مقالاتمقالات مختارة

ماذا أضافت التجربة الأردوغانية للتيار الإسلامي؟

ماذا أضافت التجربة الأردوغانية للتيار الإسلامي؟

بقلم أنس السبطي

تعد التجربة الأردوغانية إحدى أبرز التجارب المحسوبة على الإسلاميين في العقدين الماضيين، حيث فرضت نفسها عليهم رغم الرفض الشديد الذي قوبلت به في البداية من طرف القاعدة العريضة منهم سواء في منبتها التركي أو عند جل الحركات الإسلامية في مختلف الأقطار التي كانت تنظر لها بعين الريبة والتشكك، غير أن تلك التجربة استطاعت مع مرور الوقت أن تقتطع مساحات جزئية من التعاطف معها مستندة على رصيد من الإنجازات حولتها بعد سنوات قصيرة إلى نموذج ملهم لجل الإسلاميين و”قطبا سنيا” بارزا في مواجهة قوى إقليمية ودولية، حتى بدا أخيرا أنه بات للإسلاميين السنة كيانا يدافع عنهم وعن مصالحهم مثلما لنظرائهم الشيعة من يمثلهم ومثلما كان للشيوعيين من يعبر عنهم زمن الاتحاد السوفيتي الغابر.

طبعا هذا الوضع أثر عميقا على جل الحركات الإسلامية المنتمية للمدرسة الإخوانية أو القريبة منها وانعكس على أمورها الداخلية ومواقفها من المجتمع ومن الدولة، متناغما مع التحولات الكبرى التي طرأت على المنطقة وعلى العالم بأسره والتي ساعدت على إشعاع النموذج الأردوغاني، غير أن تلك التحولات تبقى مثار تساؤل دائم حول مدى إسهامها في إنضاج طرح الحركة الإسلامية وفي طبيعة الإضافة التي قدمها لها. ما يحسب لتجربة العدالة والتنمية التركي أنها حركت المياه الراكدة في عدد من الحركات الإسلامية، وهو ما شكل استفزازا إيجابيا لها يدفع إلى تطوير أداءها والانفتاح على مجتمعاتها والاستجابة لتطلعاتها، لكنه كذلك أوقع الإسلاميين في تحدي قراءة التجربة التركية قراءة صحيحة وفهم سياقاتها.

لا سيما أن التجربة التركية رغم نجاحاتها السابقة تظل تجربة غير مكتملة، فهي ما زالت تتفاعل مع محيطها، حيث تعترضها صعوبات ومعيقات جعلت نموذج العدالة والتنمية يتعرض لهزات عنيفة أثرت في البيت الداخلي للحزب وفي تدبير شؤون البلد المحلية وانعكست كذلك على السياسة التركية الخارجية. كل هذا كشف عيوبا لم تكن ظاهرة في البداية، فالتجربة التي اعتبرت ثورة وتمردا على نمط الزعامة التقليدية في الحركات الإسلامية ممثلة في الأربكانية سرعان ما أعادت إنتاج ذات النمط مع أردوغان، فبعد ما يناهز العقدين تكاد تختزل التجربة التركية في شخص واحد بعد انفضاض عدد من رفاق الأمس عنه، فأردوغان هو الحزب هو الدولة هو كل شيء. كما أن شعبية الحزب تضررت كثيرا على المستوى الداخلي حسب ما أظهرته نتائج الانتخابات الأخيرة التي أبرزت استياء للناخب التركي على أداء الحزب الحكومي وكذا على مستوى البلديات التي أشرف عليها في الآونة الأخيرة.

أما بالنسبة للسياسة الخارجية فقد انتقلت من سياسة تصفير العلاقات وتصفية الأجواء مع مختلف القوى الإقليمية والدولية ونزع فتيل الأزمات بينها إلى الاشتباك المتواصل معها. قد يبدو هذا مفهوما، فلا يمكن لتركيا أن تعزل نفسها عن البراكين المشتعلة في جوارها، لكن ومع ذلك فإن تقلبات مواقف الحزب الخارجية محيرة بحاجة لمراجعة وإلى إعادة تقييم. التجربة الأردوغانية إذا بقدر ما حملت من إيجابيات حملت معها كذلك سلبيات، والمعضلة تكمن في أن استلهام التجربة على المستوى العربي لم يتوجه إلا إلى قشورها ونواقصها، فأبرز ما لفت اهتمام الإسلاميين العرب من التجربة التركية هو تلك المرونة التي تعاطت مع ثوابتهم، حيث قام بعضهم باستيرادها بغاية إزاحة حمل مبادئهم الثقيل على كواهلهم، مؤقتا، ثم استعادتها وقت اللزوم والقدرة عبر أساليب المناورة وحيل السياسة.

لكن وبخلاف براغماتية حزب العدالة والتنمية الذي حافظ على قوة شخصيته التي حولته إلى رقم صعب في معادلة الحكم رغم نفوذ خصومه القوي في دواليب الدولة التركية، وهي التي قفزت بتركيا من دولة ضعيفة غارقة في الأزمات إلى دولة يحسب لها الجميع ألف حساب، فلا يبث في أي ملف في المنطقة دون إقامة تسوية معها. أما المتماهون مع التجربة التركية في البيئة العربية فقد أقدموا على تنازلات طوعية مجانية من باب حسن النية تجاه الآخر دون أن يأخذوا منه شيئا، وكل تلك التنازلات أصبحت نهائية وفرضت واقعا جديدا عند هذا الصنف من الإسلاميين شكلهم على ضوئه، هكذا تغيرت ملامحهم حتى خصمت من أصالتهم هذا ولما تطأ أقدامهم بعد مربع السلطة، أما أولئك الذين استثمروا منهم إحدى الفجوات السياسية للانتقال إلى معسكر النظام، فقد ظلوا على هامشه حيث كان شغلهم الشاغل هو حيازة رضا لوبيات السلطة المتنفذة دون أن يؤثروا في شيء، فلم تفلح كل مناوراتهم السياسية في اختراق جدار التغيير السميك ولو بتحقيق النزر اليسير الذي بقي معهم من رصيد مبدئي، حتى إن السلطة تمكنت من تغيير جلد بعضهم بالكامل.

النتيجة هي تتالي الخيبات واهتزاز الثقة بالذات الناجم عن العجز على تقديم نموذج تغييري حقيقي، ولما كان هذا هو حالهم فقد عادوا إلى بحثهم الأزلي عن ذلك المنقذ الذي سيأتي من بعيد ليرفع ما بهم من سوء، هذه المرة لن يتم استدعاؤه من غابر التاريخ لأنه موجود وهو ذلك المثال المحاكى الذي عجزوا عن تقليده فطمعوا في أن يخوض معاركهم نيابة عنهم، فكانت النتيجة أن التصقوا به وبالغوا في التعصب له حتى أضفوا على أحد صناعه هالة لا تليق إلا بعظماء التاريخ، فكل المعارك التي يخوضها هي معاركهم وهي تخدم بالضرورة مصلحة أمتهم حتى لو كانت مجرد معركة محلية لا تحتمل كل تلك الآمال التي يعلقونها عليها، وهو إن اشتبك مع جواره بسبب إشكال حدودي بسيط أو انطلاقا من خلفية قومية صرفة فإن اشتباكه هذا لا بد أن يقود إلى استعادة أمجاد الأمة الماضي.

لا شك أن هذه الذهنية التي ترسخت بعد أحداث “الربيع العربي” قد أضرت بالتيار الإسلامي وقزمت أدواره إلى حد كبير، حيث تحول إلى كيان سلبي منفعل يقتصر تفاعله مع تعقيدات المشهد السياسي في المنطقة بالانحياز التام لطرف معين، لدرجة أثرت في موقفه العقائدي من القضية الفلسطينية الذي لم يكن يُظَن يوما أن يتزحزح حتى بتنا نسمع أصواتا تصدر من بعض المنتمين له تبرر بعض أشكال التطبيع، وذلك كي تجد لملهمها مخرجا من موقفه البراغماتي من العلاقة مع الكيان الصهيوني، كذلك فإن محاولات تبرير تقلبات المواقف التركية من مختلف القضايا المثارة في الإقليم تحرجه وتضرب انسجامه ومصداقيته وتقدم هدية مجانية لخصومه فتعرضه لتندرهم وسخريتهم.

مشكلة بعض الإسلاميين أنهم وقعوا شيكا على بياض مع الدولة التركية مفترضين بأن قوة تركيا من قوتهم واضعين ثقتهم العمياء بالنموذج الأردوغاني انطلاقا من أن أردوغان هو رجلهم في المنطقة، في حين أن الرجل في الحقيقة يبقى إنسانا يعتريه ما يعتري عامة البشر من نوازع شخصية ومن أخطاء، فحتى لو احتفظ بنزاهته وصدقه وحنكته السياسية كل هذه المدة، فهل هم متأكدون من أن كل قناعاته تنسجم مع ثوابتهم؟ ألا يظهر الرجل انحيازا واضحا لانتمائه العرقي ينعكس على مواقفه وعلى قراراته؟ وهل يملك نفوذا كافيا في أجهزة الدولة لتصريف المشترك بينه وبين التيار الإسلامي في المنطقة العربية؟

الأسوء في الموضوع أن موقف القطاع العريض من الإسلاميين من تركيا يؤلب عليهم خصومهم الإقليميين دون أن يوفر لهم الحماية والإسناد الكافيين، كما تفعل القوى الأخرى مع حلفائها، فيما أن الإسلاميين يستندون إلى أرضية رخوة بما يجعلهم مهددين في أية لحظة، فلا ثوابت عند الأتراك إلا ثابت الحفاظ على مصلحة بلدهم، وإن كان هذا حالهم أليس الأجدر بنا أن نسائل أنفسنا ما شأننا نحن ومصلحتهم إن كانت ستكون على حساب فلسطين وباقي قضايانا المصيرية التي يساهم الأتراك في إشعال جبهتها ثم ينسحبون ليتركوا حلفاءهم فريسة أعدائهم.

قد يقول قائل أن وضع أردوغان الحرج بفعل حجم الضغوطات الكبرى التي يتعرض لها يفرض عليه التراجع فيضطر لتقديم عدد من التنازلات، فإذا كان هذا الكلام صحيحا لماذا يخوض معارك ليس في مستوى الدفاع عنها من الأصل؟ ولماذا يراهن البعض عليه فيورطوا التيار الذي ينتسبون إليه في أنصاف معارك تشكل انتحارا حقيقيا؟ ألا يفترض بمحترفي “النقد الذاتي” داخل الحركة الإسلامية أن يضعوا السياسة التركية الخارجية موضع تقييم صارم لبيان مدى مصلحة عامة الإسلاميين في التصاقهم بالنموذج الأردوغاني وتعويلهم عليه.

التجربة التركية بالمآلات التي صارت إليها خلقت إشكالات إضافية في صف الإسلاميين بإشاعة براغماتية غير منضبطة وباستسهال التضحية بثوابتهم وبفقدانهم لاستقلاليتهم، فما يحتاجه الإسلاميون اليوم أن يخرجوا من دائرة التقليد والتعاطي مع تجربة العدالة والتنمية باعتبارها تجربة يؤخذ منها ويرد، وأن يبتعدوا عن لعبة المحاور الإقليمية والدولية المدمرة لصالح البقاء في خندق الشعوب ونبضها الحي.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى