مات مبارك لكن جرائمه لن تموت
بقلم قطب العربي
تسع سنوات فصلت بين خلع مبارك في مثل هذا الشهر (11 فبراير 2011) وبين وفاته (25 فبراير2020)، تنقل خلالها الرجل بين شرم الشيخ والمركز الطبي العالمي ومحاكم الجنايات (الهزلية) التي حاكمته على بعض الجرائم وبرأته من معظمها، باستثناء قضية القصور الرئاسية.
تسع سنوات شهدت خلالها مصر تغيرات كبرى ما بين ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت بمبارك نفسه وأسرته وحاشيته، وبين الإنقلاب على الثورة الذي أعاد الاعتبار لمبارك وأسرته بشكل كبير، باستثناء إعادته لمنصبه الرئاسي ولقصره الجمهوري، اللذين احتفظ بهما السيسي لنفسه.
مع إعلان وفاة مبارك، تبارت مؤسسات الدولة العميقة في نعيه، بدءا من قصر الإتحادية مرورا بالقوات المسلحة، وإعلان الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام، مع ترتيب جنازة عسكرية له، وهو ما ضنت بمثله على رئيس مصر المنتخب الشهيد محمد مرسي الذي كان الثمرة الكبرى لثورة 25 يناير، والعدو الأول للثورة المضادة، والذي ظلت الدولة العميقة تتعامل معه باعتباره جسما غريبا عليها حتى وفاته بسبب الإهمال الطبي ومنع العلاج عنه في محبسه، ولم تكتف الدولة العميقة وثورتها المضادة بقتله في محبسه بل إنها ضنت عليه بجنازة طبيعية من أهله ومحبيه، وأصرت على دفنه بليل دون حضور أحد إلا بعض أفراد أسرته.
حين منعت السلطات تنظيم جنازة طبيعية أو حتى عائلية للرئيس الراحل محمد مرسي، تبارت الشعوب العربية والإسلامية في تنظيم صلوات غائب وفتحت بيوت عزاء له في غالبية عواصم العالم التي توجد بها جاليات عربية أو مسلمة، كما أقيمت عليه صلاة الغائب في المسجد الأقصى، (ترى هل سنشهد صلوات غائب مماثلة لحسني مبارك؟).
وفاة مبارك لا تعني طي صفحة جرائمه بحق الشعب المصري، وإذا كان هو الآن بين يدي محكمة سماوية عادلة لا تغفل صغيرة ولا كبيرة، فإن جرائمه بحق الشعب المصري لا تزال في انتظار من يحاكمها، حتى يعرف كل مستبد أو مجرم أنه لن يفلت بجريمته ولو بعد موته، وحتى يُكتب التاريخ بصورة صحيحة.
انظروا إلى ما يحدث في تونس حاليا من محاكمة للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة لضلوعه في قتل الزعيم السياسي صالح بن يوسف الأمين العام الأسبق للحزب الدستوري الحر، والذي كان منافسا بارزا لبورقيبة، وقد تم اغتيال بن يوسف سنة 1961 بأحد فنادق مدينة فرانكفورت بألمانيا بطلقات نارية من فرقة موت كرمها بورقيبة لاحقا، وكانت هيئة الحقيقة والكرامة التي باشرت الاستماع للشهادات حول جرائم عهدي بورقيبة وبن علي قد أحالت ملف قضية بن يوسف للقضاء قبل أكثر من عام، وقد اثار ذلك جدلا واسعا بين محبي بورقيبه، وخصومه الذين يرون في المحاكمة تعزيزا لقانون العدالة الانتقالية ، وللتذكير فإن المتهمين الستة في القضية الذين وجهت لهم المحكمة تهمة القتل العمد مع سابق الإصرار هم الرئيس الأسبق بورقيبة، وحسن بن عبد العزيز الورداني (أبرزالمقريبن لبورقيبة)، والبشير زرق العيون (ابن خالة بن يوسف ورئيس ديوان رئيس الجمهورية وقائد الحرس الرئاسي)، وحميدة بنتربوت (ابن أخت زرق العيون)، وعبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز).
ليست تونس فقط هي التي تحاكم رئيسها الأسبق الذي يوصف بـ “المؤسس”، فقد حاكمت تركيا أيضا الانقلابيين السابقين، وشهد العام 2012 بدء محاكمة الجنرال كنعان إيفرين قائد الانقلاب الدموري في العام 1980، وبعض مساعديه، رغم بلوغة السادسة والتسعين من العمر، وقد أدين إيفرين بارتكاب “جرائم ضد الدولة”، ومنها قتل المئات واعتقال نصف مليون تركي، وحكمت عليه المحكمة بالسجن مدى الحياة في عام 2014، مع قائد القوات الجوية السابق، لكن إيفرين مات في مايو من العام 2015.
وها هي إسبانيا إحدى الدول الديمقراطية حاليا والتي عانت حكما استبداديا في عهد الجنرال فرانكو (1939-1975)ـ تفتح ملفات كان مسكوتا عنها مثل قضية الأطفال المخطوفين في ذلك العهد الأسود، والذين تتباين التقديرات بشأنهم بين 50 ألفا و300 ألف، هؤلاء الأطفال تم خطفهم من أمهاتهم الحقيقيات وتسليمهم لسيدات أخريات لتسجيلهم كأبناء لهن، تطبيقا لنظرية عنصرية اعتنقها نظام فرانكو قسمت الشعب إلى قسمين، أخيار ( وهم أهل الحكم ومن معهم) وأشرار ( وهم معارضو الجنرال من شيوعيين وديمقراطيين إلخ) وكان رجال الجنرال يعتقدون أنهم بخطفهم لأولئك الأطفال ونقلهم لأمهات أخريات فإنما ينقلونهم من عالم الأشرار إلى عالم الأخيار، ناهيك عن أنهم بهذا الفعل ينكلون بالأسر التي تنتمي للتيارات الجمهورية (الشيوعية أو الديمقراطية) المعادية لنظام الحكم.
ورغم أن نهاية الحكم العسكري للجنرال فرانكو تمت في إطار تسوية سياسية تضمنت إغلاق صفحة ذلك العهد، وعدم المساءلة عن أي جريمة وقعت خلاله، إلا أن قضية الأطفال المختطفين خرقت هذا الاتفاق، وفرضت نفسها مع ظهور شهادات حية لسيدات كن يربين أطفالا مختطفين، واستيقظ ضميرهن في أواخر عمرهن، وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن العديد من القضايا لا تزال منظورة أمام القضاء الإسباني حتى اللحظة وقعت أحداثها في عهد الجنرال، بل إن الحكومة الإسبانية قامت مؤخرا (24 اكتوبر الماضي) بنقل رفات فرانكو من ضريحه الضخم، وتم إعادة دفنه في مقبرة عائلته بالقرب من مدريد، حتى تنظف تاريخها، ولا تبقي أثرا لتلك الفترة السوداء.
وفي رومانيا التي شهدت ثورة ضد الديكتاتور الأسبق نيكولاي تشاوشيسكو عام 1989، أسقطته من الحكم وأعدمته وزوجته في الشارع، تجري حاليا محاكمات لقتلة الثوار (أي بعد 30 عاما من وقوع الثورة)، والمتهم الأول في هذه الجريمة هو الرئيس الروماني السابق إيون إيلييسكو الذي سيحاكم بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، وتعتبره عائلات الضحايا مدبر أعمال العنف التي أودت بحياة مئات الرومانيين بعد سقوط تشاوشيسكو مباشرة حيث كان وقتها وزيرا للشباب وقد سارع لتولي مقاليد الحكم، وارتكب تلك المذابح .التي راح ضحيتها 900 قتيل، ويلاحق إلى جانب إيلييسكو، نائب رئيس الوزراء الأسبق دجيلو فويكان فوكوليسو وقائد سلاح الطيران السابق يوسف روس بتهم “جرائم ضد الإنسانية”.
الأمثلة كثيرة على محاكمات لقادة مجرمين تركوا السلطة أو قضوا نحبهم، والرسالة واحدة هي أنه لن يفلت مجرم بجريمته، وستظل الأجيال تلاحقه بعد موته، حتى يكون عبرة وعظة لغيره من الطغاة، ومبارك لن يكون بعيدا عن هذا المسار، والسيسي أيضا، فما ضاع حق وراءه مطالب.
(المصدر: الجزيرة)