مقالاتمقالات مختارة

ماذا تفعل المكارثية الجديدة بمسلمي أوروبا؟

ماذا تفعل المكارثية الجديدة بمسلمي أوروبا؟

بقلم حسام شاكر

صار المسلمون أكثر عُرضة للشكوك، وربما المطاردة السياسية والإعلامية والشبكية، مع تفاقم النزعة المكارثية التي تُطِلّ برأسها في بلدان أوروبية تحت عناوين ضبابية، مثل مكافحة “الانفصالية” و”المجتمعات الموازية” و”الإسلام السياسي” و”التطرف”.

عندما تسلّلت جائحة كورونا إلى أوروبا، في النصف الأول من سنة 2020، تصدّرت الأولوية الصحية غيرها من الشواغل، وعمّت مشاعر التضامن المجتمعي الدافئ، وتصدّرت صور الأطباء والممرِّضين وسائل الإعلام التي أبرزت تضحياتهم.

كانت نسبة المسلمين الملحوظة ضمن الأطباء من ضحايا الجبهة الأمامية رسالة عملية ضد العنصرية والإسلاموفوبيا وردّاً بليغاً على خطابات التفرقة والتحريض.

ثمّ تأكّدت الرسالة مع حضور المسلمين والمسلمات ضمن طلائع العاكفين على تطوير اللقاحات المضادة لكورونا في المختبرات الأوروبية.

ثمّ اقتربت الاستحقاقات الانتخابية في أنحاء القارة، وواجهت الحكومات نقداً شعبياً على خلفية أدائها في موسم الجائحة والمعضلات الاقتصادية المزمنة، فعادت حمّى الإسلاموفوبيا إلى البروز مجدداً.

تدحرج النقاش بعد أحداث أمنية شهدتها دول أوروبية إلى تأويلات ثقافية جامحة ألقت بحمولة معنوية ثقيلة على المسلمين، من خلال العودة إلى توجيه أصابع الاتهام بصفة صريحة أو إيحائية إلى دينهم وثقافتهم وتعميم وصمة الاشتباه على أحياء سكنية يتركّزون فيها.

هكذا انقشعت مرحلة التضامن الدافئ مع التصعيد السياسي والإعلامي الذي بلغ في بعض المحطّات حدّ الهوس المكارثي الذي يتعقّب المسلمين بصفة صريحة حيناً وإيحائية حيناً آخر.

خاضت القيادة الفرنسية حملاتها في هذا الصدد، فنحتت مصطلح “الانفصالية” الذي دشّنت به مرحلة جديدة من تأزيم علاقة الجمهورية بمسلميها في الحياة السياسية والتشريعية.

فتح المصطلح الفضفاض وإسقاطاته الواسعة شهيّة السياسيين والمشرِّعين على مزيد من خطوات الحظر ومحاولات التقييد، كأنّ ما شهدته فرنسا سابقاً من تشريعات تختصّ بالمسلمين بصفة استثنائية لم يكن كافياً.

تنزّلت القيود الجديدة على المسلمات في المقام الأول، وعلى المساجد والجمعيات المسلمة أيضاً، كما جرى مثلاً في تصويت أجراه مجلس الشيوخ الفرنسي في إبريل/نيسان 2021 حمل مضامين غير مسبوقة في جموحها التشريعي ونزعتها المكارثية.

إن كانت المرأة في أوروبا مسلمة فإنها تقع في مرمى استهداف حملات التعبئة المصوَّرة وتقع عليها أعباء مضاعفة من التمييز، من خلال إنزال قيود متزايدة عليها على أساس اختياراتها من اللباس في مواقع العمل وحمامات السباحة والأماكن العامة وحتى في مرافقة أطفالها في برامج مدرسية غير نظامية، رغم الالتزامات الأوروبية المُعلنة بمكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة.

لا تفتقر البيئات الأوروبية إلى قصص نجاح في حضور المسلمين والمسلمات ضمن الفضاء العامّ، لكنّ حساسية الموقف المحيط بهم تبدِّد آمال الأجيال المسلمة الجديدة بإمكانية الوصول إلى تكافؤ الفرص في مجتمعات متنوِّعة.

يواجه المسلمون صعوبات متزايدة في الصعود في مراتب الحياة العامة ضمن بعض البيئات الأوروبية. حتى في الحالات التي تنجح في تجاوُز “السقف الزجاجي”، أي العوائق غير المرئية في طريق الارتقاء المجتمعي، تبدو عرضة لضغوط قد تهوي بها سريعاً، كما جرى مثلاً مع إحسان حواش (36 عاماً)، وهي أول مسلمة تستر شعرها تتولّى موقعاً حكومياً. اضطُرّت حواش في التاسع من يوليو/تموز 2021 إلى الاستقالة من منصب مفوَّضة الحكومة البلجيكية لدى معهد المساواة بين الرجال والنساء بعد عشرة أسابيع فقط من قرار تعيينها الذي أثار اعتراضات في الوسط السياسي وموجة تنمّر عبر الشبكات.

لم تعد أعراض هذا الإقصاء نادرة عبر أوروبا، فالمسلمون صاروا أكثر عُرضة للشكوك وربما المطاردة السياسية والإعلامية والشبكية مع تفاقم النزعة المكارثية التي تُطِلّ برأسها في بلدان أوروبية تحت عناوين ضبابية، مثل مكافحة “الانفصالية” و”المجتمعات الموازية” و”الإسلام السياسي” و”التطرف”.

أمّا الأسماء المسلمة التي تصعد سريعاً في هذه الأجواء الضاغطة فهي التي تتطوّع بتسديد سهام النقد نحو مجتمعها المسلم المحلِّي أو تتصرّف على منوال “كارهي أنفسهم” وتنخرط في حملات التسخين المكارثية التي تطارد المسلمين.

لا تقتصر النزعة المكارثية على ما يصدر من قرارات أو يُسَنّ من قوانين، فنطاقها يتّسع ليشمل تحركات سياسية ومطالبات حزبية وحملات شعبوية، علاوة على طائفة واسعة من المقترحات ومشروعات القوانين التي تتحرّك في المجالس النيابية والمحلية.

تتجلّى المكارثية التي تطارد المسلمين في معارك انتخابية تبلغ فيها حمّى التسخين والمزايدة ذروتها. يتلازم هذا المنحى مع الجدل الحسّاس بشأن سياسات الهجرة واللجوء التي تشهد تشديداً غير مسبوق ومحاولات بعض الدول رَجْع طالبي اللجوء إلى أوطانهم رغم خطورة الأوضاع القائمة فيها.

حذّر بعض المختصين من هذا التدهور الذي يصفه عالم الاجتماع الفرنسي جان فرانسوا بايار بأنه “إسلاموفوبيا دولة” و”مكارثية جمهورية”، كما كتب في “لوموند” الفرنسية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2020. لم يسلم بعض الأكاديميين والمختصين المرموقين، ومنهم بايار، من المطاردة المتشنجة لأنهم انتقدوا هذا الانحدار، فجرى وصمهم في فرنسا بنعت “يسار إسلامي”.

إن كان النموذج الفرنسي رياديّاً في ثقافة الحظر والتقييد التي تمسّ المسلمين عموماً والمسلمات خصوصاً، فإنّ الحالة في دول أخرى تتدحرج بسرعة، كما في النمسا التي تبدو نموذجاً لانقلاب تجارب الانفتاح الرسمي على المسلمين إلى نقيضها. كانت جمهورية الألب حتى سنوات خلت مثالاً بارزاً عبر أوروبا في ثقافة احترام الإسلام والتواصل الإيجابي مع المسلمين، ثم أهالت التراب على هذا الإرث الذي يعود إلى العهد الإمبراطوري الذي ضمّ البوسنة والهرسك إلى حوزته.

دشّنت النمسا في صيف 2020 مركزاً مختصاً بمراقبة “الإسلام السياسي”، الذي يجد المختصّون صعوبة بالغة في تعريفه وصار يتنزّل على طيْف واسع من السِّمات والمظاهر في المجتمع، بصفة من شأنها أن تفتح بوابة التمييز على مصراعَيها. ثمّ أثارت وزارة الاندماج النمساوية انزعاج المسلمين وغيرهم عندما أطلقت في مايو/أيار 2021 مشروعها المثير للجدل “خريطة الإسلام”، الذي ينشر بيانات تفصيلية عن المئات من المساجد والجمعيات والقائمين عليها وخلفياتها المزعومة مع تصنيفات غير ودِّية بشأنها. وسارعت مجموعة من اليمين المتطرف إلى التقاط عناوين هذه المرافق المسلمة المنشورة وأطلقت حملة تحريض في الطرقات ضدها.

من التطوّرات التي شهدتها هذه المرحلة، انزلاق الشؤون المتعلقة بالمسلمين إلى مركز النقاش السياسي على مستوى الاتحاد الأوروبي أيضاً، كما جرى في قمة أوروبية مصغّرة عُقدت في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بحثت للمرة الأولى ملفّ الأئمة وتأهيلهم، وكان هذا التداول مثالاً صريحاً لواقع الحديث “عن المسلمين” لا “مع المسلمين”، وبصفة مرتبطة بالشؤون الأمنية والتطوّرات الإرهابية بعد اعتداءات شهدتها فرنسا والنمسا.

آل الموقف بالوسط السياسي التقليدي المحسوب في الأساس على الاعتدال، إلى منافسة أقصى اليمين في المزايدة وإظهار الصرامة والتشدُّد في شؤون المسلمين وملفات الهجرة واللجوء والتنوُّع الثقافي، رغم التبايُن في انتقاء المفردات بين الفريقَيْن. ولا تبدي الأحزاب السياسية الأخرى مناوأة واضحة لمنحى التدهور المكارثي خشية التأثير السلبي في رصيدها لدى ناخبين وقع تسخينهم.

تفرض هذه التطوّرات التي تتفاعل عبر أوروبا تحدِّياً صعباً على دولة القانون.

فالنزعة المكارثية تسعى للتمكين لذاتها عبر مزيد من التشريعات والإجراءات التي لا تتوقّف، فيما يواجه القضاء دعاوى تتعلّق بمدى جواز هذه الخطوات.

ألغى القضاء النمساوي، مثلاً، في نهاية 2020 تشريعاً سابقاً يمنع تلميذات المدارس حتى سنّ معيّنة من تغطية شعورهن، بسبب صفته التمييزية واختصاصه بالمسلمات دون سواهنّ.

لكنّ التلميذة المسلمة قد تواجه عندما تكبر حرماناً من موقع العمل إن قرّرت ستر شعرها، بخلاف رغبة مديرها، استناداً إلى حكم أصدرته محكمة العدل الأوروبية في لوكسمبورغ يوم 15 يوليو/تموز.

يُتيح الحكم الأوروبي لأرباب العمل منع الموظفات المسلمات من ستر شعورهنّ ووقْفهنّ عن العمل إن لم يتمثلن لذلك. ورغم أنّ المحكمة ربطت هذه الأحقية بظروف معيّنة، فإنّ التعبيرات الفضفاضة قابلة لأن تثير مخاوف نساء وفتيات مسلمات على مستقبلهنّ الوظيفي على امتداد دول الاتحاد الأوروبي التي يشملها مفعول القرار القضائي. لمثل هذه القرارات ما بعدها في بيئات أوروبية تشهد تسخيناً متزايداً في ما يتعلّق بشؤون المسلمين في مجالات الحياة المتعددة.

المصدر: تي آر تي TRT عربي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى