بقلم عمر السطي – مدونات الجزيرة
لا نبالغ إذا قلنا بأن فصل الدول عن الدين، يشكل أحد أهم مرتكزات النهضة الإسلامية المنشودة، فبالعودة إلى تاريخ المسلمين منذ عصوره الأولى، نجد أن الفساد بدأ يدب في أوساط المسلمين عندما أصبحت الدولة تتخذ من الدين أداة طيعة لإضفاء المشروعية على سياساتها، وذلك من خلال تجنيد ما عرف بعلماء السلاطين، الذين اجتهدوا في استلهام النصوص التي تشرعن الحكم الاستبدادي.
إلا أن كمّ الفساد الناتج عن هذا الاستغلال للدين، لم يكن بالحجم الذي نعيشه الآن، فبالنظر إلى الوسائل التي كانت بيد الدولة، نجد أنها وسائل لم تكن تغطي كل المساحات الجغرافية، ولم تكن أيضا تعم كل الشرائح المجتمعية، حيث ظلت هناك مساحات جغرافية لا تتأثر بقرارات الدولة، خصوصا تلك البعيدة عن مراكز القرار، كما كان هناك علماء مستقلون يمارسون التدافع من خلال نشر تعاليم الدين الصحيحة والمتجردة عن الوصاية، ومن خلال تربية أجيال متجردة أيضا، نظرا لانفصال التربية عن الدولة في الغالب.
ولكن بالنظر إلى سلطان الدولة في عصرنا هذا؛ نجد أن الأخيرة قد امتدت يدها إلى كل مناحي الحياة، فطالت المدرسة، ومناهج التعليم، والإعلام، والنظم والقوانين، وهذه مجالات تشمل كل المجتمع وتغطي كل الجغرافيا، نظرا لطبيعة الدولة الحديثة (دولة الحدود الجغرافية المرسومة بعناية، دولة سايكس بيكو، دولة جواز السفر). أما الجديد المتعلق بموضوعنا هو تأميم الحقل الديني، وذلك عبر احتوائه بوزارات تختص بالأمور الدينية، من وقت إغلاق المسجد إلى نوعية الخطب …إلخ، وبهذا أحكمت الدولة سيطرتها على الدين بكل الوسائل؛ إلا النادر المنفلت طبعا.
وهنا لابد أن نلفت النظر إلى اختلاف جوهري بين العالم الإسلامي وأوروبا (الغرب)، فيما يتعلق بالعلاقة مع الدين، حيث كانت أزمة العالم الإسلامي عبر تاريخه تكمن في التدخل السافر للدولة في الدين كما سبقت الإشارة. بينما كانت أزمة أوروبا تكمن في تدخل الدين الذي لم يستوعب تحولات الإنسانية، ولا تراكم العلم في الدولة وإحكام سيطرته عليها، ومن هنا نجد أن أوروبا استطاعت أن تحقق نهضتها بعدما رفت شعار “فصل الدين عن الدولة” (بعد تحقيقها لنهضتها صدرت لنا شعاراها مع الاختلاف الجوهري في طبيعة العلاقة مع الدين). وقد كان حري بالعلم الإسلامي أن يرفع شعاره الذي يتوافق مع خصوصيته الحضارية، وهو “فصل الدولة عن الدين”.
الدين الإسلامي لا يقبل الوصاية من أي طرف كان، لا من نبي، ولا من ملك، ولا من عالم، بل من خصائصه الذاتية أن يلفظ كل دخيل على تعاليمه
لأنه الشعار الذي يتوافق مع خصوصية المرحلة في العالم العربي والإسلامي، أما الشعار التقليدي الذي ظهر في أوروبا، فقد أصبح شعارا متجاوزا منذ أمد! فالدين عندنا لم يمتلك مؤسسة قوية كالكنيسة التي تجيش الجيوش، وتجمع الأموال، وتتحكم في نواصي الحكم والإدارة، فما سبق أن سمعنا مثلا: بأن مسجد دمشق استولى على أراضي في المنطقة! أو أن مسجدا في الأندلس قد أطاح بالأمير الفلاني! وإن أي تصور من هذا القبيل، هو تصور مشوه! كذلك إن كان المراد بفصل الدين عن الدولة، هو فصل الأثر الوجداني للدين عن الحاكم العربي، فإن هذا الشعار أيضا متجاوز بسنوات ضوئية، لأن الحاكم العربي انتقل من مرحلة الانصياع لتعاليم الدين، إلى مرحلة ترك الدين، إلى مرحلة محاربة الدين، ثم وصل الآن إلى مرحلة توظيف الدين! عندما يستلزم الأمر إضفاء بعض المشروعية وتخدير من يمكن أن يطالهم التخدير، وتمويه الرأي بمقولة “الدين هو المسئول” إذن فلتحاربوا الدين عوض أن تحاروا من وظف الدين!
هذا فيما يتعلق بحقيقة الشعار، وبحقيقة الواقع. أما فيما يتعلق بحقيقة الدين، فهناك مسوغات تدعوا إلى فصل الدولة عن الدين، ذلك أن الدين الإسلامي لا يقبل الوصاية من أي طرف كان، لا من نبي، ولا من ملك، ولا من عالم، بل من خصائصه الذاتية أن يلفظ كل دخيل على تعاليمه، ومن خصائصه أن يتعطل عمله، وتقل فاعليته في النفوس، إذا تدخل طرف ثالث في العلاقة الثنائية بين الخلق والخالق. من هذا المنطلق يمكن تفسير خوض الإسلام لأولى معاركه مع الشرك، لا مع أي تكتل آخر! فالشرك في عمقه تدخل “المشروك به” في العلاقة الثنائية بين الخلق والخالق. ونفس التدخل السافر هذا من طرف الدولة؛ يعطل هذه العلاقة ويفسد هذه الرابطة المقدسة!
والدين أيضا يعمل من تلقاء نفسه، ولا يحتاج لمحركات خارجية، ولا لقنوات توجه حركته، ولا لكابح يكبح انفلاته! فمحركاته ذاتية، (وقود إيماني، وتصورات كونية، وشريعة تحدد طريق العمل) فبمجرد اعتناق الإنسان للإسلام اعتناقا ناتجا عن قناعة إيمانية راسخة، يشرع في أداء وظيفته” التوحيد للخالق والوحدة للخلق” على حد تعبير الدكتور منى أبو الفضل. وكابحه أيضا ذاتي يمنع انفلات الطاقات الإيمانية وتحولها من الإعمار إلى الاستخراب، عبر ما يتوفر عليه الدين من كوابح (نواهي محرمات).
عندما تتدخل الدولة في الدين، وتجعل منه وسيلة لتحقيق مصالحها الدونية، فإنها تفسد الدين، وتفسد ذاتها، لكونها استعملت وسيلة خسيسة لتحقيق مآربها
المسوغ الآخر لدعوى الفصل هذه، هي ما يتعلق بحقيقة المصالح لدى كل من الدين والدولة، ففي الوقت الذي نجد أن الإسلام (الشريعة) جاء لرعاية مصالح العباد، نجد أن الدولة أيضا تدعي رعاية المصالح! لكن أية مصالح؟ وهنا يكمن الفرق الجوهري، فإذا كانت المصالح التي يرعاها الدين ثابتة في جوهرها (الضرورات الخمس) متغيرة في وسائلها، فإن نظرية المصالح لدى الدولة الحديثة لا تخضع لأي ضابط خلقي ولا ديني!؟ إذ أن الظلم الذي يعتبر ملفوظا كونا، يصير وسيلة لتحقيق مصالح الدولة، التي يمكن إجمالها في “الحفاظ على الوجود” و “تنمية هذا الوجود”، فالنسبة للدول القوية تتجه إلى الخارج لتقوية وجودها عبر استخراب واستحلاب الدول الضعيفة، يلاحظ هنا أن مصالحها منفلتة من كل المعايير الخلقية، حيث يمكن توظيف كل الوسائل المتاحة بما فيها الدين، فيكون الكابح الوحيد هو الضعف المادي، وهو فقط ما يكبح الدولة الضعيفة التي تسعى إلى تنمية هذا الوجود.
لهذا عندما تتدخل الدولة في الدين، وتجعل منه وسيلة لتحقيق مصالحها الدونية، فإنها تفسد الدين، وتفسد ذاتها، لكونها استعملت وسيلة خسيسة لتحقيق مآربها. واضطرارها إلى استعمال الدين دليل على ضعفها وقوته، فلو لم يكن للدين هذا الأثر البليغ في النفوس لما تطرقت إليه الدولة لتطويع العامة، ولو لم تكن الدولة أفلست كل أوراقها الأخرى لما اضطرت إلى استعمال الدين. وأما فيما يتعلق بجانب الآثار الانقسامية داخل النسيج المجتمعي التي خلفتها وصاية الدولة على الدين وتأميمها للحقل الديني، فإننا نجدها قد أفرزت لنا ثلاث فئات متصارعة تختلف علاقاتها بكل من الدين والدولة.
“الفئة الوسيلة”، الفئة التي تستخدمها أجهزة الدولة وتوظفها سياسيا لشرعنة الفعل وضرب الخصوم. وهي التي ينعتها البعض ب “الطابور الخامس” أو “وعلماء السلاطين”.