مقالاتمقالات مختارة

ماذا تبقى من المشروع الفكري للدكتور عبد الله العروي؟ (1من2)

ماذا تبقى من المشروع الفكري للدكتور عبد الله العروي؟ (1من2)

بقلم بلال التليدي

للمرة الثانية، يتم نشر إشاعة وفاة المفكر المغربي عبد الله العروي دون أن يتولى تكذيبها، ويضطر المركز الثقافي العربي الناشر لكتاباته للقيام بالمهمة بدلا عنه، وتبشير قرائه أن المثقف العربي لا يزال قيد الحياة، وأنه يتمتع بالصحة والحيوية والقدرة على الإبداع والعطاء.

بعض المنابر التي سارعت إلى تصديق الخبر، وربما نشره على أوسع نطاق، بدأت تهيئ ملفات إعلامية حول سيرة الرجل وأدبياته وتراثه ومشروعه الفكري، قبل أن تضطر إلى الاعتذار للقراء عن نشرها خبرا غير صحيح من المؤكد أنه أضر بالرجل وعائلته الصغيرة والكبيرة.

والحقيقة ـ بعيدا عن دائرة الإشاعة ومخالفاتها ـ فإن السؤال الذي ينبغي طرحه، ليس هو تراث الرجل ومشروعه الفكري، فهذا مما سال مداد كثير في التبشير به، ونقده وربما نقضه أيضا، وإنما السؤال الذي يلزم طرحه اليوم، بعد أكثر من خمسين سنة من التأليف في حقول معرفية مختلفة (فلسفة، تاريخ، أدب، سياسة….) هو ماذا تبقى من مشروعه الفكري؟ وهل لا يزال هذا المشروع يمتلك راهنيته وقدرته على التفسير أم أصبحت منطلقاته ومخرجاته خلف الظهر، لا تتمتع بالجاذبية التي كانت لها منذ السبعينيات وإلى غاية التسعينيات؟ وهل أصبح سؤال ما بعد العروي مشروعا، لاسيما بعد أن اتجه خط التاريخ في غير المسار الذي كان يدفع إليه دفعا حينما تبنى أطروحته “التاريخانية” كبديل عن الانتظام الماركسي الأرثودوكسي؟

يحاول هذا البحث، أن يستعرض الإضافات النوعية التي قدمها العروي في حقول مختلفة، لاسيما التاريخ والفلسفة، ويختبر مدى راهنيتها، والقدرة التفسيرية التي تمتلكها، وما إذا كانت قد استنفذت أغراضها، ولم تعد تمتع بأي جاذبية في المشهد الثقافي؟

العروي.. في الأصول الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية

ما من شك أن الرجل يتمتع بخلفية معرفية ثقيلة اخترقت حقولا معرفية متعددة، فاشتغاله المعرفي في حقل التاريخ طيلة تدريسه في جامعة محمد الخامس بالرباط، لم يمنعه من أن يصدر كتاباته الفلسفية، التي كان يحرص دائما على أن تكون على هامش مهمته التدريسية في حقل التاريخ.

تقدم أطروحته للدكتوراه (دكتوراه في جامعة السربون سنة 1977) حول الأصول الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية ما بين سنة 19830 و1912، عينة دالة في هذا الاتجاه، إذ أرست منهجا جديدا في دراسة التاريخ، ودراسة فعل الحركة الإصلاحية المغربية داخله، إذ حاول في هذا العمل أن يدرس جهود العلماء الإصلاحية ضمن من خلال محاورة مبرراتها في سياقها الواقعي، سواء باعتبار الموقع الاجتماعي (التشكيلة الاجتماعية) أو المصالح التي تنطلق منها هذه التعبيرات، أو باعتبار الصلة بالسلطة السياسية، إذ عمد في هذا البحث ـ كعادة العروي في كثير من اعماله ـ أن يجمع بين تفسير سياق هذه المواقف المعبر عنها في شكل مؤلفات أو رسائل أو فتاوى للعلماء، وبين تقييمها في ضوء شروطها الواقعية وجدواها في هذا السياق (النظرة التاريخانية).

قرأ من هذه الزاوية عددا من مؤلفات العلماء في موضوع التجارة مع الأوروبيين والاحتماء بهم والتعامل معهم، وأطر هذه القضية في سياقها السياسي، الذي كان فيه المغرب يعرف ارتفاع وتيرة التجارة الخارجية الأوروبية وتوسع ظاهرة التسرب الأوروبي، وكان السلطان المغربي يدرك أن مشروعيته السياسية مرتبطة بصد هذا التسرب وتقليصه، وأن التجارة الأوروبية تهدد استقلال المغرب،  ولذلك اعتبر العروي أن رفض المغاربة التعامل مع الأجانب، لم يكن ظاهرة فطرية، وإنما جاء بناء على ملامستهم لانعكاسات هذه التجارة على نقصان أسباب عيشهم، وما ينتج عن ذلك من تهديد الاستقلال والسقوط في يد الأجنبي.

كما قرأ أدبيات العلماء الإصلاحية في هذا الاتجاه (أي رفض التجارة مع الأوروبيين) من نفس الزاوية، وإن كانوا قد ركزوا اهتمامهم على نقد المظاهر المخالفة للأحكام الشرعية، وأدانوا بشدة السيرة الممنهجة الهادفة للنيل من مكانة القضاة الموكول إليهم أمر صيانة الدين، وصبوا جام غضبهم على من اعتبروهم سببا في تفاقم الأزمة، وهم أهل الحمايات واليهود والمخالطين للأجانب، مما أدى بهم الأمر إلى معاداة كل تجديد، وانتقاد موقف السلطان المهادن ضمنيا في وقت أول، ثم علنا في وقت لاحق.

وانتهى العروي في خلاصاته لمواقف العلماء والنخب الإصلاحية في المغرب لحظة توسع التسرب الأوروبي وضعف السلطة المركزية ومواردها المالية، لجوؤهم الضمني في الأخير إلى قبول علاج الداء بالدواء المر، أي استحسان مقترحات الدول الأوروبية، مما دفع بعض الفقهاء للتعبير بشكل صريح عن تراجع المخزن عن تطبيق الأحكام الشرعية، كما دفع جماعة من العلماء إلى التوجه بالنداء إلى جماعة المؤمنين لتدارك الوضع، وذلك بالتشبث بالسندين الرئيسيين للدولة الإسلامية المغربية: الشورى والبيعة، بل إن بعضهم ذهب إلى أن من واجب الأمة نفسها الحسم في امورها في حالات غياب السلطة السياسية او عجزها او تهاونها.

اختصر العروي أزمة هذا المشروع في غياب الفكر التاريخي، وانعطاف كل التوجهات النهضوية العربية لتبني المنهج التقليدي، رغم أن أهداف ومشاريع الحركات القومية والبعثية، جاءت ضدا على هذا المشروع السلفي التقليدي.

وفي تقييمه لمواقف العلماء الإصلاحيين، اعتبر العروي أن جميع المواقف التي أنتجوها حول الجهاد والمتاجرة مع النصارى والتساكن مع الآخر افتقدت للواقعية، ويفسر موقفهم بكونهم لم يكونوا متعامين، ولكنهم من شدة إدراكهم لتردي الأوضاع، أوقفوا خياراتهم وأصبحوا يفكرون في تجاوز المحنة من منظار المترتقب للخلاص الذي وعد به الله أمته، وأنهم كانوا موقنين أن ساحة الحسم قريبة لا محالة.

ويحلل العروي مواقف العلماء الإصلاحية في هذه الفترة، فيرى أنها خدمت السلطة المركزية في الانفلات من تدخل الأوربيين، وتخفيف شدة ضغوطهم عليها، وخدمت الحرفيين في رفضهم للمكوس غير الشرعية، والملاك في شجبهم للضرائب المبتدعة، وسكان البوادي في تمردهم ضد تسلط العمال وجشعهم، وأنهم كانوا لا يفعلون ذلك من موقع الدفاع عن مصالح هذه الفئات، وإنما من دافع ما سماه العروي إحياء الناموس الإلهي ضدا على رغبة البشر في استبداله بتنظيم وضعي محدث.

وينتهي العروي في ملاحظاته إلى أن مواقف العلماء كانت تعبر عن إدراك ملموس لظاهرة تاريخية محددة، تكشف الرغبة في إحياء النهج الإسلامي القويم المتمثل في إحياء الدولة الإسلامية الأولى التي كانت ضعيفة الوسائل قوية بمنطلقاتها الروحية والأخلاقية والتضامنية، وأنها مواقف ترفض الرضا بالواقع أو تبريره أو التعامل معه بمرونة، وذلك مهما اشتدت الإكراهات، ومهما بلغت كلفة المدافعة.

ويعتبر العروي في خلاصاته، أن هذه المواقف إنما عبرت في نهاية المطاف عن رأي الأقلية، وأنها بطبيعتها المبدئية المقاومة شكلت الأساس الذي حكم تطور المجتمع ما بين سنة 1890 و1930.

العروي.. في أزمة المشروع النهضوي

من المفيد الإشارة إلى أن كتاب “العرب والفكر التاريخي” كان بالنسبة إلى العروي الكتاب الشرارة الذي أثار كثيرا من الجدل، ومع أن العروي حاول من خلال كتابه “الإيديولوجية العربية المعاصرة” أن يلطف بعض العبارات الواردة في الكتاب السابق، أو على الأقل أن يرافع عنه ويقدم توضيحات بشأنه، إلا حاصل الكتابين، لم يغير شيئا في المخرجات الفكرية التي أسس لها.

حاول العروي أن يدخل الإيديولوجية العربية المعاصرة إلى مشرحة التحليل والتفكيك، مركزا فيها على النظرة التي كان رجل النهضة يلقيها إلى الكون والمجتمع والفرد، والتي يندرج تحت قواعدها العامة، كل تقرير أو حكم صدر في ذلك العصر.

وقد حرص العروي، في تحديده لمفهوم الأدلوجة، على استحضار العنصر المزدوج في مفهومها: الوصفي والنقدي، أي وصف الأدلوجة كا تقدم نفسها على أساس أنها مطابقة للواقع (المستوى الوصفي)، والحكم على الأدلوجة بأنها لا تعكس الواقع على وجهه الصحيح (المستوى النقدي)، ويرى العروي أن الأدلوجة تحدد أفكار وأعمال الأفراد والجماعات، بكيفية خفية لا واعية. وأن الباحث كي يصل إلى رسم معالمها، لا بد من تحليل وتأويل أعمال أولئك المعاصرين.

حاول العروي في كتاباته أن يبسط وجهة نظره في المشروع النهضوي العربي، في كتبه الثلاثة “العرب والفكر التاريخي”، و”الإيديولوجيا العربية المعاصرة” و”أزمة المثقفين العرب”.

اختصر العروي أزمة هذا المشروع في غياب الفكر التاريخي، وانعطاف كل التوجهات النهضوية العربية لتبني المنهج التقليدي، رغم أن أهداف ومشاريع الحركات القومية والبعثية، جاءت ضدا على هذا المشروع السلفي التقليدي.

يميز العروي بين أهداف المشروع ورهاناته الإيديولوجية، وبين المنهج الذي يتم توسله من أجل بلوغ هذه الأهداف. وتبعا لذلك، يختصر أزمة المشاريع النهضوية العربية، بارتهانها إلى المنهج التقليد، وأن الأمر لا يقتصر على التوجه السلفي التقليدي، وإنما يشمل أيضا التيارات القومية والاشتراكية والبعثية العربية، وأيضا تيارات الماركسية التقليدية التي انزاحت عن المنهج التحديثي، وارتهنت إلى المنطق التقليدي في رهاناتها التحديثية. فحسب العروي، لا المنطق السلفي، ولا المنطق الانتقائي، الذي تجسده التيارات النهضوية القومية والبعثية والماركسية، استطاعا أن يُخْرجَا العالم العربي من تعثراته.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى