مقالاتمقالات مختارة

لوازم دعويّة حول طبيعة الداعية وهُويّته وعُدّته (2/ 4)

بقلم خباب الحمد

تحدثنا في الحلقة السابقة عن اللوازم الدعوية التي يجدر بالداعية العالِم الربّاني أن يُعدّ نفسه لها وتكون له الهيئة في البيئة التي يعيش بها، فيكون ربّاني الطريقةـ سُنّي المنهج، قُدوة في تطبيق مفاهيمه لسلوكيات مُشاهدة يُراقب الله فيها ويقتدي به الخلق من خلالها، ونستكمل اليوم شيئاً من هذه اللوازم…

اللازمة الرابعة: مصابرة الداعية:

من يريد سلوك طريق الدعوة سيدرك أنّ طريقها صعب كؤود؛ فهو أشدّ على النفس من الانزواء عن الناس وقراءة الساعات الطوال؛ فالدعوة بين الناس فيها معاناة فكرية وجسدية، وتعرض للقيل والقال، وتلقي الأذى بأنواع عدّة.

إنّ حرص الداعية إلى الله على هداية الخلق؛ من الصبر العظيم على طاعة الله، إذ لا يدع جانباً من عامة الناس لم يتعرض لتأثيره الدعوي؛ إلاّ قام نحوه وحاول تغيير فكر المدعو؛ كما قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14].

وكما قال تعالى على لسان نوح عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5-9].

فيهتبل الداعية كل الفرص حرصاً منه على دعوة الآخرين؛ ويغشى المناطق المستهدفة بالدعوة، وله بالأنبياء والرسل قدوة حسنة، وبفعل الصالحين كذلك ما يُفيد، فهذا الإمام سفيان الثوري: والله لو لم يأتوني – يقصد أهل الحديث – لأتيتهم في بيوتهم(1).

إنّ مما يستفيده الداعية تأديباً لنفسه، وقهراً لهواه، صبره على إيذاء الناس؛ فهو قضاء الله في مواجهة المعرضين عن الدين ممن يدعوهم إليه؛ فالله تعالى يقول: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
ذلك أنّ من المعلوم بداهة أنّ كلّ من تصدّر للناس ترصّد له الناس، وقد قيل:

مَن لابَس النَّاس لم يَسْلم من الناس *** حتّى يُعضّ بأَنْيَابٍ وأَضْرَاس(2)

وقد أمر الله رسوله بالصبر في دعوته فقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
وأخبرنا أنّنا سنواجه من بعضنا فتناً فحثّ على الصبر وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].

وإنّ ما يجري على الدعاة من إيذاء، وبهتان، واتّهام؛ قد جرى على رسول الله صلى لله عليه وسلم، فقد روت أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ!! وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ!! فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ؛ فَمَا شِئْتَ؛ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ!! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)(3).

فالصبر على مشاق الناس وتحمّل أذاهم؛ مما ينبغي أن يستبطنه الداعية في قلبه إذ هو وطنه الدعوي؛ زد إلى ذلك ألاّ ينظر لمن أعرض عن دعوته بروح الانتقام والتشفي، حتّى وإن أوذي؛ بل بالإشفاق والرحمة على أولئك القوم؛ لأنّهم يجهلون معنى يستحليه الداعية؛ فيما يفتقدونه هم؛ وهي منزلة سامقة لا يبلغها كل أحد؛ إلاّ أهل الإيمان والعمل فيتواصون بالحق والصبر كما حكت سورة العصر في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].

ويتواصون يتواصون بالصبر الملازم للمرحمة؛ بعيداً عن تحقيق الانتقام؛ كما جاءت الآية في سورة البلد بقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:17-18].

ومن تأمّل سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجد مواقف عديدة في ذلك؛ حتّى أنّه وقت شدّة الحرب يوم أحد حين شُجّ وجهه الشريف شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة(4).

لهذا نجد تصاريف رحمته بارزة في دعوته عليه الصلاة والسلام مع ملاقاته الإيذاءات من عدوه؛ فكان موقفه يُظهر رحمته بهم بالدعاء لهم بالهداية؛ طبقاً لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

والآية جاءت بأسلوب الحصر والقصر؛ فكانت بعثته بكل تكاليفها رحمة، وقوله تعالى: {للعالمين} متعلق بقوله: {رحمة} والعالمين لفظ يستغرقه جميع العالم وكل ما يصدق عليه كونهم من العالمين.

إنّ من أمثل جوانب المنهج الدعوي لكافّة الأنبياء والمرسلين في إصلاحهم وتغييرهم للواقع؛ أنّهم لا يلتفتون إلى الإساءات المُغرضة التي قام بها الأعداء في غالب الأحوال، إذا كان مؤدّاه رجاء دخول فئة منهم إلى الإسلام، ولا يحملون الأحقاد على الآخرين؛ طالما أنّ هنالك فرصاً جديدة للدعوة تكون سبيلاً لدخول من أعرض في هذا الدين، فلا يتجبرون أو يتكبرون على الآخرين، ورحم الله الإمام ابن تيمية إذ يقول: ” أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر وأعظمهم ظلما وعدوانا وأذل الناس إذا قهر وأعظمهم جزعا ووهنا ; كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقاتلة من أصناف الناس.

والمؤمن إن قدر عدل وأحسن وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم – التي أولها بانت سعاد إلخ – في صفة المؤمنين:

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم *** يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر”(5).

إنّ كثيراً من المنحرفين عن طريق الدين يقومون بتشويه الدعاة والإساءات المغرضة لهم، والافتراءات والتهم الكاذبة؛ فعندما يعجزون عن إظهار ما يُدنّس شرف الدعاة؛ ولا يجدون نقيصة يستغلُّونها لتشويههم؛ يقومون بالافتراء عليهم بتلفيق الأكاذيب ونسج الشبهات نحوهم؛ وتشويههم؛ ويصل بهم الحال في الإفتراء عليهم حتى فيما يُحدثه الله من أفعال في الطبيعة؛ إذ يربطونها بالدعاة؛ وأنّهم سبب المصائب، ومن شدّة تشاؤمهم من دعوة الرسل؛ جعلهم أيّ بلاء يُصيبهم بسبب وجود الرسل؛ وليس بسبب إعراضهم؛ كما قالوا: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18].

منذ القِدم كانت طريقتهم كما قال عز وجل في موطن آخر: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} فما من نقيصة أو صفة سيئة أو حدث مسّهم بسوء؛ إلاّ وألصقوه بأهل العلم الداعين إلى الحق ممن لا يُعلم عنهم إلاّ توضيح مفاهيم الإيمان، وبيان حقيقة الأمانة، ونشر أسس الأمن بين المجتمعات؛ وهذا الابتلاء الواقع على الدعاة من جنس ابتلاء الأنبياء بالافتراء عليهم بمزاعم عارية عن الصحّة بزعم أن النبي كاذب أو ساحر أو مجنون أو شاعر، فالصبر هو الملاذ في هذه الابتلاءات، ويوماً ما سيظهر الكاذب من الصادق، وليتعزّى من أُصيب بذلك بما أصيب به الأنبياء، فالعلماء ورثة الأنبياء كما صحّ الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكنّ الإشكال فيمن يصدق التهم المغرضة والمعلبة من بعض المخالفين لهم حسداً وبغياً.

سُنّة الله في الدعاة أن يكونوا في كثير من مراحلهم عُرضة للإساءة؛ والموفق من يعرف الاستعانة بالله في كل خطواته، ويعلم كيف يمشي بين حبّات المطر؛ ويتجاوز الشوك ويتقيه، ولا يجعل للظالم عليه يداً؛ لكي لا يُحقق أمنيته بتشويهٍ ينال شرف دعوته.

على الدعاة ألاّ يتضعضعوا أو يقنطوا من تغيير الواقع الذي يعيشونه؛ بسبب التشويهات التي تحاول النيل منهم؛ فليس المرض الجسدي هو الذي يهزُّ الإنسان؛ بل الوهن الذاتي، وإنّ المُتحّطم نفسياً لن يُعطي بناءً للنفس بل سيعتاد تحطيم الآخرين؛ والأمّة لن ترجو منه إسعافاً نفسياً، ولا إنقاذاً روحياً؛ لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه؛ والدعاة ليسوا كذلك.

اللازمة الخامسة: رسوخيّة الداعية

لزوم الدعاة ثغورهم، وصمودهم على مناهجهم رُغم كل التحديات، مما يُعزّز تمكينهم وتثبيت برامجهم في الواقع؛ فمن ثبت نبت، ومن صبر انتصر.

لقد أثبتت الأحداث أن أمتنا الإسلامية لن تنهض إن قفز كل من كان مهتماً بثغره على ثغر آخر ليس من بابته؛ فقد يُفسد فيه أكثر مِما يُصلح، وكم أدرك كل مُبصر في حقل العمل الإسلامي أن تأخذنا العاطفة للعمل ثمَّ نترك العمل لعاطفة مُقبلة على عمل آخر؛ لضعف الصبر على الإنجاز، وغياب الرؤية السليمة؛ وضعف التخطيط الاستراتيجي، وهبوب أشرعة العاطفة آخذة من لا يُبصر الأمور إلى حيث العاصفة!!

لقد عرَّف العلماء الثَّغْر بأنَّه: الموضع يُخافُ هجومُ العدُوِّ منه، فيقف المقاتلون في سبيل الله رباطاً في صدّ الهجمات وهو ثغر شريف؛ غير أنّننا نرى أعداء الإسلام قد اختلفت مداخلهم وهجماتهم، فالمفترض أنَّ كل مسلم مقتدر المحافظة على ثغره الذي فُتِحَ عليه فيه؛ ما دامت جهوده تصب في صالح الأمة وكلها من قبيل الجهاد العام؛ وقد قال الإمام الأَوْزَاعِيَّ: كَانَ يُقَالُ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الإِسْلامِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلا يُؤْتَى الإِسْلامُ مِنْ ثَغْرَتِهِ فَلْيَفْعَلْ “(6).

ومن أهمّ ثغور الإسلام التي ينبغي على الدعاة أن يثبتوا عليها: نشر العلم وجهاد الدعوة وحسن التربية؛ وإصلاح أفكار الناس؛ ومقاومة الأفكار الجاهلية التي تتسرب دخاخينها داخل مجتمعاتنا الإسلاميَّة وتجد لها القابليَّة لاستنشاقها والدفاع عنها؛ وهي كلّها من ضروب الجهاد؛ ومن ظنَّ أن الجهاد مقتصر على جهاد الجبهة فقد جانب الصواب؛ فالجهاد معناه أشمل وأوسع؛ وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في الفترة المكية ولم يُفرض القتال بعد؛ بل جاءت الآيات بالكف عن القتال إذ ذاك؛ فكان جهاد الحجة والبيان بالقرآن والحجج ذوات البرهان.

إنّ من أكبر مشكلات العاملين للإسلام باختلاف الثغور: ضعف الصبر على الإنجاز، وإنَّ الرواحل المُهيَّأة لهذه المُهمِّات قليلة؛ وكثير من النفوس كليلة؛ تبدأ بالأعمال فما أن تشبَّ حتى تعتريها الأنفس الملولة!

ومن لزم ثغره؛ قام أمره؛ وثبته ركنه، ولا يحق لشخص لزم ثغراً أبدع فيه أن يتخلف عنه وهو أنفع له من غيره؛ وأخشى أن يكون من التولي، فليثبت المؤمن بما أنعم الله به عليه؛ ينجح دنيوياً ويفز ويفلح أخروياً، وآيات الله توصي وتحث على المجاهدة فليصطبر كل داعية لزم ثغراً؛ فالله تعالى يقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

وبيّن أنّ الأعداء سيحاولون هزّ القناعات وتغيير المفاهيم فقال: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
ونبّه على ضرورة لزوم كل منّا ثغراً ينصر به دينه في مواطن مختلفة فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.

يقول الطاهر بن عاشور: “فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلا حتى تقلص، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المدن التي فتحوها ووكلوا أمر الدولة إليهم”(7).

وقد ذكر السيد محمد رشيد رضا في تفسيره لهذه الآية موقفاً لطيفاً؛ فيقول: “كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري (المتصرف) فيها مصطفى باشا بابان من سروات الكرد، وكان من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية، وقد قال لي مرة في دارنا بالقلمون: لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من خدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ – يعرض بي – أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم وتلوت الآية، فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ودعا. وقد تعارضت الروايات المأثورة في هذه الآية فاختلفت الأقوال في تفسيرها، والحق فيها ما قلنا وعليه الجمهور”(8).

إنّ تحديد القضايا المتعلقة بفرضية العين؛ والقضايا المتعلقة بالواجب الكفائي، والنظر والتفحص في كل زاوية تحتاجها الأمّة وتغطية الثغور الشاغرة؛ لتحصل الكفاية التي أمر الله بها شرعاً وحثّ عليها وطلب قيام الناس بها؛ وأمور كهذه في كثير من الجوانب يقل الاهتمام بها؛ لقلّة إدراك كثير من الدعاة لأهميتها والحث عليها وهذا مُلِحٌّ في شؤون الحياة العمرانية، والوسائل التنموية، والتقدم الاقتصادي، والرخاء المدني، والدفاع عن حياض الدين وأقاليم المسلمين وتنمية القدرات والاستعدادات النفسية والبدنية وتهيئة الأمة للأخذ بزمام المبادرة ليكون لها ثٌقَلٌ عسكري وتوازن قوى وأساليب ردع تحمي نفسها وكفاءاتها به، وتشجيع على الابتكارات والاختراعات التي تتقدم بالأمة نحو طريق العزّة والكرامة والاستقلالية.

إنّه ثبات لا يَضيّعُ المراجعات، فليس إداً من القول أنّنا نعيش في عصر فيه تحولات فكرية، تعصف بكثير من الناس زمن السرعة والتسرُّع؛ وقد تنال بعض الدعاة شيئاً من ذلك؛ ولعل من أسبابها: مخالفة المرء للسائد المعروف، والبحث عن جديد غير مألوف، وعدم الصبر على الحق الذي هو معه؛ فيُريد أن يبحث عن شيء جديد، وحين نقرأ نفسية بعض المتحولين؛ نجد كثيراً منهم إن تأمّلنا في علاقاتهم مع صحبتهم للأصدقاء يكونون كثيري التقلّبات والتُغيّرات، ولهذا قال الأحنف بن قيس: (لَا إِخَاءَ لِمَلُولٍ)(9) فالملل يُفسد الأخّوة، وقلّما تدوم مودّة الملول، ومن كانت طبيعته النفسيّة ملولة، فقد يؤثّر في ثباته على قضايا دينيّة، فيُصاب بتقلّبات حادّة واضطرابات فكريّة؛ تجعله يبرز بطريقة منهجية جديدة بين كل فينة وأخرى، وهذا مما يؤثر على طريق الدعوة.!!

والداعية إن عرف يلزم، فالثبات على الطريق يقتضي منه الالتزام والإيمان التام أنّه هو الطريق الأسلم؛ وبهذا يحتاج دوماً أن يُذكّر نفسه به، ولتتكرر في مسامع أذنه، الأهداف، وليُعد النظر دائماً إلى بوصلته، وإن اتّهمه الناس بالتشبّث، والتمسّك الزائد؛ فهو في الحقيقة ذاق وعرف واغترف وسلك السكّة والتزم؛ لا أن يفجأ الناس في كل مرحلة بمنهجيّة جديدة صادمة، ثم يدعو الناس للإيمان بها؛ فإن اقتنعوا برأيه، ومرّ وقت مديد؛ تراه قد أتاهم بشيء جديد، فهو يتقلّب في فكره ويُريد من الناس أن تتقلّب معه!

هذا كلّه لا يُلغي ضرورة مراجعة النفس، والتأكد من المنهج السليم الذي ينبغي التزامه، ويُجري محاسبة نفسيّة للأفكار الخاطئة التي يجب قلعها من الذهن؛ وزرع ما يُقابلها من الأفكار الصحيحة، والتصورات والتصرفات التي كانت مؤثّرة في تقدم خطواته الدعوية.

روى ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين(10).

لا يمنع للمرء أن يُعيد النظر في أحواله وشؤونه؛ فالصحابة بعد أن أسلموا وطال بهم الأمد؛ عاتبهم الله وطلب منهم مزيداً من الخشوع، وأن يحذروا من قسوة القلب التي تطرأ بعد طول عمل؛ فليكن للداعية نصيب أن يضع لنفسه بين كل مرحلة وأخرى عمليّة رياح تغييريّة في فكره وممارساته وطبائع حياته؛ ما دامت لم تؤثر على أصول الإسلام وقطعياته وثوابته وعقيدته الأصيلة؛ فبعد كل مرحلة وأخرى؛ قد تتكلّس كثير من الأفكار، أو تتكدّس وتحدث جناية عظيمة على الممارسات التي تُصيبها الأمراض من البيئة المُحيطة بالكثير من الدّخن، وطبيعة الحياة تتقولب إلى أن يكون البشر عبارة عن آلة ميكانيكيّة يكدح فيها الجسد، بلا حياة للروح…..!

بمراجعة ذاتية لعقولنا، ومحاسبة نفسية لقلوبنا بأمانة وتجرُّد وصدق، نكتشف أنّ كثيراً من الآراء والمواقف تحتاج لمزيد من الثبات والإصرار؛ ولو حصل من جرّاء ذلك اختلاف بعض الناس مع الدعاة؛ ونكتشف كذلك أنّ بعض الآراء تحتاج لتغيير أو تطوير؛ لنمتلك الشجاعة للتصريح بها؛ ولا ضير أن يعتبرها بعضهم تراجعاً أو مراجعة أو رجوعاً، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والمهم أن يكون الرجوع لله وليس تلبية مآثم الهوى، وهذا ما لا يعرفه عن المرء نفسه إلاّ نفسه فحسب.

في جميع الأحوال سيجد الداعية أنه ينتعش من جديد ويقوم بتأهيل نفسه لدورة حقيقيّة حديثة، ليعظم تفاعله مع الحق والحقيقة، ومن هنا كانت العزلة الشرعية مدرسة للداعية ليحسن مراجعة ربه بإخلاص العمل؛ بل عدّ الصالحون السجن مدرسة للدعاة في الإيمان والتربية والثبات إن ابتلي به؛ فيفكّر بالأصوب والأفضل؛ ويُحدث لنفسه تغييراً يُرجعه إلى طريق الدعوة السليم لا أن يتراجع عنها.

وبِكلٍ فما لم تتطور الأفكار، وتتغير الآراء، فسنبقى منقرضين في التأثير؛ لأنّ العيش بدون تطور فكري في الحياة يؤخّر المرء عن رُتبة الاستنتاج التحليلي والإنتاج التطبيقي؛ وكلّما فكّر الداعية في آية: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فإنّه سيحسن عمله، لأنّه يستذكر معنى الوقوف بين يدي الله؛ وأنّه مسؤول عمّا عمله؛ كما قال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}[العلق:8] وقال تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93].

______________________________

1.    حلية الأولياء، الأصبهاني: (6 / 366)
2.    ديوان أبو العتاهية، ص174
3.    أخرجه البخاري في صحيحه: (3231) ومسلم في صحيحه: (1795).
4.    أخرجه مسلم صحيحه: (2599).
5.    مجموع الفتاوى لابن تيمية: (2 / 326-327).
6.    أخرجة المروزي في السنة: (1 / 13).
7.    التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور: (12 / 59).
8.    تفسير المنار، محمد رشيد رضا: (11/ 63).
9.    المروءة لابن المرزبان، رقم: (108).
10.    أخرجه مسلم في صحيحه: (3027).

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى