ليالي البخاري في الدوحة.. وصل الماضي بالحاضر وإحياء نماذجِ علماء السلف
بقلم أحمد مولود أكاه
تشكل الحلقات التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر للشيخ محمد الحسن ولد الددو للتعليق على صحيح البخاري بمسجد محمد بن عبد الوهاب إحدى واجهات التميز الثقافي والعلمي لمدينة الدوحة، وإحدى الوِجهات الجاذبة لمحبي المعارف الإسلامية والعربية والمنشغلين بها، للنهَل من رواء الأصول والفروع وقضاء آناءٍ من الوقت في بيت بَهيج من بيوت الله تتردد بين جنباته علوم الوحيَين، في إحياء وبعث للحلقات العلمية التي مثلت أيقونة في التاريخ العلمي للحضارة الإسلامية، حيث لم يزل فطاحلة علماء الإسلام مرتبطين بالحلقات ومجالس التدريس التي اشتهرت لهم، الأمر الذي يتلاقى به الحاضر مع الماضي في العاصمة القطرية وقد خصصت كرسيا عصريا للشيخ الذي يرى فيه الجمهور صورة ابن حجر والذهبي وابن تيمية، وهو يعلّم ويبث معارفه التي اشتهر بها في الأقطار، كما أن بث الحلقات بشكل مباشر عبر النت يستقطب العديدين من هواة علوم الشريعة.
تدْخل المسجد بعد انتهاء صلاة المغرب وبدء الإلقاء، والتعليق الجاري يمكن ألا يترك لك فرصة لتحية المسجد بشكل لا تنشغل فيه بغيرها، ثم بعد ركعتين تتجوّز فيهما تقبل بسمعك ويمكنك أن تستذكر ما قد مرّ بك في بعض محاضرات الشيخ:
لمَعِي الهُمامِ اللَّوذعيِ الألمعِي …. سِرْ واجمعنَّ علومَه في مَجمَع
وكُنِ الوِعاءَ لما يفوه مَعِي، به …. لا تُفلتنَّكَ كِلْمةٌ من فِي مَعِي
بل تتخيل أنك المقصود بالأبيات، فذلك الصوت الذي كنتَ معه عبر الهاتف قبل الحلقة كأنَّ الأبيات معبّرة عنه في هذا المَقام.. ها أنت مطرِق في الحلقة، تطالع بَهَاء إنصات الحضور إلى يزيد، وتقيّد في سجل هاتفك ما شاء الله أن تقيّده من مضمون الدرس، ولحكايات الأدب لديك طعم خاص، الوقتُ منتصفُ ما بين المغرب والعشاء وصوتُ الشيخ من جهة المحراب قد أخذ عليك نفسك وهو ينشد:
طال ليلي وبتّ كالمجنونِ واعترتني الهمومِ بالماطرونِ
صاحِ حَيَّا الإله حيا ودارا عند أصلِ القناة من جيرونِ
عن يساري إذا خرجتُ من البا ب وإن كنتُ داخلا فيميني
كما تسافر مع حكايته:
كليني لِهَمِّ يا أميمة ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكب إلى أن يصل إلى:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تُخِيِّرْن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب
يتواصل طيّ المسافة في شرح أحاديث الصحيح، ونحن على مشارف إكمال المائتي حديث الأولى، وتحديدا عند حديث التيامن في تنعّله.. أو لبس النعال السَّبتية، والشيخ ينشد في أشعار الحذاء:
حذاني بعدما خذمت نعالي ربيّة إنه نعم الخليل
مقابلتين من صلوي مشب من الثيران وصفهما جميل
ولأبيات الشواهد والمعاني تطعيم خاص حيث تتخلل الدرس، فتسمع في مقامٍ:
عرفنا جعفرا وبني أبيه وأكرنا زعانف آخرين
وفي آخر
وفي ثالث، أبيات:
…غضبان ممتلئاً عليّ إهابُه إني وربّك سخطه يرضيني
أما المعلومات والدرر التي ترتسم في سجل التدوين بالهاتف فإنك عند مراجعتها واجد في مجال اللغة أنّ كأن تأتي بمعنى لأن كما في قول المنقري:
أراح فريق جيرتك الجمالا كأنهم يريدون ارتحالا..
وتوضح لك الفرق بين تَرب وأترَب وهو أن ترب معناها افتقر وأترب استغنى، وهذا نموذج من قائمة تواكب أحاديث الصحيح وأساليبها. وفي مجال الفقه وأصوله تشكل العديد من التعبيرات أيقونات ضمن سجل المحفوظات لديك وكان الشيخ قد أوضح متعلقاتها المعرفية (واقعات الأعيان لا عموم لها، الشك في المانع لا أثر له، الأصل بقاء ما كان على ما كان، الجزم في النقليات متعذر) وبتعدد المجالات يمكنك تصنيف المحتوى الذي يوافيك بطريقة تجمع بين علوم الأقدمين ورؤى العصر ومتغيراته وقضاياه المعرفية حيث تفهم مثلا عند حديث معالجة جرح النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، بالرمادِ أن مادة الكربون هي السر في فاعلية المعالجة بالرماد، ونحو ذلك.
(المصدر: مدونات الجزيرة)