مقالاتمقالات مختارة

مؤيدات رفض نظرية الحكم الإلهي من منظور إسلامي

مؤيدات رفض نظرية الحكم الإلهي من منظور إسلامي

بقلم محمد يتيم (مفكر وقيادي إسلامي مغربي)

تعارض نظرية الحكم الثيوقراطي التصور الإسلامي وقيمه الكبرى تعارضا ليس في جزئية ترتبط بتدبير المعيش السياسي للناس، بل إنه تعارض يمس مجمل المنظومة العقدية والتصورية التي تنشئها العقيدة الإسلامية عند معتنقيها. وهذه عدة مؤيدات لهذا الاصطدام والتعارض:

ـ تأكيد الإسلام على مبدأ الشورى وجعلها طابعا مميزا للجماعة المسلمة، وجزءا لا يتجزأ من أخلاقها وسلوكها اليومي؛ كما ورد في سورة الشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ)؛ (الشورى/ الآية: 38-39).

فالآية تورد الشورى مقترنة بركنين هامين من أركان الإسلام هما الصلاة والزكاة، والتعبير بـ”أمرهم” يجعل الحياة الإسلامية مصبوغة كلها بصبغتها وليس المجال السياسي فحسب؛ فتتحول الشورى بذلك إلى سلوك يومي وأساس تقوم عليه العلاقات.

ومن الواضح أن مجتمعا قد تشرّب الشورى -حتى أصبحت سمة مميزة له في جميع شؤونه- لا يمكن أن يقبل نظام حكم ثيوقراطي يمارس سلطة مطلقة ويلغي مشاركة الناس.

ـ إلزامية العمل بالشورى، والدليل على ذلك أنه إذا كان الأمر بالشورى موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحي، فأولى أن يكون مَن جاء بعده مأمورا بها. والدليل الآخر هو أن الشورى المأمور بها النبي صلى الله عليه وسلم -في سورة آل عمران- قد وردت بعد وقوع خطأين: الخطأ الأول المتمثل في رغبة أغلبية المسلمين الخروجَ لملاقاة العدو خارج المدينة، على خلاف ما كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اتضح للصحابة أن هذا الرأي كان أقل سدادا. والخطأ الثاني عندما غادر الرماةُ في غزوة أُحُدٍ مواقعَهم من ميدان المعركة واشتغلوا بجمع الغنائم، مما جعلهم يتركون ثغرا جاءت منه الهزيمة إليهم.

“تضمنت أول خطبة سياسية يلقيها أول حاكم مسلم منتخَب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أبو بكر الصديق رضي الله عنه- تأكيدا للطبيعة المدنية والإنسانية للدولة الإسلامية، ونفيٌ لصفتها الثيوقراطية؛ حيث قال رضي الله عنه: “أيها الناس: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني””

ولقد كان أقرب شيء إلى البداهة في هذه الحالة هو نبذ الشورى، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج التي أدت إليها، وخاصة مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان قد رأى رؤية تأولها على أن نفرا من أصحابه يقتلون.

ـ كون الأمة في الإسلام هي مصدر شرعية الحكم وصاحبة السيادة تمارسها في نطاق الشريعة الإسلامية، على اعتبار أنها أمة قد ارتضت الإسلام مرجعية عُليا لنظامها الدستوري والقانوني. وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن ينصرف إليه مفهوم الحاكمية، والذي لا يتناقض في هذه الحالة مع مفهوم سيادة الأمة، أي سيادة الأمة الإسلامية.

فالحاكم في الإسلام لا يحكم بتفويض إلهي مطلق، ولكن يحكم بتفويض من الأمة التي هي صاحبة الحق الأصلي في تنصيبه، وهي صاحبة الحق في محاسبته وعزله كما تفصّل ذلك كتبُ الفقه الإسلامي.

وفي أول خطبة سياسية يلقيها أول حاكم مسلم منتخَب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أبو بكر الصديق رضي الله عنه- تأكيدٌ للطبيعة المدنية والإنسانية للدولة الإسلامية، ونفيٌ لصفتها الثيوقراطية؛ حيث قال رضي الله عنه: “أيها الناس: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني” (الحافظ بن كثير، البداية والنهاية).

ففي هذا المقطع من الخطبة ثلاثة مواطن للاستشهاد على تعارض نظرية الإسلام في الحكم مع النظرية الثيوقراطية وهي:

ـ أن تولية أبي بكر نفسها -باعتبارها قد تمت بعد جدل وحوار بين المسلمين وتنافس بشأن مَن يستحقها- دليل في ذاتها على أن الإسلام منذ اليوم الأول لم يأخذ بنظرية الحق الإلهي في انتقال السلطة ولا في ممارستها.

ـ تأكيد أبي بكر -رضي الله عنه- أنه إنما هو واحد من المسلمين، وعدم ادعائه للعصمة والخيرية ولذلك فهو يخطئ ويصيب، مع أنه كان أفضل المسلمين آنذاك، وكيف لا وقد شهد له الرسول بذلك، حتى إنه جعل إيمانه يرجح كفة إيمان العالَمين.

ـ إن إشارة أبي بكر ومطالبته المسلمين بتقويمه -إن اعوجّ نهجه في الحكم- هي دعوة صريحة إلى الأخذ بمبدأ المعارضة في حال اعوجاج الحاكم، كما أن فيه دلالة على أن الحاكم ملزم بضرورة احترام قواعد التعاقد القائم بينه وبين الأمة في إطار دستورها الأسمى.

وشرعية المعارضة في التصور الإسلامي -المنبثقة من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار أن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر- تأكيد على بشرية الحاكم وأنه يرِد عليه الخطأ والصواب.

“إن الشريعة هي مقاصد كلية تنتظم الأحكام الكلية، وهي حاصل اجتهاد متواصل باستمرار لكونه هو الذي يضمن صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو اجتهاد إنساني بشري يحتاج -لكي ينتقل من مجال الفقه والفتوى إلى مجال القانون- إلى حركة تقنين هي حركة بشرية تقنية، ويجب أن تتم أساسا في الهيئات والمؤسسات التي لها صلاحية التشريع”

ـ لا ينبغي الاعتراض على مبدأ سيادة الأمة بالقول إن السيادة هي لله أو للشريعة، وجعل الحاكمية الإلهية في تعارض مع سيادة الأمة. ذلك أن سيادة الشريعة لا تتحقق داخل المجتمعات الإسلامية إلا من خلال القبول الطوعي بها من لدن الأمة.

وهذه ليست قضية سياسية، بل هي قبل ذلك قضية دينية اعتقادية، إذ إن حكم الشريعة لا معنى له -ولا فائدة دينية ترجى لمن يطبق عليه- إذا لم يكن المعني بالأمر مؤمنا بهذه الشريعة، مستسلما لأحكامها ولو جاءت على غير هواه؛ فالشريعة تُحَكّم قبل أن تَحْكُم.

فالقاعدة القرآنية “لا إكراه في الدين” التي تنطبق على العقيدة باعتبارها الركن الأعظم في الدين، تنطبق بدرجة أولى على الشريعة باعتبارها أمرا متفرعا عن أصل ألا وهو العقيدة.

ثم إن الشريعة هي مقاصد كلية تنتظم الأحكام الكلية، وهي حاصل اجتهاد متواصل باستمرار لكونه هو الذي يضمن صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو اجتهاد إنساني بشري يحتاج -لكي ينتقل من مجال الفقه والفتوى إلى مجال القانون- إلى حركة تقنين هي حركة بشرية تقنية، ويجب أن تتم أساسا في الهيئات والمؤسسات التي لها صلاحية التشريع.

ولذلك يغدو الشعار الذي رفعه الخوارج والقائل: “لا حكم إلا لله” شعارا صحيحا في ظاهره وباطلا في باطنه، أو كما قال علي كرم الله وجهه: “كلمة حق أريد بها باطل”، إذ ليس من الصحيح أنه لا حكم إلا لله، والأصح أن هناك حكما للأمة منحه الله إياها.

ولذلك من حكم الله أن يكون الحكم للأمة، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. ولقد أفاض ابن القيم في بيان هذا المعنى عندما تحدث عن السياسة الشرعية ودورها في تحقيق مبدأ صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى