مؤسسات إنتاج تتاجر بالمرويات التاريخية الضعيفة
المسلسلات التاريخية تعلن عن إحراجها وتورطها بالرقم (30)، عدد أيام الشهر، وهي أزمة أزلية ممتدة داخل تنافس مؤسسات الإنتاج الفني لإتمام مشاهد حلقاتها بتمام الشهر،لا سيما رمضان، ببعديه الرمزيين، التاريخي والحيويّ (رمضان التاريخ) و(رمضان الحياة) . ولا يكاد ينفك هذا الشهر المكتنز بالمعاني عن المحاولات الدؤوبة لتأويله واستقطابه إلى آيديولوجيا فنية تتاجر بدلالاته؛ لتقدم سلعتها، وتكسب المال والضوء والنجاح، فبدايته فاتحة شوق إلى متابعة حكايات مثيرة وممتعة، كما هو حال رمضان الذي لا يخلو تاريخياً من أحداث إسلامية، معارك خالدة، أو تحولات كبرى ألمّت بالأمة؛ فهو بحد ذاته حدث جليل وشهر أثير في الإسلام، وصيامه ركن، فليس كمثله شهر؛ لذا كان اهتمام أهل الفن به تبعاً لاستثنائيته وكثافته معناه، والوحدةِ التي يبثها في شتى الدوائر الاجتماعية أسرةً ومجتمعاً وأمةً، فاستثمر أرباب الإنتاج الفني هذا التجمهر الأسري لتقديم إنتاجهم الدرامي في حضرة الحشد المتحلق أمام المائدة والشاشة.
مؤلف الدراما التاريخية يُعمل قريحته في النص كما يُعملها في الدراما الاجتماعية، حيث يفعل المخيال فعله في الاختيارات والتنسيق والحذف والتعديل والإضافة الضرورية المنُقذة التي تشفط الدهون الزائدة، أو تسمّن الجسم الضامر، ليكون القوام متسقاً بعد عمليات تجميل غيّرت الحقيقة إلى الأجمل كما يظنّه المؤلف والمتابع، أو الأسوأ حسب الذائقة أو التدقيق التاريخي، والقيّم على العمل الفني التاريخي يتوخّى المكتوب في أمهات كتب التاريخ كتاريخ الطبري، أو الكتب والكتيبات الشاردة عن المسار العلمي لدرجة أن الشكوك تحيط بالمؤلف، فكيف بما يحويه الكتاب، وهذا اللون من التأليف يروق كثيراً لمنتجي الأعمال الفنية، ولعل مسلسل (الزير سالم) شاهد على هذه الإضافات التي رُصد بعض منها في تضاعيف كتب السير الحكواتية، وتماست بالمعنويات الشعبية، واتخذت موقعها في الإرادة فاعلاً واقعياً عن حدث غير واقعي.
الدراميون يعون هذا الأثر، ويعزفون على وتره، ويدركون أن كل معطى لحدث تاريخي صحيح أو زائف يلقى ترحيباً في رغبات الناس، ومحتملاتهم الرومانسية والعدائية أو التسامحية والمثالية، فليس من مؤثر إلا وله وقع على نفس يعدّل من وجهتها باتجاه مغاير أو معاكس، لذا لا يحفل المتلقي السطحي بمصداقية الواقعة، شأن تلقيه الدراما الاجتماعية.
إذن، ليس الأمر أن يُقدَّم الفن في سياقه التاريخي لاستعراض إبداع، بقدر التأثير والإمتاع، وهنا تختلط المسؤولية التاريخية والاجتماعية، ويعمد بعض المؤلفين إلى معالجة قضية معاصرة في قالب تاريخي عباسيّ، أو يفرض احتمالاً ضعيفاً على الواقع القوي الذي أثبته المؤرخون بعد نهوض علم الجرح والتعديل، وفحص المرويات واستبانة تهافتها.
وعلى الرغم ممّا بذله الفاحصون الحاذقون في تصحيح التاريخ، وكشف الزيف الجاهل، أو المتعمد؛ لم تستجب مؤسسات الإنتاج الفني لهذه النقلة العلمية في تناول الحدث والشخصية؛ لأن التصحيح التاريخ ينتهي في جُلّه إلى النفي أو التشكيك في هذا الحدث أو طبيعة الشخصية، أو تعديل في تفاصيل الحدث كالرشيد ونكبة البرامكة.
كثير من كُتَّاب المسلسلات والسيناريو ينزعجون من نجاح جهود المختصين في فرز الصواب والخطأ؛ لأنه يشوش على مخيالهم، ويجهظ قرائحهم التي تبتكر المشاهد المتحركة إبداعياً في رواياتهم الفنية التي يقرأها القارئ كحدث موازٍ لحقيقة يشبهها أو بعضاً منها، وعليه فيتعذر على كثير من كُتَّاب الروايات الذين خاضوا الدراما التاريخية أن ينفكوا عن نزعتهم الشاطّة نحو إيجاد ما لم يوجد، حتى في الحكي عن التاريخ، وإلا سيكون ناسخاً عن الكُتب أو أمهات الكتب، ولا دور له إلا إعادة الترتيب لا إعادة الكتابة.
نال الخليفة هارون الرشيد اهتماماً خاصاً من لدن المختصين في التاريخ حتى نفوا عنه الوصف الاتهامي الذي وصمه به أدباء ومؤرخون كالأصفهاني، صاحب الأغاني، حيث عُزيت تجنياتهم إلى أسباب مذهبية أو شخصية، ونُفيت عنه المثالب بجرح السند والمتن، شأن أي محاكمة، فالمحامي يرافع لينفي لا ليثبت، ولا يصدر حكم قضائي بالبراءة إلا بعد نفي التهمة وسقوطها، ما يعني حدوث نقص في رواية ما حدث، وهذا يردنا إلى المحور الأول، وهو أن النقص في الروايات التاريخية يجري تعويضه بالتعديل، أو تجاوزه، وكأنه لم يكن، ولن يكون هذا في مصلحة القوى الإعلامية التي تضطر إلى تسمين ثلاثين حلقة بالحدث والإثارة وتكثيف الأسماء والشخصيات، فليس لها إلا تجاهل نداء المؤرخين الفاحصين بضرورة عرض ما حدث وتوخي الأمانة العلمية.
(المصدر: موقع المثقف الجديد)