بقلم: د.نائلة الوعري
باحثة وكاتبة في التاريخ الحديث والمعاصر ــ رئيسة جمعية نساء من أجل القدس.
القدس مدينتي ومسقط رأسي، لا أطبع مع عدوي، ولا أقبل تأشيرة صهيونية مباشرة أو عن طريق تنسيق أمني مع السلطة الفلسطينية في رام الله، وأرفض أن يسمح لي بزيارة 6 ساعات للصلاة تحت مسمى زيارة دينية تريد إسرائيل بها أن ترسخ مفهوم الزيارة أو السياحة الدينية للأقصى للصلاة، وحسب الأوقات التي تحددها، إما في وقت صلاة الظهر والعصر وإما صلاة المغرب والعشاء وإما خلال شهر رمضان لصلاة التراويح، ومن ثم المغادرة قبل انتهاء وقت الزيارة، وبذلك أيضا ترسخ مفهوم أن لمستوطنيها أيضا حق في زيارة الأقصى والتجول في ساحاته وجلب السياح إلى أماكن تعتبرها بالدرجة الأولى يهودية.
ففي عرفهم وثقافاتهم أننا نأخذ تأشيرة زيارة منهم، يكونون هم أصحاب المكان والزمان وأن هذا اعتراف بشرعيتهم. إن مثل هذه الزيارة تعطي الكيان الصهيوني فرصة كبيرة يستغلها إعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا، ليقول للعالم كله «لماذا يطالب الفلسطينيون والمسلمون بالقدس، طالما أنهم يستطيعون زيارتها وقتما شاؤوا» وسيظهر العدو الصهيوني بمظهر المتسامح، وكلنا نعلم وندرك أن الكيان الصهيوني يجيد استغلال مثل هذه الفرص.
إن هذه الزيارة من شأنها أن تكسر وتزيل الحاجز النفسي لدى الشعوب العربية والإسلامية من التعامل مع الكيان الصهيوني، فما زلنا حتى اللحظة نرى رفضا شعبيا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وخاصة في البلاد التي تطبع رسميا مع ذلك الكيان مثل مصر. فلم نرَ وفودًا من الشعب المصري يذهبون إلى القدس مثلاً. لماذا الشعب الخليجي عموما والبحريني بالذات نشط في قبول فكرة الذهاب إلى القدس.
إن اعتبار زيارة مناطق السلطة الفلسطينية غير ذات أهمية، وهي مجرد مرور لأخذ تأشيرة فقط لزيارة القدس، رغم حرص السلطة على الاحتفاء بالزائرين الذين يأتون خصيصا بغرض الذهاب إلى القدس. ولكنهم يقيمون بمناطق السلطة ولا يستطيعون المبيت ولو ليلة واحدة في القدس. هل تكفي هذه السويعات لزيارة القدس.
فالقدس ليست فقط المسجد الأقصى وقبة الصخرة وباحات الحرم. القدس بمساجدها الأخرى ومآذنها بأبوابها التاريخية السبعة ومقابرها وزواياها وكنائسها وحماماتها الأثرية.. القدس بأضرحة أوليائها الصالحين وأسبلتها ومستشفياتها ومدارسها ومعاهد التعليم بها.
لا أزور القدس رغم أنني مقدسية أباً عن عاشر جد.. لا أزور القدس وهي محتلة، لأنني أرفض ألا أنام تحت سماء القدس وألا أشم رائحة ترابها ولا يلفحني هواؤها. القدس هي: كما قال صلاح الدين عندما سأله بليان بعد أن فتح القدس في عام 1187م ماذا تعني لك القدس فقال: «لا شيء» ثم رجع خطوة إلى الخلف وقال صلاح الدين: «كل شيء».. القدس عند صلاح الدين تعني: كل شي ويجب ان تعني لنا نحن العرب والمسلمين كل شيء وليس فقط ان يكون هدفنا زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، يحب ان نظل متمسكين بأمل تحرير القدس وإن كان ذلك مستحيلا في الوقت الحاضر ولكن حتى يتم تسوية سلمية ما!!! تعود فيها القدس محررة عاصمة لدولة فلسطين العربية.. لن أفكر في زيارة القدس يقولون لي ويسألونني: أليست الزيارة دعما كبيرا لصمود القدس وأهلها! ولا يجوز ترك القدس وحدها بيد اليهود؟!
تبدو هذه الحجة العاطفية مقنعة للعامة نظراً إلى سطحيتها وسهولة تسويقها وبروز بعض الجهات الفلسطينية المروجة لها وهي جهات تطبيعية معروفة تورطت في أكثر من التطبيع إلى حيث التنسيق الأمني، ويزعم هؤلاء أن القدس باتت وحيدة في مواجهة المحتل وأنها لا تجد من يناصرها في مواجهة التحديات الصهيونية الضخمة وأن حضورنا الدائم هناك يمنع المحتل من الاستفراد بالمدينة.
القدس لم تكن يوماً وحدها فالمقدسيون اليوم الذين يقطنون في محافظة القدس يزيد تعدادهم على ربع مليون، لكن المشكلة أنهم محرومون من الزيارة في مواسم كثيرة، بل إن الفلسطينيين في الضفة الغربية صارت الصلاة في القدس من أحلامهم التي يفعلون الكثير لجعلها حقيقة، وإذا كان من جهد يبذل هنا فهذا الجهد ينبغي أن يكون في توطين هؤلاء المقدسيين وتمكينهم من حماية الأقصى والرباط فيه، ولا يمكن لزيارة عابرة أن تقدم شيئاً يذكر في مواجهة الآلة الصهيونية اليومية التي تفعل الكثير كل دقيقة.
ولا يعني هذا أننا نعني الفلسطينيين والمقدسيين وحدهم بل إننا ندعو كل من يحمل جوازاً لدولة أجنبية غير عربية أو مسلمة تعترف بالكيان الصهيوني أن يذهب إلى المدينة ويشارك في فعاليات التضامن والنصرة بكل ما أوتي من قدرة، وندعو أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948 وفي أرض الجولان السوري المحتل أن ينصروا القدس بحضورهم، لأن هذا الحضور لا تستفيد دولة الكيان الصهيوني منه، بل إنه يكاد يكون مرفوضاً لديهم، فهم يريدون زيارات تخدم خططهم السياسية والاقتصادية والأمنية، لا زيارات تفتح المجال لمواجهات وصراعات، ويعملون على تهيئة الفلسطيني والعربي والمسلم ليقبل بالأمر الواقع ويعمل على نشر ثقافة القبول بالآخر، واعتباره المحطة الأولى والأهم لإنجاز مشروع التطبيع.
ومن خلال مشروع السياحة الدينية التي يعملون الآن عليها ويشجعونها اعتماد سياسة الاختراق للوصول إلى مراكز الحصانة الثقافية العربية المتمثلة في المؤسسات الدينية والثقافية.
والمشكلة اليوم ليست في أن نترك المحتل يفعل ما يشاء لأنه يفعل ما يشاء حقاً في القدس من دون رادع، وإنما المشكلة هي في عجزنا عن الردع حتى بكلمة موجعة مؤثرة، فهو يفعل ما يشاء ويعلن ذلك بوقاحة وتفصيلٍ، ويفتخر بذلك في كل مكان، ولو أننا تقصينا ما يعلنه المحتل من سياسات التهويد وأعمالها لأغنانا عن كثير من المشاهدات، فهذه اعترافاته المعلنة.
وبمعنى آخر، إن هذه الزيارات للوفود والأشخاص العاديين لا تحقق معنى النصرة ولا تزيد الأمر وضوحاً ولا تقدم وسيلة دعم للمرابطين الذين حموا الأقصى ودافعوا عن المدينة عشرات السنين أن أذهب إلى القدس وأدعي أنني بزيارتي للقدس أدعم صمود أهلها والمرابطين فيها، فهذا غير صحيح، لا أنا ولا أي وفد أو زائر عربي يذهب بغرض الصلاة فقط في المسجد الأقصى يستطيع أن يدعم أهل القدس ويتعرف على معاناتهم إذا لم يعش بينهم -ولو أيامًا- ويبيت معهم في الرباط في ساحات المسجد الاقصى ويأكل من طعامهم وينتظر خطر المداهمة ويتحدى العدو ويركض بسرعة الريح معهم من رصاص العدو المتوقع في كل لحظة، لا أنا ولا غيري ممن يذهبون كوفود داعمة يستطيعون أن يناموا ليلة واحدة في مدينة القدس ولا في فنادقها ويتجولوا في شوارعها ويشتروا من متاجرها إلا من يذهب بتأشيرة إسرائيلية عن طريق سفاراتها في الخارج.. من منا يريد الاصطفاف أمام سفارة العدو من أجل تأشيرة. أنا لن أفعلها حتى آخر يوم في عمري. وأيضاً لن أذهب بتنسيق أمني إسرائيلي – فلسطيني قد يوافق عليه العدو أو يرفض أو أتسلل تهريبا من رام الله إلى القدس كحرامي، وعندما يكتشف أمري يتم ترحيلي ولربما سجني. لن أفعل ذلك رغم أحقيتي بالذهاب قبل أي عربي رضي أن يذهب بهذه الطريقة، رغم كل المخاطر التي تحيط بهذه المجازفات.. القدس تحتاج إلى دعمنا لا شك، وهناك مئات الطرق لمساعدة أهل القدس.
ومن يود المساعدة في دعم القدس عملياً فهناك العديد من المؤسسات والهيئات في داخل فلسطين وخارجها وفي البحرين أيضا مما يستدل به على سبيل واضح ومضمون لدعم القدس من دون مزايدات سياسية.
كتبت هذه المقالة رداً على أسئلة كثيرة جاءتني من أصدقاء يسألونني عن شرعية زيارة القدس تحت الاحتلال إن كان يدعى تطبيعاً مع العدو أو أنه من باب الواجب الديني والوطني. شرعيا، أنا لا أفتي ولست مؤهلة لذلك، وقد أفتى من قبل علماء الدين الإسلامي والمسيحيون منذ زمن بعدم جواز زيارة القدس تحت الاحتلال، ولكن مؤخرا ومع محاولة التطبيع والتقارب والمصالحة أفتى علماء دين جدد بوجوب زيارة القدس وذهب منهم لزيارة القدس مثل الحبيب الجفري.
وقد أشفقت كثيراً عليه وهو يدافع عن زيارته للمسجد الأقصى في إحدى قنوات المنوعات الفضائية المشفرة، فقد كان بيانه بيانَ المحشور في الزاوية النادم على فعلته.. لن أذهب إلى القدس وأنا ابنة القدس إلا بعد تحريرها، ولن أكتفي إلا بأن أدفن تحت ترابها.
المصدر: أخبار الخليج.