ماذا يلزم الفقيه في المستجدات حينما تختلف تقديرات الخبراء؟
بقلم بسام ناصر
صاحب قرارات إغلاق المساجد، وحظر صلاة الجمع والجماعات في كثير من الدول العربية والإسلامية في إطار التدابير الصحية الموصى بها للحد من انتشار فيروس كورونا جدل واسع، كما وُجهت انتقادات شديدة لأداء دور الإفتاء الرسمية في كثير من دول العالم الإسلامي، خاصة فتاويها وقرارتها الدينية المتعلقة بجائحة كورونا.
وتركزت تلك الانتقادات بشكل لافت على انسياق دور الإفتاء الرسمية، والفقهاء الذين يدورون في فلكها وراء تقديرات بعض مسؤولي ملف الأوبئة الذين غالبا ما يصرحون بوجود دراسات تثبت أن حظر الجمع والجماعات يقلل من أعداد الإصابات، وهو ما ينفيه خبراء آخرون، مؤكدين على أن الحظر غالبا ما يتسبب في كثرة انتشار الفيروس نتيجة ما يسبقه من تدافع واكتظاظ، وفق الدكتور عزمي محافظة، عضو لجنة الأوبئة في الأردن.
عادة ما يؤكد الفقهاء أنهم قبل إصدارهم فتاوى النوازل والمستجدات، يحرصون على الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، للاستناد إلى رأيهم وتقديراتهم في إصدار الفتاوى المناسبة لها، ولكن ما الذي يلزم الفقهاء حينما تختلف تقديرات الخبراء؟ وكيف يشكل الفقهاء موقفهم الشرعي بعد أن تتباين آراء آهل الاختصاص، ليؤدوا وظيفتهم الدينية بحرية واستقلال بعيدا عن إملاءات السلطة المباشرة وغير المباشرة؟
يتمثل الواجب الشرعي على الفقيه بـ”بيان حكم الله تعالى في كل حادثة من الحوادث من خلال: علمه بالنصوص أولا، ثم علمه بالواقع ثانيا، ثم مهارته في إنزال النص المعين على الواقعة المحددة” حسب الأكاديمي والباحث الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري.
وأضاف: “ومعرفة حكم الله تعالى لا يصل إليها كل من اشتغل بالفقه، أو حصل على درجة علمية فيما يسمونه “الإسلاميات”، أو من صار ذا منصب سياسي كوزير الأوقاف ونحوه، بل إنما يصل إلى حكم الله من استكمل أدوات الاستنباط والاجتهاد، بمقتضى شروطه الكثيرة والصعبة، لذا فعلى من لم يصل لتلك المرتبة أن يرى ماذا قال المجتهدون ممن سبقوه في النوازل، أو ما يشبهها”.
وتابع الدمنهوري حديثه لـ “عربي21” بالقول: “أما استعانة الفقيه بأهل الخبرة في الجوانب الفنية فلازم له حتى تكتمل صورة الواقع الذي لا بد من إدراكه جيدا ليتمكن من تنزيل النص عليه، ثم إن قول هؤلاء الخبراء قد يكون ملزما للفقيه، وقد لا يعتد به، وقد يكون للاستئناس، فلا يعتد به إن حرموا حلالا، أو أحلوا حراما”.
ومثّل على ذلك “بما لو قاله العلماء من أن لحم الخنزير مفيد لصحة الإنسان، أو شرب الخمر مفيد في البلاد الباردة، أو الصيام لفترات طويلة مضر بصحة الإنسان، فلا اعتداد في هذا كله بأقوالهم، إن فرضنا وجودها أصلا”.
أما بخصوص الفتاوى المتعلقة بجائجة كورنا، فوفقا للدمنهوري فإن “على الفقيه أن ينظر حينذاك: إن كان الضرر محققا أو محتملا؟ فإن كان محققا: فيمكن القول فيما يخص صلاة الجماعة إن تقليد مذهب من المذاهب الفقهية التي لا ترى وجوب صلاة الجماعة في المسجد فرضا كالشافعية ممكن، مع ضرورة فتح المساجد وعدم إغلاقها، وعدم تعطيل الأذان، وأن تقام الصلاة بالاقتصار على الإمام وخادم المسجد مثلا، أو بعض المصلين المعلومين لتظل الشعيرة حية”.
وأردف “وكذلك الحال في صلاة الجمعة، وصلاة التراويح، فإن كان بالإمكان إقامتها لجميع المصلين مع الأخذ بالتدابير الصحية اللازمة، وإن تعذر فلا ينبغي تعطيلها، ولا ينبغي خلو البلاد بطولها وعرضها من هذه الشعائر، ولا ينبغي اتخاذ قرارات لمدة طويلة، حيث أنها ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها بحسب الظروف القائمة”.
وشدد الدمنهوري على أن “مهمة الفقيه تتمثل في المحافظة على شعائر الإسلام، إذ يختلف نظره عن نظر الطبيب والسياسي، لأن نظرهما يقتصر على جانب من الجوانب بحكم وظائفها، ونظر الفقيه يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، أما تعطيل الصلوات كالجمع والجماعات بالكلية فلا أراه محققا للمصلحة الدنيوية، ولا هو من الفقه في الدين”.
من جهته قال الأكاديمي المغربي، المتخصص في الفقه المقاصدي، الدكتور عبد النور بزّا “المطلوب من الفقيه في النوازل والمستجدات أن يتحرى في الأمر، ويسأل أهل الاختصاص ويأخذ برأي الأوثق منهم فالأوثق، بحسب معرفته بهم، أو بمن يعرفهم ويثق فيهم أيضا”.
وتابع: “فعلى الفقيه أن يأخذ برأي الخبير الذي يثق فيه، خاصة في النوازل التي تكون مدعاة للتوظيف السياسي، سواء أكانت الجهة مؤسسة أو دولة، وأن يأخذ بما اطمأن إليه من آراء، وبناء عليه يبني القول الذي يطمأن إليه في اجتهاده الشرعي، بحسب قواعد الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد”.
وردا على سؤال لـ “عربي21” بشأن ما يجب على الفقيه فيما يتعلق بجائحة كورونا من أحكام، أوضح الفقيه المقاصدي، عبد النور بزّا أن “النظر فيها يتعلق بمقصدين كبيرين من مقاصد الشريعة، الأول منهما يتمثل بحفظ مقصد جزئي من جزئيات الدين، والثاني: حفظ مقصد كلي ألا وهو حفظ النفس، فإذا تعذر العلاج الناجع فإن ذلك سيؤدي إلى إهلاك تلك النفس، لكن إن توقفت صلاة الجماعة فإن ذلك لن يفضي إلى تعطل الصلاة بالكلية”.
وأضاف: “وعدم آداء الصلاة في المسجد هو من باب فوات الأفضل في الأجر، والشارع يقدم مصلحة الأبدان إذا كانت معرضة بكليتها للهلاك، أو للضرر الشديد الذي لا يطاق، على جزئي من جزئيات الدين، كتأخيره عن وقته، أو أدائه خارج المسجد، وهذا الأمر لعلمائنا القدامى أقوال فيه حينما تحدثوا عن إنقاذ الغريق في يوم رمضان حيث يجب على من يعرف السباحة أن ينقذ الغريق ولو أفطر بشربه للماء، فإن إنقاذ النفس من الموت مقدم على صيام ذلك اليوم، أو تأخير الصلاة عن وقتها إذا اقتضى الأمر إنقاذ ذلك الغريق حتى فات وقت أدائها”.
وطبقا لبزّا “فعلى الفقيه إذا ما اختلفت تقديرات الخبراء حول نازلة ما، كجائحة كورونا مثلا “الأخذ بالأحوط عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فيرجح رأي تأجيل أداء الصلاة في المسجد لأن فوات النفس بالموت أو إصابتها بالضرر الذي لا يطاق لا يستدرك، بينما فوات فضل الصلاة في المسجد يستدرك بالنية، وهذا من فقه الفقه الذي قل من يفقهه” على حد قوله.
بدوره أكدّ الأكاديمي والباحث الأردني، المتخصص في الفقه وأصوله، الدكتور محمد الطرايرة أن “واجب الفقيه هو تقديم اجتهاده الذي يدين الله به، بحسب ما أداه إليه اجتهاده من فهم الواقعة باطلاعه واستماعه للخبراء وأهل الاختصاص، ومن ثم إصدار الفتوى التي تناسبها”.
وتابع لـ“عربي21”: “وفي حالة حدوث النزاع والخلاف بين الفقهاء في نازلة ما ـ إن حدث ذلك بينهم ـ فولي الأمر هو المخول بحسم ذلك الخلاف” لافتا إلى ما اعتبره “مشكلة أكبر من وجود الخلاف أو عدم وجوده، ألا وهي فقدان الثقة بالمعلومة وبالمعطيات التي تردنا من قبل الأطباء وأهل الاختصاص بالفيروسات، إذ نراهم مختلفين في تقديراتهم وآرائهم، وهم أعضاء في لجان الأوبئة، وهو ما ينعكس بالتالي على اجتهادات الفقهاء”.
وأشار في نهاية كلامه إلى أن “غالب الفقهاء وأهل العلم، والدعاة وطلبة العلم، في بداية الجائحة كانوا متفقين على أهمية الإغلاق، تقديرا منهم لخطورة الأمر، ولأن المعطيات التي كانت متوفرة حينذاك تفيد بأن الإغلاق مطلوب ونافع، لكن الفقيه بعد ذلك حينما أحاط بالمسألة من جميع جوانبها، ورأى فتح قطاعات معينة، ووقف على اضطراب شديد في المعلومات، حمله ذلك على إعادة تقدير الموقف الشرعي بما يدين الله به على الوجه المقبول والمرضي”.
(المصدر: عربي21)