بقلم علي بن جابر المشنوي – مركز التأصيل للدراسات والبحوث
بما أن السينما والأفلام والمسلسلات أصبحت متاحة بيد كُلِّ أَحَدٍ، بل أصبح الهاتف المحمول يوفر لحامله كل ما يريده مما يُعرض في صالات السينما العالمية، فما الذي يمنع من وضع صالات للسينما؟! ولماذا هذه الضوضاء الرافضة لفتح صالات السينما؟! وبما أن الأغاني وحفلات الغناء متاحة في شاشات البيوت، وفي وسائل التكنولوجيا فلماذا رفض إقامة الحفلات الغنائية في بلادنا؟! ويتكرر مثل هذا التساؤل في قضايا أخرى، فما دام الشيء يوصل إليه بطرق مُعينة فما المانع من إتاحته للجميع؟ يُغفلُ المعترضون بهذه الاعتراضات أصلاً جوهرياً دعت إليه الشريعة وأكدت عليه، وهذا الأصل الجوهري هو عناية الشريعة بالمظهر الإسلامي للمجتمع المسلم. وإدراك هذا الأصل الشرعي يُسهم في تصور كيف ينبغي أن يكون مظهر المجتمع الإسلامي.
عندما يرتكبُ أحدهم محظوراً شرعياً في الخفاء، فهو بشرٌ مِن البشر، وهذه طبيعة بشرية، وبالتالي فالتوبة تكفيه، والستر على نفسه واجبٌ عليه؛ لكن أن يغدو هذا العاصي إلى النَّاس فيَقولُ لهم: لقد فعلتُ كذا وكذا..! فهذا أمرٌ كبيرٌ تُعاقب عليه الشريعة، وتمقت فاعله. كما ورد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (… وإنَّ مِن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثمَّ يُصبحُ وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا! وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)[1].
أن يفعل أحدهم الحرام خفية هذا يعني أنه يفعله بصَغَارٍ وشُعُورٍ بالذَّنبِ والخطَأ -ولو ضمنًا، إمَّا إن تحوَّل إلى داعٍ لهذا الحرام وناشرٍ له بين الناس فهو يتحولُ تلقَائِيًا مِن فاسد إلى مُفسد، ومِن مريضٍ إلى نَاشِرٍ للمرض، ومِن فَاحشٍ إلى آمرٍ بالفَحشَاءِ. وهذا في حكم الشريعة جرمٌ كبير، يُمقتُ فاعله ويعاقبُ.
وهذا الفعلُ المـُشَارُ إليه آنفاً يُعد هينا في حق الفرد مقارنة بما لو تواطأ النَّاسُ في بلد مِن البلدان عليه، بفعل حرام وإظهاره، والأقبح لو بنوا له البنايات الخاصة واستحدثوا له الوظائف العامة! لأن معناه الاستطالة على شرع الله، وتشريع المعصية وتقنينها، والمجاهرة بالمعاصي ودعوة الناس إليها.
وهذا هو الحد الفاصل بين الأمم المغضوب عليها وبين أمة الخير، فإنَّ الأمم المغضوبِ عليها وصل بها الحال إلى أن يَفعَلَ أفرادُها المنكر، بشكل ظاهرٍ بلا نكير من أحدٍ، فضلاً عن معاقبته: ((كَانُوا لا يَتَنَاهَون عَن مُنكَرٍ فَعَلُوه لبِئسَ ما كَانُوا يَفعَلُون))، المائدة: 79. وأما أمَّة الخير فوَصفُها مَعرُوفٌ: ((كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ تَأمُرُون بالمعرُوفِ وتَنهَونَ عن المنكَرِ وتُؤمِنُون بالله))، آل عمران: 110، ((ولتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُون بالمعرُوفِ ويَنهَونَ عن المنكَرِ وأُولئِكَ هم المفلِحُون))، آل عمران: 104. وروى مالك بسنده إلى عمر بن عبدالعزيز يقول: “كان يُقال: إنَّ اللهَ -تباركَ وتعالى- لا يُعذِّبُ العَامَّةَ بذَنبِ الخَاصَّةِ، ولكن إذَا عُمِلَ المنكَرُ جِهَارًا استَحقُّوا العُقُوبَةَ كُلُّهم”.
إنَّ المتَأمِّلَ في شريعةِ الإسلامِ يَجِدُ أنَّها اعتَنَت كثيراً بالمظهَرِ الخَارجي للمجتمع الـمُسلم، وأَهميةِ الحضُورِ الـمُكثَّفِ للشَّعائِرِ والسِّماتِ التي تجعَلُ النَّاظِرَ يُدرِكُ انتماءَ تلك المجتمعاتِ للدِّينِ الإسلامي، كصَوتِ الأَذانِ وصَلاةِ الجمَاعَةِ واحتِشامِ النِّساءِ وفَصلِ الرِّجالِ عن النِّساءِ والعِنايةِ بالمريضِ والعَطفِ على الفقيرِ، وغير ذلك مِن مَظاهِر الدِّينِ الإسلامي التعبدية والأخلاقية والسلوكية، والتي لا يمكن أن تتَحقَّق بالشكلِ الذي يريده الله إلا عن طريق الضَّميرِ الجمعي، وتَعاضُدِ المجتمع عليه.
وهذه الأفعال الخيرية الظاهرة تحفظ للمجتمع رمزيته، وتبقي له نوعًا مِن العبودية والاتصال بالله، والتفرد الذي يميزه عن غيره مِن المجتمعات غير المسلمة. كما أنَّها تُسهم ضِمنيًا في انحسار دعوات الضَّلالِ وأهلها، وتُشعِرُ مُرتكِبَ الذَّنبِ بتَأنِيبِ الضَّميرِ والتفكِيرِ أَلفَّ مَرَّةٍ قَبلَ أن يخطو نحو الحرامِ؛ فإن أبى إلا أن يفعل ففي خفاء. وهذا بحد ذاته اعترافٌ بالخطأ. والتصرفات -سواءَ كانت خيراً أو شراً- مُعديةٌ، والإنسان بطبعه يتأثرُ بمن حوله، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. ولهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((واصبِر نَفسَكَ معَ الذِينَ يَدعُونَ رَبَّهم بالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُرِيدُون وَجهَه))، وقال: ((ولَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا..))، الكهف: 28. ولهذا –أيضًا- قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (أنا بَرِيءٌ من كُلِّ مُسلِمٍ يُقِيمُ بين أَظهُرِ المشرِكِين)[2]. إذ العيش بلا ضرورة في بلاد الكفر والمنكر فيه ما فيه من ضَعفِ المؤمن، بسبب تواطُئِ تلك المجتمعات على فعل المحرمات، فيكون المؤمِن مَحلَ الضَّعفِ، بل ربما سَارَ على طَرِيقَتهم في أُمُورٍ كَثِيرةِ، لأنَّ مَظاهِرَ المجتمع المؤمن مُختَفيَةٌ فتُلقِي هذه الحالُ بظِلالها على أَفرادِ المؤمنين.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (لم تَظهَر الفَاحِشةُ في قَومٍ قَطًّ حتى يُعلِنُوا بها إلا فَشَا فيهم الطَّاعون والأَوجَاعُ التي لم تكن في أسلَافِهم الذين مَضوا…)[3]. فقد جَعَلَ الإعلانَ بالفِعلِ هو الحَدَّ الفَاصِلَ الذي بتوفره يَستَحِقُّ المجتمعُ أن يَعُمَّه العذابُ، وتَنتَشِرُ فيه آثار العقوبة. لماذا؟ لأن ارتكاب الواحد مِن الناسِ للمعصيةِ إنَّما هو دَليلٌ على بَشريَّتِه النَّاقِصَةِ، التي تُذنِبُ يومًا فتَهوي بصَاحِبِها، ثم لا تَلبَثُ أن تَعُودَ مُستَغفِرةً نَادِمَةً فتَرتَقِي إلى المحلِ الأسمى الذي جعله الله لابن آدم دون غيره مِن المخلوقات؛ لكن أن يتواطأَ بَنُو آدمَ -في زمانٍ ما ومكانٍ ما- على فِعلٍ مُحرَّمٍ بلا نكِيرٍ، مجَاهِرين به ومعلنين له، على سَبِيلِ الدَّوامِ والانتِظامِ، فهذا يعني الهُبوطُ مِن المحلِّ الرَّفيعِ الذي جعله الله لابن آدمَ إلى دركاتِ عَالمِ الحيوان. وهذا أَمرٌ يَستَدعي غَضَبَ اللهِ ومَقتَه وسَخَطَه وعَذابَه.
لذا اعتنى الشَّارعُ عِنايةً عَظيمةً بتحقيق المظهرِ الممَيِّزِ والمتفَرِّدِ للمجتمع المسلم، الخاضعِ لله وحده؛ حتى جَعَلَ تَواطُؤَ طَائِفةٍ مِن الناسِ على تَركِ وَاجِبٍ أو فِعلِ مُحرَّمٍ سَبَبًا يُجيزُ قِتَالهم، فكانت بُعُوثُ السَّرايا إذا أرَادَت أن تصبِّحَ أَهلَ قَريَةٍ نَظروا فإن سَمِعوا صُوتَ آذَانٍ كَفُّوا أو مَضَوا فيما بُعثوا لأَجلِه. وفي قوله تعالى: ((ويَكونُ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ)) من المعاني ما يُشير إلى مركزية أن تكون كَلِمَةُ الله هي العُليا، وشرعه هو الأعلى والظاهر في حياة المجتمع وتصرفاته، وما سواه مما يُضَادُه هو الأدنى، أو يكون خفية، ولا يظهر إلا على استحياء، أو بمظهر المعترف بالخطأ النادم عليه.
والأدلة على عناية الشريعة بأن يبقى المنكرُ حَبِيسَ فَاعِله، وأن لا يظهر على الملأ مِن الأفراد -فضلًا عن الاجتماع عليه، أكثرُ مِن أن تُحصَرَ. ومَن تَأمَّلَ فيما سَبَقَ عَرَفَ بما لا شك فيه أنَّ السَّماحَ بتشريعِ المنكرِ وتَوطِينِه وإظهَارِه والتَّواطُئ عليه بدعوى أنَّ ذلك المنكر أصبح في متناول الجميع حُجَّة ضَعِيفَة ساقطة.
—————————————————
[1] صحيح مسلم، الرقم: 1709.
[2] رواه أبو داود في سننه، رقم: 2645، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. وقال مقبل الوادعي عنه: رجاله رجال الصحيح، ولكن الترمذي وأبا داود قالوا رواه جماعة مرسلا. انظر: احاديث معلة، للوادعي، دار الآثار، اليمن، ط2/1421هـ، الرقم: 105.
[3] رواه ابن ماجه، رقم: 3262، وحسنه الألباني.