مقالاتمقالات مختارة

ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟!

ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟!

بقلم أسامة الرشيدي

مقدمة
اليوم، والثورة السورية في عامها التاسع، وقد تقلصت المناطق المحررة إلى أقصى درجاتها، وانحسر الثوار الأحرار في جيب إدلب الخضراء وريفها، وبلغ شهداء الثورة قرابة المليون شهيد، واضطر أكثر من عشرة مليون إنسان إلى ترك بيوتهم إلى مخيمات النزوح الداخلية، ودول اللجوء الخارجية، فضلًا عن التدمير الذي لحق بالبنى التحتية للدولة. بعد كل هذا، قد يسأل سائل: وماذا بعد؟!

بعد كل هذه التضحيات الجسام، ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟

وأنا أقول: إن الناظر المتفحص في تاريخ الثورة السورية وأحداثها، يدرك جيدًا أن النتائج الإيجابية لثورة أهل الشام أكثر من أن تُحصى، ويصعب على باحث أن يحيط بها، لأنها أثرت تأثيرًا إيجابيًا في اتجاهات كثيرة، وعلى الأمة بأسرها، ولا تزال العقول والأفهام تتقلب بين أحداثها لتعود منها بالفوائد والعبر. وفي هذه السطور القليلة أحاول أن أرصد بعضًا من إيجابيات هذه الثورة المباركة، إبقاءً للأمل في النفوس، ودفعًا للقنوط عن القلوب، واستخراجًا لبعض أزهار ربيع الحرية من بين أشواك خريف الظلم والقهر، فأقول مستعينًا بالله:

o لقد أحيت الثورة السورية روح الجهاد في الأمة كلها، وجددت فيها روح البذل والتضحية والفداء في سبيل نصرة الدين والمظلومين، فقد رأينا تداعي الشعوب المسلمة لنصرة إخوانهم المظلومين في الشام بكل ما يستطيعون، من إندونيسيا في أقصى الشرق إلى موريتانيا في أقصى الغرب.

o لقد أحيت الثورة شعبًا بأكمله وأعادته إلى دينه وربه، فالناظر في حال الشعب السوري قبل الثورة، يجد أن نظام الأسد قد عمل على تغييبهم تمامًا عن حقائق الإسلام ومعانيه، حتى نشأ جيل لا يعرف الله – إلا قليلًا – ، ولا يعرف طريق المسجد، ولا يمثل الإسلامُ في حسه شيئًا على الإطلاق، وبلغ الانحلال ذروته – خاصة مع وجود النصيرية – وانتشر بين الناس سب الله ورسوله، وحوربت مظاهر الدين الصحيح في البلد، وقُهر وسُجن وعُذب وقُتل كل من يحاول أن يرفع اسم الله وأن يعلي من شريعته، فجاءت الثورة بأمر الله، لتحيي هذه الأمة الميتة الغارقة في بحور التيه، ولتعيد الشباب إلى ربهم، وتأخذ بأيديهم إلى الإسلام في أسمى درجاته، وأرقى معانيه، لنرى شابًا لم يكن يعرف طريق المسجد قبل الثورة، قد أصبح – في ظل الثورة – وأعظم أمانيه أن يرقى إلى ربه شهيدًا في سبيل دينه.

o أظهرت الثورة مدى خيرية الأمة المسلمة، وأن الخير في أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقطع إلى قيام الساعة، وضرب شباب الإسلام في هذه الثورة نماذج خالدة للتضحية والفداء في سبيل الله عز وجل، وأظهروا من صنوف الشجاعة والإقدام في مواجهة العدو الصائل المدجج بالسلاح، ما تعجب له النفوس، وتقر به العيون، ليعيدوا لنا سيرة أبطال الإسلام الأوائل حية في واقع الأمة اليوم، ليكون هؤلاء الأبطال مثالًا يحتذى، ونبراًسا تهتدي به أجيال الأمة الناشئة، فتسير على دربهم – إن شاء الله – حتى تحقق للأمة النصر المنشود.

o أظهرت الثورة السورية أن الأمة قادرة على إنتاج أدوات القوة إن استعادت مقدراتها من مغتصبيها من جوقة العملاء المتسلطين على رقابها. فعلى قلة إمكانات الثورة، فقد استطاعت إنتاج الكثير من الأسلحة والذخائر محلية الصنع، من مدافع هاون وراجمات صواريخ متعددة العيارات والمدايات، وأنتجت محليًا ذخائر لأسلحة متنوعة، وقناصات متعددة الأعيرة، وطائرات مسيرة (درونز) بقدرات كبيرة جدًا – لم تنتجها بعض الدول حتى – وطوّرت العديد من الأسلحة المغتنمة من النظام لتصبح أكثر فاعلية، إلى غير ذلك الكثير والكثير جدًا مما ابتكرته عقول أبناء الأمة في هذه الثورة، لتبقى هذه الصناعات رصيدًا في أرشيف الأمة الخالد، لتستفيد منه الأمة في صراعها الطويل.

o كذلك أخرجت الثورة السورية الكثير من الكوادر المتميزين في شتى المجالات من أبناء الأمة الذين تركوا بصماتهم في صفحات تاريخ الأمة، لتثبت أن هذه الأمة حيةٌ ولودٌ معطاءة، وأن أبناءها قادرون على العودة بها إلى مكانتها الطبيعية، لتقود الناس وتهديهم إلى الحق والنور والرشاد.

o لقد أثبتت الثورة السورية أن الجهاد على بصيرة، هو الوسيلة الأنجع لتحرير الشعوب من سلطان الطواغيت. فعلى الرغم مما آلت إليه الثورة في الوقت الراهن، وعلى الرغم مما اعتراها في بعض مراحلها من مظاهر التقصير في بعض الجوانب، إلا أن من عايش الثورة أو قرأ عن مراحلها، وتطور الأحداث خلالها، يدرك أن الثورة قد نجحت في إسقاط نظام الأسد فعليا.

ففي عام ( 2013 ) كانت الثورة تسيطر على ما نسبته ( 75 % ) تقريبًا من مساحة سوريا، مع سيطرةٍ على موارد الدولة الزراعية والصناعية والنفطية، وانهاك جيش النظام، بانشقاق عناصره وضباطه، وتحييد جنوده في المعارك بالقتل والإصابات، واغتنام معداته، والسيطرة على مطاراته الحربية، وإسقاط طائراته، إلى غير ذلك من صور تقدم الثورة على حساب النظام على كافة الأصعدة.

كل ذلك على الرغم من ضعف الإمكانات، وجوانب القصور في صف الثورة. إذن ما الذي حدث، حتى وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ هذا سؤال كبير جدًا، ولكن اختصارًا أقول: إن الدول قد تداعت لإنقاذ النظام المتهاوي المتهالك، فأخذت روسيا تمده بآلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر، وأنواع الوقود، والمواد الغذائية، والخبراء العسكريين، وتدخلت إيران عسكريا بذراعها اللبناني حزب الله، وبالفيالق النوعية في جيشها من الحرث الثوري وغيره، واستقدمت أكبر قادتها العسكريين وخبراءها الاستراتيجيين لإنقاذ نظام الأسد من التداعي التام، ودعمت اقتصاد النظام بمئات المليارات – مما أثر على اقتصادها كثيرًا – ، ومع كل هذا الدعم بكل أشكاله وأصنافه، فقد حافظت الثورة على تقدمها النوعي على حساب النظام وحلفائه، حتى أوائل عام (2016 ).

لكن بعد الإخفاقات المتتالية للنظام وحلفائه الإيرانيين في مواجهة الثورة، أعلنت روسيا تدخلها العسكري المباشر أواخر عام ( 2015 ) ، لتزج بأعداد كبيرة من قطعها العسكرية (الجوية – البحرية – البرية ) في أرض المعركة، وتستقدم شركات المرتزقة الروسية مثل ( شركة واغنر) ، وتنشئ قواعدها العسكرية في الساحل السوري، وتستخدم آلاف الأطنان من الذخائر المحرمة دوليًا، لكسر عزيمة الثورة والضغط على الحاضنة الشعبية لها، تزامن ذلك مع طعنات داعش المتتالية في خاصرة الثورة، والتدخل الأمريكي تحت مظلة التحالف الدولي بحجة قتال داعش، وصناعة أمريكا أذرعًا عسكرية لها من الأحزاب الكردية الملحدة لتكون خنجرًا في خاصرة الثورة.

ومن جهة أخرى زاد تحكم الدول الداعمة في قرارات الفصائل بضغط دولي للحد من قوة الثورة، وتركيع الفصائل للحلول التي يفرضها اللاعبون الكبار في المجتمع الدولي، ومع مرور الوقت ، كانت الدول الكبرى قد درست الثورة – من خلال مراكز أبحاثها وخبراءها – وحددت نقاط القوة فيها وعوامل الضعف الكامنة بين صفوفها، ووضعت استراتيجيات أضعافها تمهيدًا للقضاء عليها، ومع وجود جوانب قصور في صفوف الثورة، تمكن هؤلاء وأولئك من تنفيذ مخططاتهم، إلى أن وصلت الثورة لوضعها الحالي.

الشاهد مما سبق أن الثورة أثبتت أن الشعوب قادرة على هزيمة الأنظمة إذا اتخذت الجهاد الراشد سبيلًا لها، وأعدت العدة، وأخذت بالأسباب اللازمة، وتسلحت بالعزيمة والإرادة، وتحركت وفق سنن الله عز وجل.

o إن من أبرز إيجابيات هذه الثورة أنها فضحت الغلاة، وأظهرت كذب شعاراتهم التي يتشدقون بها، وبينت للأمة عوار هذا المنهج الخبيث، وأنه أبعد ما يكون عن هدي ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وضح جليًا أن الغلاة كانوا أمضى سلاحًا في يد أعداء الثورة، وأنهم كانوا خنجرًا في خاصرة الأمة بيد عدوها، فقد رأينا كيف أنهم شردوا الفصائل وقتلوا خيرة كوادر الأمة غدرًا وخيانة، وكفروا المسلمين والمجاهدين، وتعاونوا مع عدوهم على حصارهم في أكثر من موقف. ثم رأينا كيف أن دولتهم المزعومة قد زالت بعد أن أدوا لأعداء الأمة الدور الذي رسموه لهم. فالحمد لله الذي فضح منهجهم للأمة لتتعلم الدرس، وليتحصن أبناء الأمة بالوعي من هذه التجربة ضد هذا الفكر الخبيث، والمنهج السقيم.

o أظهرت الثورة السورية نفاق المجتمع الدولي الذي ينادي بالحرية لسائر شعوب العالم، ويزعم أنه يدافع عن حقوق الإنسان، ويقف في صف المظلومين، فأين كان هذا المجتمع الدولي من قتل مليون إنسان بريء، أغلبهم من الأطفال والنساء، وتهجير ( 10 مليون ) إنسان بين مخيمات النزوح ودول اللجوء، واعتقال مئات الآلاف في سجون ومعتقلات نازية من قبل نظام الأسد المجرم. لقد بات جليًا لكل حر أن المجتمع الدولي لم يقف في صف المظلومين من الشعب السوري، ولا قام بدوره الإنساني الذي يدعيه على الإطلاق، بل كان أداة من أدوات الالتفاف على الثورة، وتضييع أهدافها بين أروقة قاعات المؤتمرات وصالات الاجتماعات. لذلك فإنه بعد التجربة السورية، ينبغي على الشعوب الثائرة التي تسعى للتحرر، أن تعد المجتمع الدولي وقراراته ومواقفه من الشعوب الثائرة في خندق الثورة المضادة، وتتحرك بناء على ذلك.

o هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وكما ذكرت آنفًا، فإن الحديث عن إيجابيات الثورة السورية لا ينقضي، بل إنه يحتاج إلى أبحاث ودراسات، ترصد آثارها الإيجابية على الأمة، وآثارها السلبية على أعداء الأمة، وأكتفي بالنقاط التي ذكرتها، وأسأل الله أن يقيض للأمة من يخدم الثورة السورية دراسة وبحثًا، ليخرج للأمة بدروس تنتفع بها في حاضرها ومستقبلها.

وبعد،

فإن الثورة السورية لم تنتهِ ، ولا تزال رحى المعارك دائرة، في حملة إجرامية جديدة، – منذ قرابة ثلاثة أشهر من تاريخ كتابة هذه المقالة – بقيادة روسية، تخطيطًا ودعمًا ومشاركة جوية وبرية، تهدف إلى كسر عزائم رجال الثورة الأحرار، واحتلال المزيد من الأراضي المحررة، ولا يزال رجال الثورة الأبرار صامدين ثابتين يواجهون عدوهم بما لديهم من إمكانيات محدودة مقارنة بإمكانات دولة في حجم روسيا، وقد كتب الله عز وجل على أيديهم كسر هذه الحملة الأخيرة وإيقاف تقدمها، وإعادة الكرة عليهم واستعادة بعض المناطق التي خسروها، بل وحرروا مناطق جديدة لم تحرر من قبل قط طوال عمر الثورة، وكبدوا العدو خسائر فادحة في العتاد والأفراد، حتى طلب الروس أكثر من مرة – عبر الوسيط التركي – هدنة لإيقاف المعركة، بعد الذي رأوه من بسالة وصمود هؤلاء المجاهدين الأبطال، إلا أن رجال الثورة رفضوا وأعلنوا استمرارهم في المعركة حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم.

ولعمري إن ما حدث في هذه الجولة الأخيرة – ثلاثة شهور من المعارك الضارية – لمن أعظم ما يبث الأمل في النفوس، ويثبت أننا – وإن كنا أضعف من عدونا على مستوى الأدوات – متى ما تسلحنا بالعزيمة، وأخذنا بالأسباب والأدوات المتاحة من غير تقصير، ووحدنا الصفوف، وتوكلنا على الله عزو جل، فإننا قادرون على مواجهة عدونا وكسره وإجباره على التراجع، بحول الله وقوته.

ختامًا
إن ثورات الربيع العربي تثبت أن الشعوب أقوى من حكامها، وأن هذه الأمة المسلمة أمة حية، وأن فجر حريتها آت لا ريب بحول الله وقوته. إن الشباب العربي المسلم الذي قام بهذه الثورات وذاق طعم الحرية فيها، لن يعود مرة أخرى إلى حظائر العبودية تحت سياط الجلادين. إن المقاومة والجهاد ستبقى هي خيار هذه الشعوب بإذن الله، وإن حاولوا تأديب الأحرار وإرهابهم بالتنكيل بالشعب السوري ليكون عبرة، فسينقلب السحر عليهم، وستكون دماء الأحرار الأبرار من كل الشعوب الثائرة، وقودًا للاستمرار، ونورًا يهتدي به السائرون على درب الحرية.

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى