مقالاتمقالات مختارة

ماذا بعد التَّطبيع؟

ماذا بعد التَّطبيع؟

بقلم خالد مختاري

يبدو أنَّ المواطن العربي ما زال لم يستوعب ما يحدث للأمة العربية والإسلامية من تحوُّلات مفاهمية وبسيكو-سياسيّة تعكسها حالة الانصياع والخنوع في تعاطيها مع «المستوطن الصّهيوني». فالمواطن العربي، مثله مثل حكَّامه، ما يزال يعتقد أن الكيان الصهيوني «احتلال» غاصب للأراضي الفلسطينيّة وعلى رأسها البيت المقدَّس الشَّريف. بل يجزم في هذا الاعتقاد الخاطئ. بيد أن الحقيقة الإيبستميولوجية للوجود الصهيوني تؤكد، بما لا يدع مجالًا للشَّك، أنَّ ما حدث ويحدث هو «استيطان» بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحدّ. فهذا الاستيطان الصّهيوني مرفوق بعمليَّة توطين باتت تقرع أبواب البلاد.

من حق القارئ أن يسألني عن ماهية هذا المصطلح، الذي أستعمله لأوَّل مرَّة، وما الفرق بينه وبين مصطلح «احتلال». الاستيطان هو الحالة التي تنطبق على الواقع الصّهيو-فلسطيني. الاستيطان هو الأصل أما الاحتلال، فهو الفرع. فإذا كان الاحتلال هو قيام دولة بالاستيلاء على أراضي دولة أخرى واغتصابها عن طريق القوّة. فإنّ الاستيطان هو قيام شعب، أو طائفة متعدِّدة الأجناس، بعد الاستحواذ على الأرض واغتصابها، بتملك الوطن بعد مصادرته من أهله.

ويسألني القارئ عن الفرق بين الأرض والوطن، وهو الذي راح ضحيَّة الخلط بين المفهومين، فأجيبه بأنّـ الأرض هي ذلك الإقليم المعبّـر عنه برًّا، وبحرًا وجوًّا. أمّا الوطن، فإنه يتعدَّى ذلك ليشمل مقوِّمات الهويَّة، وعادات وأعراف هذا المجتمع أو ذاك. بمعنى أن يقوم المستوطن بتزوير ملامح ذلك الوطن وجعله غريبًا على أهله وليس العكس. ولعلّ خير مثال على ما أقول هو ما حدث للهنود الحمر مع الوطن أمريكا بعدما استوطنها الأوروبيُّون؛ إذ مع مرور الزَّمن أصبح الهنود الحمر مجرَّد ديكور فلكلوري بعدما سُلِخ منهم وطنهم وأصبح غريبًا عنهم وليسوا هم الغرباء عنه. وهذه هي الحقيقة الإيبستميولوجية التي جرى تغييبها، عمدًا، عن المواطن العربي والمسلم. وبالتّالي، أصبح اليوم غير قادر على استيعاب ما يحدث من حوله وهو يرى أنظمته الحاكمة تعلن تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وفي ذلكاعتراف منها بيهودية الوطن الفلسطيني. ولمَّا لم يجد هذا المواطن تفسيرًا لهذا التّطبيع، وخلفياته ومآلاته، راح يبحث عن المبرِّرات بعدما اختلطت عليه المفاهيم والمصطلحات.

فالكثير يعتقدون أنَّ عملية التّطبيع، التي تقودها إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، هي بداية عهد جديد يؤسِّس للسَّلام العالمي وينهي الصِّراع العربي- الصُّهيوني القائم منذ إعلان قيام هذا الكيان على الأراضي الفلسطينيَّة. لكن، يبدو أنَّ أنصار هذه الفكرة تناسوا أنَّ أسباب الصراع ما زالت قائمة على اعتبار أنَّ هناك شعبًا يريد استرداد وطنه الذي هو حقُّه المسلوب، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنَّ لا شيء يوحي بأنّ أطماع الحركة الصّهيونية محدودة بالوطن الفلسطيني.

التّصديق بهكذا طرح هو ضرب من الخيال؛ لأنَّ المنظومة الصّهيونية قائمة، أساسًا، على مبدأ «خذ وطالب». وتلك هي فلسفتها الوجودية منذ أن تأسَّست فكرتها.

فما يخفى على المواطن العربي والمسلم أنَّ خلفيات ومآلات هذا التّطبيع، من الجانب الصّهيوني، ليس الهدف منها إنهاء الصِّراع العربي- الصُّهيوني وإقامة السِّلم العالمي المنشود.

ومن يقول عكس ذلك أدعوه ليسأل نفسه: لماذا لم يتوقف هذا الكيان من إقامة المستوطنات؟ ولماذا لم يبادر بحلِّ القضايا العالقة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني وعلى رأسها قضية القدس التي تعد قلب الصِّراع؟ ولماذا جرى الاستغناء، ضمنيًّا، على حلِّ الدولتين؟

والجواب المنطقي لمثل هذه التّساؤلات يكمن في أنَّ إدارة الكيان لا ترى الأمور بالمنظار نفسه. فهي بصدد تنفيذ أجندتها الخاصَّة بها، وهي أجندة توسُّعية بامتياز. قوامها دولة تمتدُّ من النِّيل إلى الفرات.

وللتمكين لهذه الأجندة التَّوسعية، يقوم المخطَّط الصُّهيوني، من جهة أولى، على عزل الشعب الفلسطيني عن محيطه الشرق أوسطي بعدما استدرج ممثليه إلى القبول باتفاقيات أوسلو، والتي لم تكن، في الحقيقة، سوى وسيلة لتمييع مطالب الشعب الفلسطيني وإفراغها من محتواها الحقيقي.

ومن جهة أخرى، تحييد الأنظمة التي تنتمي إلى محور الممانعة بإضعافها، وبالتالي إضعاف مواقفها الإقليمية. ومثال ذلك ما يحدث في العراق، وسوريا، واليمن ولبنان.

وفي الأخير، فصل منطقة شمال أفريقيا عن محيطها العربي الإسلامي وإبعادها عن الصِّراع العربي- الصُّهيوني بوصفه شرق أوسطي بالدَّرجة الأولى. ولإنجاح هذه العمليَّة الجراحية ركَّزت المنظومة الصُّهيونية على سلخ شعوب المنطقة من مقوِّماتهم الهويَّاتية المشتركة، والعمل على إبراز قوميات غير واقعية من شأنها أن تدفع باتّجاه التأسيس لأنظمة هجينة قادرة على خدمة المخطط الصهيوني على اعتبار أنّ ذلك يخدم وجودها.

لكن، يبدو أنَّ ما خفي من جبل الجليد هو ما سيرافق مخطَّط التطبيع، أو بالأحرى ما سيليه مستقبلًا. وهذا هو المهم في المخطط الصهيوني والذي يبدو أن لا أحد أدركه، ألا وهو «التّوطين».

نعم، إنَّ ما سيلي عمليّة التّطبيع هو توطين الصهيونية من الخليج إلى المحيط. ويستوي في ذلك إن كانت هذه الأنظمة على دراية بالأمر أم لا. وتقوم عملية التوطين هذه على التَّمكين، من جهة، للجاليات اليهودية، التي ظلت إلى حدٍّ ما ملتزمة الصمت، من الولوج إلى مفاصل الأنظمة لتكون شريكة لها في صناعة القرار. ومن جهة أخرى، المطالبة باسترداد الشعب اليهودي لأملاكه العقارية التي صودرت منه في هذه البلدان، ومنا تعويضه عن الأضرار التي لحقت به نظير حرمانه من استغلالها طوال هذه السِّنين.

حينذاك، سيجد المواطن العربي نفسه مضطرًّا للقبول بتنازلات فُرضت عليه من قبل أنظمته العميلة، التي لطالما صفق لها وبحث لتصرُّفاتها المشينة عن مبرِّرات غير ذات معنى. وسيتأكَّد أنَّه يعيش تفاصيل نكبة ثانية بتفاصيل النكبة نفسها التي عاشها الشعب الفلسطيني.

ساعتها سيفكر في كيفية التخلص من كابوس الاستيطان الذي سيأخذ شكلًا آخر غير الشكل الذي قامت عليه المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية. عندئذ، سيتذكر المقولة التي لطالما ردَّدها دون أن يدرك معناها، « أُكلت يوم أُكل الثَّور الأبيض».

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى