكومة الفرنسية في الواجهة.
حيث ستمنح الحكومة لمجلس الديانة الإسلامية صلاحية تحديد معايير الأهلية ليصبح المسلم إمامًا، ويصدر بطاقات رسمية لأولئك المعينين، وإلغاء بطاقة الإمام في حالة المخالفات، بالإضافة إلى تدريبهم على محاربة التطرف وصياغة ميثاق يجب على جميع الأئمة التوقيع عليه، من أجل إثبات تمسكهم بالقيم الجمهورية.
ويأمل ماكرون أن يتمكن المجلس الوطني للأئمة، في غضون 4 سنوات أن ينهي وجود 300 إمام أجنبي في فرنسا “مبتعثين” من تركيا والجزائر والمغرب.
العلمانية الإسلامية
يحاول ماكرون تكريس قيم الجمهورية (العلمانية) كجزء من هوية مسلمي فرنسا، حتى وإن اصطدمت هذه القيم مع معتقداتهم، على غرار ما كان يسمى في الستينيات والسبعينيات بـ”الاشتراكية الإسلامية”.
وبذلك يحشر الرئيس الفرنسي مسلمي بلاده في الزاوية، ويخيرهم بين “العلمانية الراديكالية” أو الإسلام.
ولتفادي رفض أغلبية مسلمي فرنسا لما يسميه “قيم الجمهورية”، يبشر ماكرون بـ”الإسلام التنويري” بديلاً عن “الإسلام المتشدد”.
غير أن الاتحادات التسعة، المُشكلة لمجلس الديانة الفرنسي، سبق لها أن اختلفت بشأن صياغة “ميثاق قيم الجمهورية”، ومن الصعب أن تتفق بشأنه خلال 15 يوماً، وإن حدث ذلك تحت ضغط السلطات الفرنسية فإنها تراهن بفقدان شعبيتها بين مسلمي البلاد.
وتشير صحيفة “لوموند” إلى صعوبة اتفاق مجلس الديانة الإسلامية على ميثاق قيم الجمهورية، على الرغم من أنه تمكن، في مارس 2017، من صياغة هذا الميثاق، تحت ضغط الحكومة في أعقاب هجمات إرهابية.
لكن الصحيفة تستدرك وتوضح أنه كان يكفي أن يعلن رئيس مجلس الديانة الإسلامية حينها عن الميثاق، حتى يتنصل جزء كبير من الاتحادات التسعة منه، ما أفسد العمل المنجز.
لذلك من المستبعد أن يتم الاتفاق على ميثاق جديد في غضون 15 يوماً، رغم الضغوط الشديدة التي يمارسها عليهم ماكرون.
ماكرون لفت نظر ممثلي الاتحادات التسعة لمجلس الديانة الإسلامي، الأربعاء، إلى أنه يعلم أن عدداً منها لديه مواقف غامضة من هذه الموضوعات (قيم العلمانية)، محذراً من أنه يحب عليها “الخروج من هذا الالتباس”.
لكن ماكرون نفسه يقع أمام التباس من نوع آخر، فهو يدافع عن حرية التعبير، وفي الوقت ذاته يضيق على المسلمين حرية المعتقد، وحرية التعبير عن رفضهم للإساءة لنبيهم الأكرم عبر صور كاريكاتيرية مسيئة، ويحاول أن يفرض عليهم مواثيق قد تتعارض في بعض بنودها مع معتقداتهم، على غرار قضية “اللحم الحلال”.
اليمين المتطرف يريد إجابات
يوضح الناشط الجزائري المقيم في فرنسا د. عبد القادر حدوش، أن ذبح معلم فرنسي على يد مسلم من أصل شيشاني، شكَّل صدمة في أوساط الهيئة التعليمية في البلاد، التي تشكل كتلة ضاغطة وقوية.
ويضيف أن الفرنسيين وخاصة التيارات اليمينية يريدون إجابات واضحة من الحكومة في مكافحة التطرف.
وفي هذا السياق، يحاول ماكرون تشديد إجراءاته ضد المسلمين في فرنسا وقياداتهم الدينية سواء في مجلس الديانة الإسلامية أو الأئمة ذاتهم، خاضعاً لضغوط اليمين المتطرف ومخاوف خسارته للانتخابات الرئاسية المقررة في فبراير 2021.
يمارس الإعلام اليميني المتطرف عملية تجييش خطيرة ضد الإسلام في فرنسا، على غرار ما كتبه إيفان على صحيفة “لوفيغارو”، قائلاً: يجب على قادة المشي أثناء النوم أن يستيقظوا على هيجان الإسلام، خلاف ذلك، لن يكون أمام الفرنسيين خيار سوى الخضوع أو الحرب الأهلية.
ويضيف ريوفول، داعماً خطوات ماكرون ضد المسلمين: يعرف الرئيس، أكثر من غيره، أن العدو (الإسلام) تغلغل في المجتمع وفي أجزاء كثيرة من الدولة.
فلم يعد اليمين المتطرف يفرق بين مسلم معتدل وآخر متشدد، بل أصبحت المعركة اليوم في نظرهم ضد “الإسلام” كديانة، ومحاولة إخضاع تعاليمها إلى قيم ليست بالضرورة أنها تتوافق مع قيمها.
(المصدر: مجلة المجتمع)