بقلم أحمد التلاوي
من بين أهم القضايا التي شغلت المفكرين المسلمين في العصر الحديث وزمننا المعاصر –أي فترة الردَّة الحضارية والتفكك– هي مسألة: ماذا يعني أن يرى المسلم -فردًا وجماعة وأمة- العالم من خلال التصور الإسلامي؟
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه القضية ليست ضربًا من الترف الفكري، أو الرياضة الذهنية في مباحث الفلسفة الإسلامية؛ حيث إنها ترتبط بحزمة من القضايا والأمور ذات الطابع التطبيقي والعملي، التي تتصل بقضية العقيدة ذاتها.
فترتبط هذه القضية في صلبها بقضية: ماذا يعني أن أكون مسلمًا؟ وهو تساؤل يعكس فهماً حقيقياً من جانب المفكرين والتربويين المسلمين الذين طرحوه في أدبياتهم لمفهوم الدِّين، وبالذات الدِّين الإسلامي، كدينٍ شامل وخاتم للرسالات الإلهية التي أنزلها الله تعالى على رسله لهداية البشر.
فالدِّين: -من المعروف- أنه منظومة من العقائد والتعاليم التي تنظم فهم الإنسان لربه وحقيقته، وكذلك علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بذاته وبالآخرين، مسلمين وغير مسلمين، ومن مختلف التصنيفات الأخرى للمجموعات البشرية التي توجد من حوله.
ومن بين ما يتضمنه ذلك، مفهوم الإنسان لوجوده والهدف منه، وبالتالي فإن الحياة وفق التصور الإسلامي تعني: كيف يطبق الإنسان تعاليم دينه؟ وكيف يعمل على تقييم أية ظاهرة أو شخص أو جماعة أو فعل أو سلوك… إلخ، من زاوية: إيجاب أو سلب، حلال أم حرام. ومن زاوية التفسير الإسلامي أو التصنيف الإسلامي لها، وأحكام الشرع بشأنها.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى خطوة أوسع، وهي عمارة الأرض، ونشر شريعة الله تعالى، أي ما ارتضاه الشارع الأعظم للبشرية من أحكام، وبالتالي من تصورات لشكل الحياة في هذا العالم، ويكون الأمر أفضل وأكثر فاعلية بعد توفير الظروف المناسبة، مثل وجود حكومة إسلامية، تعمل على نشر تعاليم الإسلام في كل أنحاء العالم، بأسلوب أكثر مهنية، وأكثر توسُّعاً في أثره.
وبالتالي فإن الأمر في هذا الإطار، هو من صميم مهام المسلم، ولن يدرك هذه المهام إلا من خلال فهم أهمية أن يرى العالم من خلال التصور الإسلامي.
ومن بين أهم من اهتموا بذلك، كان الشهيد سيد قطب، وفي الغالب العام، كانت كتاباته في هذا المضمار، فيما يخص العقيدة، وسبقه عبد الرحمن الكواكبي، الذي مال إلى تصنيف مفهوم التصور الإسلامي في المجالات السياسية، ثم تلاه الإمام محمد الغزالي، ولكنه نحا أكثر إلى المنحى التربوي والفكري العقلي، مستنداً إلى القرآن الكريم بالأساس.
وفي حقيقة الأمر، فإن الفلاسفة والمفكرين والتربويين المسلمين الذين قدموا تصوراتهم حول هذا الأمر؛ استندوا في أفكارهم إلى القرآن الكريم باعتباره المركزية الأولى للمسلم في هذا الصدد.
أما السُّنَّة النبوية الشريفة، يمكن اعتبارها أول إطار تطبيقي لمفهوم التصور الإسلامي للعالم، وفق ما جاء في القرآن الكريم، وبالتالي فإن أهمية دراستها تكمن في أنها تعبِّر عن الممارسة النبوية لهذا التصور، وبالتالي يمكن القول: إنه التصور الأكثر نقاءً، والأكثر صحة للتصور الإسلامي للعالم من حولنا، وماهية واجبات المسلم في هذه الحياة.
تعتبر السُّنَّة النبوية الشريفة أول إطار تطبيقي لمفهوم التصور الإسلامي للعالم، وفق ما جاء في القرآن الكريم، وتمثل التصور الأكثر نقاءً، والأكثر صحة للتصور الإسلامي للعالم من حولنا
ولعل أبرز النماذج أمامنا في هذا الأمر، وتؤكد هذه الأفكار، كتاب “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، للأستاذ سيد قطب، فالكتاب مُصنَّف عند الكثير من المفكرين على أنه من كتب التوحيد؛ حيث يقدم فيه التصور الإسلامي لله عز وجل، ثم الوجود والكون والحياة والإنسان، وكذلك مكانته في الكون، ومهامه فيه، استناداً إلى النصوص القرآنية.
وفي أهمية هذا الأمر؛ يقول: “إن تحديد خصائص التصور الإسلامي أمر ضروري؛ لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود… لابد من تفسير يقرب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التى يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وهذه تشتمل على حقيقة الكون… وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان… وما بينها جميعاً من تعامل وارتباط”.
ويتصل بذلك تصور الإنسان للقيم الكبرى في حياته، مثل الحرية والعدالة والمساواة؛، فهذه القيم الثلاث المركزية، وكذلك قضية الأخلاق، تُعدُّ الأكمل بين النظريات والأديان الأخرى، وكذلك مختلفة تماماً في مكونها عن نظرة هذه النظريات والأديان الأخرى.
فالحرية في الإسلام منضبطة بضوابط الشرع، فيما في الغرب هي مطلقة، والقيد الوحيد عليها، هو حريات الآخرين، وهو ما يقود إلى مفاسد عدة، من أسوئها: الشذوذ، والزنا، والأمراض الجنسية والنفسية، وغير ذلك.
الحرية في الإسلام منضبطة بضوابط الشرع، فيما في الغرب هي مطلقة، والقيد الوحيد عليها، هو حريات الآخرين، وهو ما يقود إلى مفاسد عدة، من أسوئها: الشذوذ، والزنا، والأمراض الجنسية والنفسية، وغير ذلك
كما يشمل ذلك تصور الإنسان للكون من حوله، بصورة تنبني على العقل والنقل في آنٍ.
وفي هذا فإننا نجد أن منهج القرآن الكريم في هذا الصدد، ينسجم بشكل كامل مع الفطرة التي خلقها الله تعالى في مخاطبة العقل، وهو ما جاء في القرآن الكريم في أكثر من موضع، خاطب فيها العقل الإنساني؛ للتدليل على وجوده وقدرته سبحانه وتعالى.
ففي سُورة “الواقعة”، نجد أن الله تعالى يستعمل المنهج العقلي في إقناع غير المسلمين؛ لكي يوقنوا بحقيقة الإله الواحد، خالق هذا الكون ومدبره، وحده لا شريك له؛ فيقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}.
والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات الكريمة التي تقدم تصوراً شاملاً حول الله عز وجل وصفاته وطلاقة قدرته، من خلال منهجية النظر العقلي في الخلق، سواء خلق الإنسان نفسه، أو الكون من حوله.
وتُعتبر التربية هي الأداة الأولى لغرس هذه الأفكار في نفس المسلم، وهي الأداة التي لجأ إليها النبي الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في سنوات البعثة الأولى، وهي المرحلة التي قادت إلى تنشئة جيل فتح اللهُ تعالى عليه العالم القديم كله في أقل من ثلاثة عقود، انطلاقاً من لا شيء كانوه قبل الإسلام، وهو ما يعطينا لمحة عن الأهمية الكبرى لهذا كله.
تُعتبر التربية هي الأداة الأولى لغرس الأفكار في نفس المسلم، وهي الأداة التي لجأ إليها النبي الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في سنوات البعثة الأولى، وهي المرحلة التي قادت إلى تنشئة جيل فتح اللهُ تعالى عليه العالم القديم كله في أقل من ثلاثة عقود
وفي حقيقة الأمر فإن هذه المهمة –التربية على التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية– من الصعوبة بمكان في الوقت الراهن. أي كيف يمكن تنشئة الفرد المسلم والجيل المسلم، على أساس أن ينظر إلى كل شيء وفق هذا التصور الإسلامي.
فهناك أولاً ظروف سياسية تتعلق بالأنظمة المستبدة الحاكمة، والتي تتعامل مع كل ما هو إسلامي على أنه مهدِّد خطِر لها، وبالتالي يتم القضاء عليه.
وهذه التنشئة لن تتم من دون وسائل التربية، وهي من أكثر الأمور استهدافاً من جانب الأنظمة الحاكمة ذات الهوية العلمانية، والمدعومة من قوى غربية تنتمي إلى حضارة تتناقض في تصوراتها عن هذا العالم، تناقضاً كاملاً مع التصور الإسلامي، وبالتالي فإنها تتفق مع الأنظمة الحاكمة في معاداة التيارات والحركات الإسلامية.
وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي، فإن الفترة الطويلة التي قضتها الأمة تحت حكم المستعمِر ثم الأنظمة الحالية، أفسدت الكثير من فطرة الأجيال الناشئة، وأبعدتها –في ظل طبيعة المناهج التعليمية وما تقدمه الوسائط الإعلامية والثقافية من حولهم– عن هويتهم وانتمائهم الإسلاميَّيْن.
وبالتالي فإن هذا الأمر يُعدُّ من أبرز وأثقل المهام الملقاة على الطليعة المسلمة المثقفة، سواء أكانوا دعاة أو تربويين أو غير ذلك، على أن يبدأ الأمر من مناطه الأساسي. العقل والروح، ومن دونهما لا يكون الإنسان صحيح الإنسانية!
(المصدر: موقع بصائر)