مات قطب وبقيت معركة القرآن والطغيان
بقلم أ. محمد إلهامي
“إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا لتعيش أفكارهم، أن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق.
إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية وعاشت بين الأحياء”. سيد قطب (1906-1966).
أعدل وسيلة لتقييم شخصية تاريخية، لا سيما من كان عالما أو داعية، هو النظر إلى إسهامه في معركة عصره، فذلك هو واجب وقته. وبهذا المقياس فقد كان سيد قطب هو شيخ العصر. ولا يزال سيد قطب حتى اللحظة الحاضرة ينتصب نموذجا، يكرهه كل أتباع الطغيان من العلمانيين الذين يكرهون الدين كله ولا يريدون له وجودا في نظام الدنيا حتى مشايخ السوء وعلماء السلطان الذين يزعمون أنهم أهل الدين ولا يفعلون شيئا إلا تزييف الدين وتعبيد الناس للظالمين. وعلى الجانب الآخر فلا تكاد تجد مجاهدا أو عالم حق إلا ولسيد قطب عنده مكانة عظيمة وله فيه مدح سائر مهما اختلف معه في تفاصيل وفروع هنا أو هناك. مات سيد قطب كما مات عبد الناصر.. وبقيت معركة القرآن والطغيان!
لكم تزاحمت علي الأفكار منذ نويت أكتب عن سيد قطب عند ذكرى نصف قرن على استشهاده (29 أغسطس 1966م)، ثم بدا لي بعد طول تفكير أن أنقل بعض الكلمات التي منذ مات في سبيلها الشهيد صارت حية.
(1) آثار الاستبداد:
ليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاءً تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
(2) الاستبداد والفساد:
ليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال..
إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف وكذلك قال فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} عند ما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد.
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد.. ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان، فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة.
(3) أخلاق العبيد:
العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية، لأن لهم حاسة سادسة أو سابعة، حاسة الذل.. لا بد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحسَّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع للسيد ليخروا له ساجدين! العبيد هم الذين إذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم… والعبيد – مع هذا – جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويتلذذون بإيذائهم وتعذيبهم، ويتشفون فيهم تشفي الجلادين العتاة! إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!
(4) صدمة المستبد:
«فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية! فأما موسى فهو قوي بالحق الذي أرسل به مشرقا منيرا مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة: «قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. بَصائِرَ. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» هالكا مدمرا، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها. عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم، «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ» فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
(5) نسب الإيمان:
المؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه- كما يتجلى في ظلال القرآن- مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ}.. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف.
(6) المهمة الكبرى:
علم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفا ثقيلا، وجهادا طويلا، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- «قم» .. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة الله. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد.
(7) حاجات الثائر:
المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمراً هيناً، ولا طريقاً معبداً. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيراً ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره.
والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.
(8) منهج الإسلام: الكفاح:
هو منهج رفيع طليق.. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاع الحياة الدنيا زهيد، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية.. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب.. إنما معناه المحاولة المسترة، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها، وإطلاق الحياة البشرية جميعها.. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما. إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان.
(9) القوة طبيعة الإسلام:
كانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين..! لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
(10) ضريبة الذل:
لقد شاهدت في عمري المحدود – وما زلت أشاهد – عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتنكس رؤوسهم.. ثم يُطردون كالكلاب بعد أن يضعوا أحمالهم ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً، ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل. وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة.. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان! (1).
——————————
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
(المصدر: المعهد المصري للدراسات)